آخر الأخبار
The news is by your side.

فعلا مناضل أي كلام … بقلم: جعفر عباس

فعلا مناضل أي كلام … بقلم: جعفر عباس

قضيت في سجون ديكتاتورية نميري 8 أشهر وكان هناك من يعتبرني مناضلا ومع هذا لم يكن من نصيبي حتى لقب ناشط الذي صار مجانيا هذه الأيام، مما يعني ان أي شخص مهما كانت مساهمته في ثورة ديسمبر 2018 ولم يفز بمسمى ناشط يعتبر “خاملا”.

ونضالي في السجن يبدأ بوضعي في زنزانة في قسم الغربيات الجديدة في سجن كوبر ومعي قصرية مع فتح باب الزنزانة كل صباح لتفريغ القصرية، وهذا مشهد لم يعد موجودا حتى في مستشفى الدايات، ثم امتلأت الزنازين تدريجيا وصاروا يتركون أبوابها مفتوحة وكنا نقضي الوقت في لعب الورق والشطرنج الذي كنا نصنع قطعه من الصابون، وبعد أسابيع توالت الافراجات عن زملائي حتى كان يوم لم يبق فيه معي في ذلك القسم سوى قبطان سفينة مصري ضبطوه وهم يهرب سبائك ذهب واتهموه بتمويل المعارضة، وانقلب القبطان علي وصار كلما جاء عساكر السجن للتمام او توزيع الطعام، يدعو بصوت عال: اللهم انصر نميري على الشيوعيين والانصار والاخوان المسلمين والبعثيين والناصريين والفرس والهندوس، فقد كان المسكين يحاول ان يثبت لهم انه ليس معارضا ويحسب ان العساكر سيبلغون نميري بانه يؤيده.

ذات صباح مر امام الحوش صديقي خالد الكد وكان محتجزا في مستشفى السجن الملاصق للزنازين التي كنت محبوسا فيها وقلت له إنني لو بقيت مع صاحبنا القبطان يا قاتل يا مقتول، فقال لي انه سيرتب لتهريبي الى المستشفى مساء بشرط ان أبلغ عن حالة صحية حرجة، وفي الساعة المتفق عليها دخلت الزنزانة وقمت بتذويب حبوب فيتامين بي الحمراء في قليل من الماء ورششت الماء الملون على قميصي وجانب من وجهي وخرجت مترنحا فأصيب القبطان بالهلع وصاح في الديدبان الذي يمشي اعلى السور بأنني أعاني من نزيف حاد وجاء ممرض المستشفى ومعه عسكريان واقتادوني الى المستشفى مسنودا على أكتافهم.

في مستشفى السجن أتاني النزلاء بكوب عصير قريب فروت ثم بكبدة نصف استواء وأكلت كما أشعب ونمت، وبعد منتصف الليل ماسورة وانفتحت: أصبت بإسهال حاد واتضح انه ناجم عن تسمم بالكبدة، وقضيت ثلاثة أيام في المستشفى مريضا جد، جد، وبعد التعافي حولوني الى الزنازين الشرقية وهي نفس الزنازين التي حبسوا فيها البشير فور اعتقاله أول مرة.

كانت زنازين القسم الجديد واسعة وبها عشرات المعتقلين ونمنا في ساعة متأخرة من الليل وقرابة الفجر سمعت صراخا وأنينا متواصلا فأيقظت زميلي في الزنزانة لينهض ونبحث عن مصدر الصراخ فصرخ في وجهي: انخمد نوم.. وشرح لي ان زنزانتنا ملاصقة لزنازين الإعدام وان الشخص الذي يصرخ سيتم إعدامه بعد ساعة او ساعتين، فقلت له: وكيف تنام يا عديم الإحساس وبالقرب منك مشروع جنازة، ولكنه كان قد نام “جنازة”.

بعد أيام قليلة تم نقلي الى السرايا اكبر اقسام سجن كوبر وهي مبنى فخم من طابقين به عدة عنابر ومسرح ومسجد ويضم مئات المعتقلين من كل المشارب السياسية ما عدا الإسلاميين ومن بينهم حسن الترابي الذين كانوا في اقسام خاصة، وكانت قيادة المعتقل عند الشيوعيين بحكم انهم “أغلبية”، ولأنهم “متلقين حجج” فقد قرروا دخول المعتقلين في اضراب عن الطعام ما لم يتم تسليمنا مواد الطبخ نيئة لنتولى طبخها بانفسنا، وفي اليوم الثاني من الاضراب كنت قد دخلت في شبه غيبوبة ووجدت نفسي متوسدا كيسا صلبا وتحسست الكيس بإدخال يدي فيه ثم لحست إصبعي ووجدت الطعم لذيذا فخمشت كمية من تلك المادة ووضعتها في فمي: كان كيس سكر واحسست كأنني أكلت خروفا محشيا بالحمام، ونهضت مشجعا زملائي على الصمود وساخرا من المتجرسين من الصيام.

وكان بقسم السرايا خيمة يقيم بها بعض شباب المعتقلين واستدعوني كخبير لصنع الدكاي بالتمر (وليس الشربوت) وانتزعنا زيرا من ازيار القسم ودفناه في الأرض وصببنا فيه التمر والماء، واحكمنا غطاءه وبعد نحو ثلاثة أيام انتظرنا حتى نام عواجيز المعتقل وشربنا الدكاي حتى أصبنا بالتنبلة ونمنا وأيقظنا الحرس فجرا للتمام، ويقضي بان يجلس المعتقلون في صفوف، كل صف من خمسة اشخاص، وفجأة بدانا نحن جماعة الدكاي في الهرولة الى دورة المياه على نحو مريب بسبب تفشي الاسهال الوبائي بيننا، والعساكر في حيرة.

ثم سبحان الله في عصر ذلك اليوم نلت الافراج من المعتقل، وبعدها نحو ساعتين بلغنا انه حدثت كشة وتم اكتشاف الزير المدفون أبو دكاي، وحمله العساكر وطافوا به اقسام السجن وهم يقولون: شوفوا المناضلين بتاعين المريسة، وتم حبس من كانوا يقيمون في الخيمة المشبوهة في الحسب الانفرادي في الزنازين البحرية الموبوءة بالفئران، وبصراحة وبعد استرجاع وقائع اعتقالي اقتنعت بأنني مناضل أي كلام.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.