آخر الأخبار
The news is by your side.

خليل عجب الدور خصوصية الانسان السوداني … بقلم: عبد الماجد محمد السيد

خليل عجب الدور خصوصية الانسان السوداني … بقلم: عبد الماجد محمد السيد

فارع القامة والكلمة … اسمر كتراب القضاروف (البادوب) .. يحبها حد الجنون … يصورها بالقلم والخيال الخصب كخصوبة ارضها .. يبكي مثل الطرفة ان حدثك عن ايامه الخوالي … ويضحك مثل الخرسان ان ارجز لك … (خليل شاعر بات … شبيه الوجه بالباتا.)..تماما كابي دلامة … بحر في اللغة وعلم العروض … يقرأ الشعر بايقاعه فتطرب … وينثر النثر باسجاعه فتعجب.

في كل شعره يحكي خليل عن القضارف عن ارضها .. انسانها.. افراحها .. احزانها.. ويكتب ويقرأ ويعلم… وقد ساعده انه معلم ان طاف القضارف اريافا وحضر واختزن ما رأي وماسمع فكتب اجمل الشعر بنفس فريد وتوقيع خاص.

وقف وهو المعلم مخاطبا بلاده والبلاد في قاموس محكية القضارف هي الارض الزراعية القريبة من القرية والصغيرة المساحة خاطبها يقول وكأنه يقرأ ما سيؤل اليه حال المزارعين :

ياجارة الصفار عز المال صبرا عسي تتحسن الاحوال

بالامس كنت سرابة واليوم من بعد الانيس جني عليك النال

اليس هذا توقيع خاص ومفردات يومية تكتسي بالحيوية يلتقطها من افواه المزارعين ومن قاموسهم الخاص ليلبسها ثوبا انيقا ويزينها لتجلس وكلها ثقة بين المفردات الفصيحة فلا تشعر بنشاز ولاتتعجب من وجود هكذا مفردة تتربع علي عرش القصيد ومع انك تطرب وتفهم ما يعني الا انك تجد نفسك باحثا عن شي ولا تدري ما هو لتكتمل القصيدة عندك وانت لا تزال تبحث … اتعرف عما تبحث .. انت تبحث عن نفسك داخل القصيدة فهو يتحدث عنك … انت السوداني الذي يبحث عن سودانويته ..عن خصوصيته التي لا يجدها الا عند خليل عجب الدور وخليل اوجدها عفو الخاطر بعيدا عن مدارس الشعر الاكاديمية التي اضرت بها المواد المصنوعة فقصائد الخليل بلا سماد ولا مواد (مسرطنة) للذوق والاحساس … طازجة كخيرات الخريف … انظر لكلمات كالصفار بتشديد الصاد والسراية والانيس والنال … الا تشعر بالاصالة والفخر وانت تقرأوها علي غيرك من متذوقة الشعر العربي من المحيط الي الخليج لتجد نفسك وانت تشرح مفرداتها تغوص في حديث عميق عن الزراعة في السودان وعن ثقافتها ومفرداتها وادبياتها واثرها في تشكيل الوجدان السوداني … الي هذه الفضاءات يسوقك الخليل والي هذه الرحابة يقودك يقول يصف المزارع :

ياساكن الكوخ الحقير مسربلا بالزمهرير تحوطك الاوحال

وشرابك الماء المرنق او طعامك من بني كربو الفطير تعوسه العمال

وهنا اراه يستفذ سودانويتك بل يجبرك علي ان تتعرف علي ثقافات اهل السودان اجمع ومفرداتهم لتفك طلاسم الحديث فالمفردات هنا مفردات اهل الصعيد والمامك بها يعني خروجك من اسر الجهة وضيقها الي اتساع الجهات وحريتها واراك ان فعلت ذلك فقد علمت غائبا عنك في بلادك الواسعة لتصل بعدها الي قناعة مفادها ان لا شي يجمع اهل السودان الا معرفة بعضهم لبعض ومعرفة الآخر هي البوابة لاي علاقة انسانية كانت.

لم احدثكم بعد عن خليل الذي لا يزال يتجمل شعرا … خليل معاشي تجاوز الثمانين … يتوكأ عصاه والعصا في غربة الدنيا رفيقة … هزل الجسم منه وضعف البصر… يمتلك ثروة ضخمة … لا يخاف عليها من السرقة فهي لا تنهب او تزور فقد ترك عليها توقيعه.

كرمته ولاية القضارف مرة في عهد البروفسر الامين دفع الله حينما جمع شيخ العرب الجميل البشير سهل الذي كان وزيرا للتربية حينها ديوانه وطبعه فكان الاحتفال الاول والاخير في عمر القضارف لتكريم مبدع … واذكر حينها انني انشدت قصيدة في ذلك اليوم علي ايقاع لاميته جارة الصفار تقول بعض ابياتها:

والمفردات الدارجات لها بكم بين الفصيح مهابة وجلال

فبدا(الكجيك) معطرا في شعركم والبود مشرقة بدت والنال

وحينما وصلت الي بيت يقول

خليلنا كنز فصونوا كنزكم وارعوه في كبر يطيب الحال

ناداني صائحا قل : ياليت لو كانت له عربية وثابة بنزينها مشعال … فضجت القاعة بالتصفيق والضحك

خليل يؤكد لنا ذاتيتنا وتفردنا في كتابة القصيدة العربية الفصيحة بما يدلل علي سودانويتنا من خلال المفردة العامية ايا كان مصدرها اللغوي والحضاري السوداني وهي تتبوأ مكانها من بيت الشعر في قصائده دون ان تشعر انت او المفردة بغربة وكأنما يريد ان يدلل لنا ان الثقافة الآفرو عربية هي التي تشكل الوجدان السوداني

