آخر الأخبار
The news is by your side.

في وداع شجرتي الظليلة في زمن اليباس.. بقلم: سعود السنعوسي

 

“بو فهد شلونك؟”

أدريك تسمعني في وقتٍ لا أنصت فيه إلى صوتك. أدريك تفهمني وأنا أبحث عن فهمٍ لمعنى رحيلك على هذا النحو، وأنا الذي ما زلت أحتفظ بقصاصة ورق كنت قد شاهدتها على سطح مكتبك في الصالحية قبل سنوات سبع. قصاصة لا تحمل إلا تاريخ الثامن عشر من أكتوبر 2041. “ما هذه بوفهد؟!”. رفعت حاجبيك تضحك: “حلمت البارحة أنني أموت في هذا التاريخ”. ولشدة ما أصدقك، آمنتُ بحلمك مطمئنًا.

أهكذا يخونك قلبك الذي ما خان أحدًا قط؟ ألم نحتفل قبل خمس سنوات بإطفائك السيجارة الأخيرة كيلا يُنهك هذا القلب المنهك أكثر؟

بوفهد، قبل ثماني سنوات حلمت فيك تموت على خشبة مسرح، هل تذكر؟ كنا أنت وأنا وشخصٌ آخر لا أعرفه اسمه عيسى نمثل أدوارنا أمام جمهور غفير. حملناك، عيسى وأنا، بين أيدينا إلى مستشفى مبارك ولكنك فارقت الحياة عند البوابة. استيقظت أطعن كابوسي بمهاتفتك. “أبي أشوفك”، وأنا الذي لا يموت في أحلامي إلا من أحب. أجبتني كدأبك: “حياك”. عانقتك أفضي لك بتفاصيل كابوسي. أجبتني تُطمئن: “هذا بس لأنك تحبني”. أشرتَ إلى مخطوط “في حضرة العنقاء والخل الوفي”، تفسِّر وجود المسرح في كابوسي: “لأن الرواية تضمنت المنسي ابن أبيه في مسرح الخليج، ولأنك تفكر في روايتي “. ولما سألتك عن الشخص الثالث في الكابوس، أشرتَ إلى مخطوط ساق البامبو إلى يسارك: “هذا عيسى الطاروف”. ما كان له ليكون، وما كان لي أن أكون، لولا أنك كنت الجزء الفاعل في المشهد.

من الذي سوف يقبلني القبلة الثالثة كلما فرغت من كتابة رواية؟ أجيء بالمخطوط مطبوعًا، أعانقك، اقبلك اثنتين، تقرِّب خدَّك: “بوسة ثالثة عشان خلصت روايتك”.

بوفهد تذكر؟ كنتَ صحبة رفيقك الأثير، أبي مازن، في العراق. هاتفتني وقتَ كنتُ في أبوظبي أتحرى إعلان جائزة. لم تُطل المكالمة إذ اختصرت: “اِسمع.. عد بالجائزة”. أجبتك بأن ما حصدته يفوق الكفاية وأنني.. قاطعتني: “اِسمع.. عد بالجائزة”. ولما عدتُ، كنتُ في السيارة بين أمي وأبي اللذين حضَّرا حفلا في البيت يضم أهلي.. كل أهلي. ملتُ بجذعي أمرر رأسي بينهما في المقعدين الأماميين مثل طفل: “يُبه.. ودني الصالحية”. عدَّل والدي المرآة أمامي يشاهد وجهي: “ليش؟”. ابتسم يشجعني وقتما أجبته: “أبي أشوف إسماعيل”.

لم أنتظر وصول المصعد. ارتقيت السلالم أركض إلى مكتبك، وحقيبة السفر الصغيرة على كتفي ما زالت، مثل طفلٍ هاربٍ من مدرسة كئيبة. لم أجدك لحظتها، ولكن نظارتك الطبية كانت على سطح مكتبك. سألت العاملة سَبيتا عنك فأخبرتني أنك ذهبت لتأخذ شيئًا نسيته في سيارتك. وعند مدخل البناية العتيقة، مقابل مقبرة الصالحية، رفعتَ حاجبيك دهشةً من دون أن تفوه بكلمة إزاء وجودي المفاجئ في وقتي المشغول إلا عنك. ابتسمتُ أقول لك: “جئتك من المطار، ألـمِّك حتى يصير للجائزة معنى”. أربكتني حينما ابتعدت بصدرك عني تبحلق في وجهي وتُمسِّد ساعديك: “وقَّفت شعر جسمي يا سعود”، ثم باعدت بين ذراعيك تعانقني.

كنت تضحك قبل يومين فقط: “بوفهد صوتك متغير!”. تجيبني مهونًا: “شوية برد”. أذكرك: “بوفهد لا تنسى التطعيم؟”، كان أوانه وأنت الذي تكره نزلات البرد، تتلافاها بالتطعيم السنوي في مستشفى هادي. ضحكت كثيرًا: “موعد التطعيم بعد يومين والبرد أصابني اليوم!”. لم تكن نزلة برد، ولم تكن أنت. أفضيت لإقبال العثيمين قبل يومين وهي تسألك عن مزاجك، يومَ لمحت طيف حزن يبدو نشازًا في ملامحك الباسمة: “ما في شي يونِّس.. لا محليا ولا إقليميا ولا عالميا”. وقبل ذلك، حين تخلفت عن زيارتك لما يقارب الشهر، أرسلت لي رسالة تحمل صورة لطائريّ بوم خشبيين، وأسفل الصورة كتبتَ: “بانتظارك”. تدريني أحب طائر البوم، وأدريكَ تحب الأفيال، وقد عقدنا ما يشبه اتفاقًا ضمنيًا أن أهديك فيلًا وتهديني بومة بعد عودتنا من أسفارنا. أفضيتَ لي يومها في غمرة ما يشبه حزنًا لا يشبهك: “لن أكتب”.

