آخر الأخبار
The news is by your side.

دارفور…ضحايا الأرض المحروقة..! (2)

دارفور…ضحايا الأرض المحروقة..! (2)

شرق تشاد: شمائل النور
قبل غروب شمس الإثنين؛ الثاني من مارس، خرجنا من الخرطوم في طريقنا إلى دارفور براً، كنا مثقلين برهق أزمات صفوف الخبز، الوقود والمواصلات، وفي ظن كثيرين إنها أعلى مراتب المعاناة التي ليس بعدها إلا تلاشي الأمل. أن تقضي الساعات الطوال في انتظار خبز أو وقود أو حتى وسيلة مواصلات تقلك إلى مكان عملك أو تعيدك لمنزلك، لكن على بعد ما يقرب (2000) كلم غرباً باتجاه تشاد حيث معسكرات اللاجئين الذين فروا من ويلات حرب دارفور. عندها شاهدنا بأم أعيننا أن تلك الصفوف التي خلفناها وراء ظهورنا كانت أعلى مراتب الرفاهية.

الوقوف على أطلال الخراب.!

سيارات الكروزر “بفلو” قاهرة الصحراء، لا تئن من طي الكثبان الرملية التي تغطي الطريق، إصطفت أمام الفندق بمدينة الفاشر، لتقلنا إلى الطينة. في الموعد تماماً تحركنا من الفاشر وصولاً إلى كُتم المدينة المحصنة بجبالها وشامخة بنخيلها الذي يغطي مساحات كبيرة من وادي كتم، وعلى طول الطريق تتقلب جغرافيا الإقليم المأزوم بين رمل وطين وحجر، وبين وادي مثمر وأرض جدباء، الطريق تغطيه أشجار الهجليج، الحراز، الطندب وأشجار المخيط، والتي كانت ثمارها مصدر غذاء حينما ضربت البلاد موجة جفاف خلال سنوات سابقة، قطعنا ما يقرب من نصف المسافة، تناسينا قليلاً أحاديث الحرب والدمار وانغمسنا في جغرافيا المنطقة وتقلب التربة وتنوع الأشجار والحشائش وشح المياه، لكن مرافقنا الهادي المنّا أعادنا مقهورين إلى مربع حرق القرى والإبادة الجماعية، فجأة، أوقف السيارة في منطقة خالية غير مأهولة إلا بالحشائش والصخور الصغيرة، نزل مهرولاً باتجاه حجارة تراصت في شكل دائرتين كبيرتين، أشار إلينا أحد المرافقين أن نوقف السيارة ونترجل باتجاه الهادي، وقفنا ولحقنا به، اتجه الهادي صوب القِبلة، وصلى ركعتين وقرأ الفاتحة مراراً ثم انفجر دمعاً سخيناً، لكن الدموع غلبته، بكى. هذه الحجارة التي شكلت دائرتين هي قريته، مسحتها الحرب من على الأرض لم يبق منها إلا أطلال بالية، قرية “يي مرا” غادرها الهادي مطلع الألفينات ولما عاد إليها مع انفجار الحرب وجدها قطعة مدمرة لا بيت ولا أهل، والآن قادته الأقدار أن يمر بمسقط رأسه. لم يترك “الانتينوف” إلا دليلاً في قلب الهادي تعرف به على أطلال قريته، بكى بحرقة وصلى لأجل السلام ودعينا جميعاً ثم واصلنا المسير حتى طوينا “دار زغاوة”.
صراع حول الأرض أم تغيير ديموغرافي.!
ومأسآة الهادي هي ماساة كل ضحايا الحرب وحينما يتصاعد الحديث عن العودة إلى الديار تتصاعد معه قضية “الحواكير” التي تقف عقبة كؤود أمام عودة الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، وتعتلي “الحواكير” أعلى مطالب اللاجئين كشرط أساسي للعودة، وقضية “الحواكير” تبدو أكثر تعقيداً وأكبر من أن تعبر عنها اتفاقيات سلام، حينما يستعيد الضحايا مشاهد ما حدث خلال سنوات الحرب وكيف اضطروا تحت زخات الرصاص لترك الأرض والزرع والمرعى ليستقر فيها لاحقاً مستوطنون جدد. وعلى نحو لافت تكاد مطالب اللاجئين تتوحد بين المعسكرات، ولا يبدو أن ذلك يعود لقوة تنظيم سياسي يجعل هذه المطالب أولوية، بقدر ما أنها قضايا الضحايا الأكثر منطقية والتي لا تقبل التأجيل، قضية مثل العدالة لا تقبل مزاحاً وسط سكان المعسكرات، بل البعض يجعلها شرطاً قبل توفر الأمن، وقضية مثل الحواكير تتجاوز أهميتها قضية العدالة وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية إلى ما هو أكثر واقعية، فالرد يأتيك قاطعاً حينما تسأل عن إمكانية العودة “بدون حواكير نرجع كيف”
وشهدت دارفور على نحو خاص صراعاً متطاولاً حول ملكية الأرض، وقضية الأرض والانتماء التاريخي لمجموعات سكانية معينة تصاعدت خلال سنوات الحرب في دارفور والتي خلفت واقعاً معقداً حول “الحواكير” ومن نقاشاتنا مع اللاجئين حول هذه القضية بدا لنا أن السلام أكثر تعقيداً، لأن ما جرى ويجري في دارفور يطرح سؤالاً مقلقاً هل ما يحدث هو تغيير ديموغرافي؟ أكثر من كونه مجرد صراع حول ملكية الأرض.
المستوطنون الجدد.!
جلسنا مع عدد من اللاجئين للتداول حول هذه القضية وحول رؤيتهم لحلها مستقبلاً حتى يتسنى لهم العودة إلى أرض الوطن، لكن القضية أكبر ومن خلال جلسات نقاشنا معهم اتضح أن هناك مناطق تجاوزت تغيير التركيبة السكانية إلى تغيير الإسم. منطقة عدار الواقعة ضمن حدود محلية كبكابية بشمال دارفور، الآن إسمها الكوثر على سبيل المثال، ويتكاثف الحديث بقلق حول منطقة “زُرق” الواقعة جنوب وادي هور بنحو 40 كلم، وتشهد المنطقة عمليات إعمار ظاهرة بعد سيطرة قوات الدعم السريع وتنصيب جمعة دقلو عمدة لها، يقول من تحدثنا معهم في معسكر “ميلي” إن قوات الدعم السريع تقدم مسكناً و (10) آلاف جنيه مقابل الاستقرار في “زرق” الواقعة ضمن منطقة غنية بالنفط والمعادن ويُرجح أنها صالحة لزراعة القمح، وتتحدث المجموعات التي استوطنت في المنطقة عن إمكانية تعايش سلمي بين المكونات المختلفة وهو أمر يقابل ببعض سخرية ممن تقع ضمن “حواكيرهم”.

