آخر الأخبار
The news is by your side.

عندما يسرق الفرح عنوة … بقلم: يحيى فضل الله 

عندما يسرق الفرح عنوة … بقلم: يحيى فضل الله 

حين وقفت بزاوية الطريق كنت مصرا على محادثة الناس، صمت مدة، جهزت فيها صوتي ثم اخترت مكانا قريبا تمر به السابلة وأخذت نفسا عميقا ثم هتفت:

ــ (تسقط الأشياء اللزجة!!).

التفت اليَّ احدهم وخلع نظارته عن عينيه ونظر الى شزرا كأنني قد سببت أباه، وقذفني آخر بقشرة موزة كان قد انتهى لتوه من التهامها. عندها عرفت ان لصوتي قبحا لا اعرفه، ولكني لم ايأس. حاولت ان اعطي صوتي بعد جماليا، ذهبت من مكاني الى اقرب مقهى، تناولت كوبا من الشاي ورجعت وفي اعماقي نفس الحروف تريد مني ان ينصت الناس اليها.

وقفت بمكاني القديم، اعطيت الطريق نظرة فاحصة ثم قلت بصوت مرتجف بين الهمس والصراخ:

ــ (ادفنوا الوهم!)

لم يعرني احد انتباها، استجمعت حبالي الصوتية وأضفت اليها إشارات من يدي ونظرة حازمة من عيوني وهتفت:

ــ (تسقط الأشياء اللزجة!!)

اقترب مني احدهم وتفحصني جيدا ثم صفق بيديه تعجبا من تصرفي وذهب مانحا إياي مجموعة من اللفتات، قلت لنفسي:

ـــ(يجب ان تبحث لك عن زاوية اخرى في هذا الطريق.)

وأحسست ان الدافع الذي جعلني اقول للناس ما بنفسي من كلمات هو الفرح. نعم، كنت فرحا بحبها وتحسست صورتها في جيبي وكأنني اتحسس ملامحها وسمعت صوتها يقول لي:

ـــ (متى تعود؟)

اخرجت الصورة من جيبي، ونظرت إليها بعمق، مع السرعة، كأنني اخاف ان يراها احد ويعشقها معي، قابلني احدهم في طريقي كان مترنحا من سكر به، سلم عليَّ ثم سألني ان كنت اعرف (عبدالصمد) وعندما اجبته بالنفي صفعني ووصفني بالجبن، وعرفت ان كل ما يحدث ما هو إلا مؤامرة لسلب هذا الفرح مني، الفرح الذي حرك الكلمات في نفسي وأخرجها لأناس لا ينصتون.

كنت لا ازال فرحا عندما وصلت الى زاوية الطريق الأخرى ووقفت في انسب مكان يجعلني اتحدث الى الناس، ورفعت جميع شعاراتي لكنهم لا ينصتون ومن ينصت يؤول حديثي الى اموره الشخصية. احترت في امري: ـــ هل كان السبب قبح صوتي؟

وإن كان كذلك ما معنى ذلك القول:

ـــ ان في القبح جمالا؟

ام كان السبب ان الناس لا يعرفون مفرداتي؟، فكرت في ان ارتدي مفردات جديدة، ولكن فرحي كان يصر على مفرداته القديمة، وكان عليَّ ان اصمت حتى يقتنع فرحي بمفرداتي الجديدة، بعدها صحت قائلا:

ــ (يا (حموري).. الكشة ضروري!)

عندئذ ابتسم لي احدهم واقترب مني وحياني معبرا عن انتمائه الوثيق لي، وتجهم آخر واشتد النقاش بينهما، وأنا بينهما مندهش لما حدث. وبعد فترة وجيزة اصبحت بين مجموعة من الناس مختلفة الأشكال والوظائف، واشتد النقاش اكثر حتى ان احدهم صفع الآخر وعندها شعرت بأنني مهدد بهروب الفرح وقررت ان ارحل بعيدا للبحث عن طريق اقول فيه ما اريد دون ان يصبح لحديثي معركة. كان فرحي عظيما لأني عرفت ما يجب ان اقوله للناس، وقفت بعيدا عن حلقة النقاش التي تحولت الى حلبة ملاكمة، وقفت منتظرا عربة وكنت متعجلا للرحيل قبل ان تسول لي نفسي التي يحركها فرحي ان اقول شيئاً من مفرداتي الجديدة وأشرت للبوكس.. وقف وركبت.