ألهذا سارعت بالرحيل؟ ماذا عن قرائك؟ ماذا عن أحبابك بوفهد؟ وماذا عن طيور البوم في مكتبي والأفيال في مكتبك وبيتك؟ ماذا عني أنا؟ أنا المريض بالفقد، أنا القلق حتى ساعة أكون في حضرتك أبدِّد سعادة اللحظة قلِقًا أفكر في يوم الرحيل. وها أنا اليوم في ساعة رحيلك أبدِّدُ حزنها باجترار ساعات ابتساماتي معك.

أجلس الآن وراء مكتبي، أمام “الركن الإسماعيلي” الذي تعرف. أجزاؤك التي تحيط مكنة خياطة جدتي؛ بورتريه، نسخة عن صورة التقطها لك يوسف خليفة، عملت منها نسختين لكلينا في أحد أسفاري، ومجسمٍ صنعه طارق هاشم لوجهك الأحب، وإطارٍ يضم الصفحة الأولى من رواية “في حضرة العنقاء والخل الوفي” مكتوبة بقلمك الرصاص قبل أن تعتزله وتمضي بكتابة رواياتك على الكمبيوتر، وثلاثة من طيور البوم، أحدها في قلادة نزعتها ذات يوم، صديقتك وأستاذتي، ليلى العثمان من جيدها وقالت: “لك”، والآخرين كانا هدية السفر الأخير يوم أرسلت لي: “بانتظارك”.

هل تصدِّق بو فهد؟ لعلي أصدق أنك رحلت لو أنك هاتفتني: “في أمان الله أيها الجميل.. قررت أموت”، مثل كل الأفعال المجنونة التي ترتكبها ولا تسأل أحدًا، وقتَ تجيبني في كل مرَّة تُخرس عَتَبي: “بكيفي!”. ولكنك لم تصرح، ولأنك لم تفعل، فإني سوف أنتظرك تبدد كابوسي: “هذا بس لأنك تحبني”. أنت لم تجرح أحدًا في حياتك، ويؤلمك إن فعلت من دون قصد، وكنت دائمًا ما تتصل تبرر ما لم يكن خطأً: “البارحة ما نمت.. وحياتك سعود، ضميري أنبني حينما قسوت عليك”. فلم هذه القسوة اليوم إسماعيل؟

حينما استيقظت على خبر رحيلك، أمسكت بهاتفي على السرير أهاتف بكرك أسامة: “أبي أشوفه” ولم أسأله عن صحة الخبر. لملم أسامة كلماته غصبًا: “تعال البيت قبل لا توصل سيارة الإسعاف”. لا أدري كيف قطعت الطريق إلى شارع المثنى. ضباب الدمع في عيني وغترتي ملقاة على المقعد إلى جواري كما لو أني أحمل لباسي كفنًا. أقود سيارتي مضيقًا عيني أحاول أن أبصر الطريق وقد نسيت نظارتي الطبية في البيت. أدوس مكبس الوقود بنعل الحمَّام كما لو أني أهشمُ رأس الموت. بين أكيد وأمنية كاذبة كنت في ممر بيتك أتحرى تكذيب خبرٍ في وجوه أحبتك. وجه أسامة وعناقه لم يتركا لي فسحة أمل. لم ينطق ابنك فهد بكلمة، ولكن قبضته المطبقة على كفي قالت كل شيء حين قادني إلى مقعدٍ في غرفة نومك أمام فراشك. التفت في الممر إلى لوحتك الأثيرة، لوحة البحريني عبدلله يوسف “خطوة في الحلم”، ولكن خطوتي العابرة عتبة غرفتك لم تكن خطوة في حلم أبدًا. أي حزنٍ نبيل رافق رحيلك يا أنت؟ أي صمت داهم بيتك؛ الناس ولوحات الجدار والشجيرات في أُصصها الحزينة. كنت بين أحبتك، أبنائك ورفيق دربك أبي مازن. كنت أتوق لعناقٍ أخير ولكنك كنت مستلقٍ على يمينك في وضعٍ جنيني كما لو كنت تعانق نفسك التي غصَّت بمحبيك. أطبقت قبضتي على كتفك على سبيل عناق متاح. وأطلتُ قبلتي على رأسك تحت لحافٍ جبنتُ أن أرفعه. وكنت أنصتُ داخل رأسي، في صمت الحاضرين، إلى أغنية لحَّنها كوكب حمزة، وصغت أنت كلماتها:

يا صاحبي خلِّني/ يا صاحبي خلِّنا/ أدريك شايل تعب/ وأدريك حاير بنا/ والفرح، آه يالفرح/ والحزن يومه بسنة/ يا صاحبي خلِّني/ يا صاحبي.. خلِّنا.

خدشتُ هدوءك أدري، سامحني، لحظة بكيتُ وأبكيت. فأنا لا أجيد شيئًا في حضرتك إلا أن أكون ولدك وتلميذك وصديقك الهارب من صيوف الحياة الزائفة وقيظ الأيام الحزينة، أتذرى فيك شجرةً ظليلة حانية تمنحُ ولا تطلب إلا أن نكون سالمين.

فكن سالما في قلوبنا..
كن أبديًا في قلب سعود..

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.