آخر الأخبار
The news is by your side.

سلام المسارات المختلقة فى جوبا … الخلفيات والدوافع

سلام المسارات المختلقة فى جوبا … الخلفيات والدوافع

بقلم: يوسف حسين

اختلق مخططى مفاوضات السلام التى تجرى فى جوبا بين الحكومة الانتقالية وبين الجبهة الثورية ، ثلاث مسارات لمناطق يعرف جميع السودانيين بأنه لا جيوش ولا حروب فيها واغلبها لم يشهد قتالا منذ الثورة المهدية ، ماعدا بعض العمليات المحصورة فى بعض اجزاء شرق السودان فى تسعينيات القرن الماضى ، لكن وبصورة غامضة أصبح لسكان الوسط والشرق والشمال ممثلين وحركات ثورية مسلحة تجلس على طاولة التفاوض فى جوبا وتفاوض باسمهم الحكومة الانتقالية على اقتسام الثورة والسلطة وبقية البنود ، رغم ان تلك الاقاليم الخالية من التواجد العسكرى لغير الجيش الحكومى ،تزخر بتواجد نشط وواسع للاحزاب السياسية السودانية ولجان المقاومة وكافة اشكال التنظيمات المدنية التى شاركت جميعها فى الاطاحة بالنظام السابق سلميا فى ثورة ديسمبر المجيدة.
والى هذا اليوم وبعد شهور من انطلاق المفاوضات والوصول في بعض هذه المسارات (الوسط والشرق) لاتفاقيات سلام ، فإن الاغلبية الساحقة من عامة المواطنين فى هذه الاقاليم لم يسمعوا بهذه الحركات الثورية، ولا يعرفون اسماء الذين يفاوضون نيابه عنهم في جوبا،بل ان فريق التفاوض في مسار الشرق، مكون بالكامل من فلول النظام الساقط ، بضعة قياديين من المؤتمر الوطني ،وبضعة افراد عرف عنهم عملهم فى جهاز الأمن .

لمعرفة اسباب و خلفيات هذه الصورة الغرائبية لتركيبة المفاوضات ،التى قد تبدو للوهلة الاولى انها نتاج لشئ من السبهللية وعدم النضج السياسي من جانب الحكومة الانتقالية ، أو انها انتهازية و(تكبير كوم) من قبل الجبهة الثورية ينبغى الانطلاق من قاعدتين اساسيتين:

القاعدة الاولى : ان عسكر الحكومة الانتقالية وبذهنية عسكرية مهووسة بالحصول على مكاسب جديدة لمعركتهم الدائمة ضد الحكم المدنى ، وبتامين انفسهم من دفع استحقاقات فظائع الابادة والانتهاكات التى ارتكبوها خلال حروب النظام فى دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق ، او بعد سقوط النظام كمجزرة فض الاعتصام ، قد استولوا بوضع اليد على عملية السلام الجارية حاليا فى جوبا ، بعيدا عن ما خطته الوثيقة الدستورية بشأن مسئولية مجلس الوزراء عن تحقيق السلام، ودافعهم لذلك انهم يرون فى المفاوضات فرصة ثمينة للحصول للجبهة الثورية كحليف سياسى جديد، يمتلك كل المؤهلات وفق حساباتهم القاصرة لتجنيبهم المحاسبة فى قضايا الابادة الانتهاكات باعتبار انها ولى “الدم السياسى ” لتلك الابادات ، كما ان طبيعة حركات الكفاح المسلح الاشبه بالطبيعة العسكرية تجعل منهم حلفاء طبيعيين للعسكر فى وجه المكون المدنى خاصة انها تفتقر الى اليات العمل المدنى السلمى وربما ايضا الى الشعبية فى مناطقها وهى اهم شروط التواجد والاستمرار فى المشهد الديمقراطى المأمول .