كان جاري عن اليمين يقرأ في جريدة، حاولت ان اقرأ معه لكنه كان يقرأ في صفحة الإعلانات، انتظرت ان يقلب الصفحة لكنه لم يفعل، وحين مللت الانتظار نظرت الى بقية الركاب، كانت هناك عينان تنظران اليَّ باهتمام حتى شككت في مظهري وتحول نظري الى جاري عن اليسار، كان يبدو غارقاً في تفكيره، تحسست الصورة في جيبي، وسمعتها تقول:

ـــ (متى تعود؟)

نظرت امامي فإذا بالعينين تبتسمان لي، وكأنني ذبت خجلا وانكسرت نظراتي.. بدأ (الكمساري) يجمع النقود، ادخلت يدي في جيبي وشعرت بالحرج لأنني املك (شلن) فقط وعليَّ ان ابحث عن قرشين وقلت في نفسي:

ـــ (يجب ان تتصرف)

همست الى جاري على اليمين:

ــ (بالله عندك قرشين فكة؟)

ويبدو انه لم يسمعني فرفعت صوتي اكثر فنظر اليَّ وكأنه لم يرني وعاد الى قراءته مما جعل فضولي يتحرك لأعرف ما يقرأ ولكنني وجدته لا زال في صفحة الإعلانات وزادت حيرتي ولكزت بكوعي جاري على اليسار هامسا:

ــ (بالله عندك قرشين فكة؟)

وجاءني صوته حازما:

ــ (لا ابدا..)

ولم يكن هناك سبيل الى بقية الركاب لأن الطريق اليهم يمر بذات العينين.

ادخل جاري على اليمين يده في جيبه بعد ان طبق الجريدة وأخرج (طرادة)، وناولها الكمساري قائلا:

ــ (نفرين.)

قلت لنفسي وأنا ارجع الشلن لجيبي:

ـــ(يا له من رجل كريم.)

ناوله الكمساري بقية النقود سائلاً:

ــ (معاك منو؟)

وجهزت انا شكري في جلسة خاصة.. رد جاري بعد ان فتح الجريدة:

ــ(معاي حنان).

عندها اخرجت شلني من جيبي وأخرجت من اعماقي حيرتي لعيوني وأنا اسمع الكمساري يقول:

ــ(البت دي؟ دفعت.)

قال جاري وعيناه مشبعتان بمعنى غريب:

ــ (لا مش هي.. هي ما موجودة هنا.)

وتحولت كل النظرات اليه، وقال الكمساري:

ــ (طيب وين؟.)

قال جاري بعد ان تنفس بعمق وأشار الى قلبه:

ــ (هنا.. ارجوك شيل بتاع نفرين وبس!)

ضحك احدهم بعمق ليضحك البقية فصرخ فيهم جاري:

ــ(انا اتنين مش واحد يا مغفلين..)

تحول الضحك الى صمت حزين وعندما مد الى الكمساري يده كدت اقول له:

ـــ (اجعلني حنان)

ولكني ناولته الشلن هامسا:

ــ (ما عندي فكة.)

نظر إليّ غاضبا وابتسمت انا.

توقفت العربة لتنزل ذات العينين ومعها احد الركاب ويركب آخرون ونظرت الى جاري صاحب (حنان) كان يبتسم، وعندما ابتسمت تجهم، خفت ونزلت سريعا بعد ان اوقفت العربة.. ورغم ذلك لا زلت فرحا ولا زالت في اعماقي كلمات يجب ان اقولها للناس. كنت متجولا ابحث عن مكان اطل منه على الناس لأقول مهما كان القبح في صوتي وبالرغم من ان الناس لا ينصتون الا لمفردات معينة ،كما عرفت مؤخرا.. وفي طريقي انحنيت لألتقط سيجارة مشتعلة لم تصل بعد منتصفها وتلذذت بها وعندما وصلت الى شجرة كانت تطل على طريق يكثر فيه مرور الناس والعربات، كانت السيجارة قد انتهت.

وقفت تحت الشجرة، كانت مصفرة الأوراق وبدأت اجهز نفسي لأقول، وجاءت اليَّ طفلة رثة الثياب وفي نظراتها جوع، مدت اليَّ يدها تسألني الحياة، هربت منها لأني كنت حريصا على فرحي، هربت الى طرف الشارع الآخر.. حاولت الطفلة اللحاق بي ولكنها اصبحت دما على الطريق وأصبح الطريق جسما لهذا الدم، ولا زالت عيناها تطلبان الحياة.

نزل السائق وتجمهر الناس، التفت حولي وقرأت لافتة مكتوبا عليها:

ـــ (قاعة الصداقة تقدم عرضا خاصة بمناسبة عام الطفل الدولي، يبدأ العرض في السادسة).

انسللت من بين الناس وهربت راكضا اتحسس الصورة وأسمع صوتها يقول:

ـــ(متى تعود؟)

وصرخت وكان صوتي هذه المرة جميلا:

ـــ (سرق مني الفرح.. سرق عنوة).

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.