وباتجاه الشمال الشرقي من منطقة كتم، استوطنت مجموعات عربية في منطقة القبة، ومنطقة أبو جداد غرب أبو قمرة تسيطر عليها المجموعات العربية، ويعتبر هذا الشريط الحدودي وفقاً لمحدثينا أكبر مرعى في “دار زغاوة” في الحدود بين شمال وغرب دارفور، وتبدلت التركيبة السكانية بالكامل في بعض المناطق التي كانت مواطن تاريخية لقبائل الفور، المساليت والقمر. في طريق عودتنا من الطينة إلى الفاشر كان السائق الذي يرافقنا يحدثنا عن توطين مجموعات عربية من مالي قدمت إلى هنا قبل سنوات واستقرت.

والحديث عن “الحواكير” في المعسكرات يثير اهتمام الجميع، فالقضية قضية أرض سُلبت ولا ضمان يلوح في الأفق بشأن استردادها بعدما استقر فيها مستوطنون جدد بقوة السلاح، ويضع اللاجئون استرداد الحواكير وإعادة بناء الموارد شرطاً رئيسياً للعودة إلى الوطن بعد توفر الأمن، لكن المخاوف تتصاعد من تكرار المرارات خاصة أن المجموعات الجديدة التي استوطنت تحوذ على امتيازات القوة والسلاح.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.