القاعدة الثانية: ان الجبهة الثورية التى منحت كل ذلك الزخم التفاوضي ،قد فقدت الجزء الأهم والأكبر من ثقلها السياسى و قوتها العسكرية واراضيهاالمحررة ، بالانشقاق الذى قاده عبد العزيز الحلو داخل الحركة الشعبية ش ، هذه الانشاق الذى بموجبه اصبح الحلو قائدا للحركة ولجيشها المتواجد فى كل المناطق التى بحوزة الحركة الشعبية فى جبال النوبة ، وهو ايضا يخوض بدوره مفاوضات باسم الحركة الشعبية ش مع الحكومة الانتقالية فى منبر منفصل عن منابر الجبهة الثورية ، وهنا توجد عدة ملاحظات ومفارقات جديرة بالاهتمام .
اولها ان مسار المفاوضات مع جناح الحلو لايحظى بالتقدير الذى يستحقه بناء على موازين القوى العسكرية والاراضي التى يسيطر عليها لا اعلاميا ولا من قبل المفاوضين العسكر. بينما يتم تضخيم حجم الجبهة الثورة باضافة تلك المسارات ،ويجرى ايضا تضخيم نتائج المفاوضات معها وتقديمها على اساس انها انجازات رئيسية لتحقيق السلام ،بينما الجميع يعلم ان جميع هذه الاتفاقيات ستكون بلا معنى دون الوصول لاتفاق مع جناح الحلو .

ثانيها ان مفاوضى الحركة الشعبية جناح عقار اضافة لمنطقة النيل الازرق ،لا زالوا يفاوضون ايضا باسم جبال النوبة ،رغم انه ليس لديهم نفوذ ولا وجود سياسى او عسكرى فى مناطق جبال النوبة الخاضعة لسيطرة جيش الحركة الشعبية ش بقيادة عبد العزيز الحلو . وهو ما يستدعى التساؤل عن كيف سيتم تطبيق اتفاق السلام المأمول بين الجبهة الثورية والحكومة فى جبال النوبة ، فى ظل سيطرة جناح الحلو علي مناطق وجود الحركة الشعبية.؟ لا احد فى الجبهة الثورية او الحكومة الانتقالية يملك اجابة على هذا السؤال ، تهربا من الحقيقة الصادمة التى تقول ان كل ما يتم التوقيع عليه بين عقار والحكومة الانتقالية ،سيظل حبيس اوراق الاتفاقيات ولا امكانية لتطبيقه على الارض الا ان تنازلت الحكومة السودانية عن الاراضى التى تتواجد فيها فى جبال النوبة ومنحتها لجناح عقار ، وهذا افتراض لايمت بصلة للمنطق لكن من يدرى .
ثالثها انه فى حالة الوصول الى اتفاق سلام فى المفاوضات المتعثرة بين جناح الحلو و الحكومة السودانية ، فسيكون جناح الحلو ، هو الطرف المسئول عن تطبيق الاتفاق على الارض التى يسيطر عليها ،ولا اعتقد انه سيدخل فى اى نوع من انواع الشراكة السياسية مع جناح مالك عقار لطبيعة وحجم الخلاف العميق بين الطرفين اذن ما جدوى المفاوضات مع جناح عقار حول جبال النوبة ؟
رابعا : ان الجبهة الثورية وهي فى اوج وحدتها وقوتها العسكرية والسياسية،ارتضت التفاوض مع نظام البشير فى مسارين فقط ،هما مسارى درفور والمنطقتين ، ووقعت على ذلك مع حلفائها من القوى السياسية الرئيسية المعارضة فى نداء برلين ، ثم وقعت فيما بعد على خارطة الطريق التى وضعتها الآلية الافريقية بشروط اكثر تساهلا مع النظام ، وقبل ذلك كله كانت الحركة الشعبية قد وقعت على اتفاق شراكة سياسية مع المؤتمر الوطنى ( عرف باسم اتفاقية نافع- عقار) وفى كل تلك الوثائق والمفاوضات ، لم تكن شروط العلمانية او تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية مطروحة على طاولة المفاوضات. بل ان بعض من زعماء الجبهة الثورية ونتيجة لاتفاقيات سلام سابقة نيفاشا وابوجا كانو شركاء فى حكومة الانقاذ وبرئاسة عمر البشير !!!
خامسا: وهى المفارقة المضحكة المبكية التى تمثلت في رفض مفاوضى الجبهة الثورية مشاركة قوى الحرية التغيير في المفاوضات ،رغم ان الجبهة الثورية ظلت مكونا رئيسيا من قوي نداء السودان وهو مكون رئيسى فى قوى الحرية والتغيير،وهذا الرفض موقف سياسي سيشرح المقال ابعاده الحقيقية لاحقا ، لكنه مبدئيا يعكس تناقضا كبيرا وانتهازية مريعة فى اتخاذ حلفاء حسب المكاسب اللحظية.

نعم هذه هى الخلفيات والمواقف ما قبل (التفاوضية) التى انطلق منها الطرفان فى مفاوضات سلام جوبا، فالعسكر استولوا على قرار التفاوض الحكومى ، وقبلوا بانشاء مسارات تفاوضية لحركات لاسلاح ولا مقاتلين ولا وجود فعلى لها على الارض ، ووقعوا مع بعضها وسيوقعوا معها جميعا اتفاقيات سلام تحصل بموجبها الجبهة الثورية على حصة اضخم من السلطة والقرار فى الفترة الانتقالية باعتبارها قوة سياسية ثائرة فى كل جغرافيا مسارات التفاوض الحقيقى منها كما فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق والمختلقة كمسارات الشرق والوسط والشمال ، وهى هدية عملت الجبهة الثورية للوصول اليها بالتحضير الجيد لاستغلال ارتباك ما بعد الثورة ، فانضجت قياداتها التى عركت التفاوض مع النظام ، وخبرت ميوعة مواقف المجتمع الدولى ،كل المساومات المطلوبة مع العسكر قبل انطلاق التفاوض (لقاء منى – حميدتى فى انجمينا ) ثم جهزت سيناريو المسارات الذى سارت على ضوئه المفاوضات والنتائج وفى المقابل كان رد ها جميل العسكر برفض مشاركة قوى الحرية والتغيير فى مفاوضات السلام ، وبالتاكيد هنالك تأكيد واتفاق على المقابل الاهم وهو التحالف مستقبلا مع العسكر اصحاب الاموال والشركات والذهب وسلطة ادارة الاجهزة النظامية ، كضامن وحارس لهذه الاتفاقيات الدسمة مقابل التعهد بالوصول لتسويات مقبولة فيما يخص الانتهاكات والابادة والجرائم ضد الانسانية فى كل من دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق ،وربما فى غيرها من مناطق .وفى هذا السياق ربما كانت الزيارة التى قام بها وفد الجبهة الثورية للخرطوم برئاسة رئيسها الهادى ادريس ، حيث التقى برئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وبعد اللقاء بالبرهان صرح رئيس الوفد الهادى ادريس انهم قدموا له تنويرا بسير المفاوضات فى جوبا!! وهى حجة مضحكة فالبرهان بحكم انه رئيس الطرف الثانى من المفاوضين، بالتأكيد على اضطلاعه على كل صغيرة وكبيرة تدور هنالك ،ربما كان الاجدى والاكثر احتراما ان يقولوا أنهم اتوا الى زعيم العسكر للاطئمنان الاخير على متانة حلفهم الجديد .

فى االمشهد الكامل تبدو قوي الحرية والتغيير مشغولة بكامل طاقتها حاليا بتوزيع تركة السلطة وهيكلة الدولة فى الخرطوم ، وربما بشكل خفى نسج تحالفاتها المستقبلية محليا واقليميا ودوليا ،ويبدو ان استبعادها كان مريحا  ،الذى قد لا تجد غضاضة بل ربما تؤيد توصل مفاوضات جوبا بين الجبهة الثورية والحكومة الانتقالية لما هو مرسوم لها من الطرفين .

قد يكون هذا التشريح صادما وقاسيا ومدميا وقد يحبط الكثيرون، لكن هذا هو الحصاد الطبيعي لسلسلة طويلة من التنازلات الكبيرة التى قُدمت للعسكر ،بدءا من الصلاحيات الواسعة التى منحت لهم في الوثيقة الدستورية والتى اعتادوا على تجاوزها بكل عنجهية والحصول بوضع اليد على ما لم تمنحه لهم من صلاحيات واجراءات لتكريس وجودهم فى السلطة ولعل ذهاب البرهان للقاء نتنياهو هو التجسيد الاوضح لهذا التجاوزات .

تلك العقليات الغارقة فى المساومات والمحاصصات، والتحالفات المرحلية القاصرة عن استيعاب الكوارث والالام العظيمة للحرب ،والعاجزة عن بناء مستقبل يسوده سلام مستدام ،محروس بالاستثمار الطويل الاجل فى الانسان والمعرفة والتنمية والحرية فى سودان ما بعد الثورة ، لن تفعل شيئا سوى اهدار هذه اللحظة الثورية التاريخية العظيمة لصناعة السلام الحقيقى الدائم ، وكل ما سياتون لن يكون للاسف سوى هدنة مؤقتة على قياس افقهم الحبيس ، سرعان ما تندلع بعدها حروبا اوسع انتشار واكثر كارثية.
ملحوظة:
بالمناسبة لا أعرف حتى الآن السبب الذي منع الجبهه الثورية من اختلاق مسار لشمال كردفان الأقرب للصراع في جبال النوبة.!!

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.