وان قذف الشليل وغاب عنا ترانا كي نلم به نجول

سلوني عن شليل لوجهلتم شليلا واسمعوا لي ما اقول

شليل عظم شاة اوبعير سليب اللحم ابيض مستطيل

به نلهو طوال الليل حتي يكاد النجم يشمله الافول

نشاط مستمر في مساء ضياء البدر فيه له شمول

بهذه البساطة يصف الخليل شليل وهو كما قال عظم سليب اللحم وهي لعبة من موروث الثقافة العربية في السودان وقد علق بروفسر غبد الله الطيب قائلا : هي من شعر الاستاذ خليل السهل .. الحلو.. الدقيق الوصف لاحوال القرية السودانية… والخليل والحديث للبرفيسر عبدالله الطيب في ندوة له بهيئة الثقافة والفنون بالقضارف (ردها الله في عهد التغيير) قال يصف الخليل .. عرجت مع صحب كرام الي الصوفي الازرق ثم عدت ضيفا بها الي اهلنا المجاذيب ، وسمعت تلاوة القرآن من صغارهم بالمسجد ولقيت في مجلس ندوتهم العامرة الثامرة رجلا وسيما اخضر اللون علي وجهه خط المشيب وفي عينيه علي الكهولة بريق القلب الذكي النجيب .. والخاطر المشبوب اللبيب وذا هو الاستاذ خليل عجب الدور الذي انشدني :

اجبني ما اسم شي فيه كل تلوين حكي لون الكربش او لون الجبردين

بطئ المشي مقلته يحملقها اذا انفعلا ويحني ظهره في سرعة من بعدها اعتدلا

اذا ما ابصر الحشرات في الاعشاب و الطرق يمد لسانه لبصيدها في الحال كالبرق

وهذا ضرب من الشعر برعت فيه العرب وهو شعر( التسامر ) اي الالغاز التي تجعل من عقلك عاملا لا خاملا وقد انتهج فيه خليل نهجا سهلا غاية السهولة ممتنعا ايضا غاية الامتناع وانما يندع ويتدفق من صفاء السجية ووضوح الرؤية النفسية وهو في الابيات المذكورة يصف الحرباء … انتهي حديث العلامة عبدالله الطيب حول الخليل..

ونعود الي حيث وقفنا في حديثنا السابق من ان خليل هو ابرع من استخدم المحكية السودانية في الشعر الفصيح وصمم بالتالي اطارالبطاقة الشخصية للشعر السوداني الفصيح كما اشرنا سابقا دون ان يدخل واحدة من المدارس التي حاولت ان تصمم بطاقة الهوية للشعر السوداني عبرالاكاديميات والصناعة الشعرية التي افرزت محاولات يائسة وبائسة لم تستطع ان تخاطب الوجدان.. وتعال معي عزيزي القارئ الي هذه الرحلة حيث مستقر قبيلة البطاحين التي قصدها الخليل معلما لتلاميذها وشاهد معنا هذه الصور المتحركة والمفردات التي تستمع اليها كل يوم ولا تعرها انتباها وانظر كيف وظفها الخليل :

طفت القري وقري القضروف عامرة بخير شعب عديدات مآثره

مضي بنا كومر في الصبح ذوعجل ضخم اللساتك مشدود( شنابره )

هناك عرب كرام بالندي عرفوا الضيف من جودهم يرتاح خاطره

ابناء بطحان لا انسي مودتهم والحر للود اني سار ذاكره

لطلحة وعلي كم مداعبة وكم جليس لنا كنا نسامره

وابن الشفيع صريح لا غموض له في الطبع باطنه يحكيه ظاهره

وعمنا الفحل ما احلي فكاهته في مجلس (طلحة الصديق) ناظره

الي آخر القصيدة التي وصف فيها رحلته الي البطانة علي ظهر الكومر وهويتنقل مرورا بديار الشكرية الذين رحب به عمدتهم الذي ناظره بالقضارف:

وقد بدت ريرة السناب عالية من حولها العشب مخضرا مناظره

هناك عمدتها الشيخ المقيم بها شيخ العروبة في القضروف ناظره

قال احضروا الآن للاستاذ راحلة وهل هنالك منكم من يؤازره

وفي هذه القصيدة وجد (الشنبر) حظه في الشعر دون ان يشكل نشازا أو يصدر صوتا غريبا مع انه من المفردات الجديدة علي الحياة السودانية باعتبارها كلمة وافدة مع دخول السيارات للسودان خاصة اذا وقفنا علي( الكومر) الذي استغله الشاعر في رحلته مغ الاخذ في الاعتبار ان القصيدة كتبت عام حمسة واربعين بعد تسعمائة والف 1945 حينما تم نقل الشاعر الي منطقة ابي دليق ارض البطاحين معلما لابنائهم.

ويمضي بنا خليل في منحي آخر من شعره السوداني السلس ليصف لنا القرية السودانية في ايامها الجميلة قبل ان تغزوها جيوش العولمة بجحافلها التي اغرقت كل موروثنا الجمالي تماما (كالمغول ) وهم يغرقزن حضارة امة كاملة يقول الخليل:

هنالك نحن في الساحات ليلا تحف بنا العجائز والكهول

ترانا جالسين الي احاجي لها في الليل مجلسنا يطول

وحول ظهورنا اقعت كلاب كبار الحجم اعينهن حول

ثم يمضي من حالة السكون الي الحركة وبعد الانتهاء من الاصغاء الي الاحاجي ينتقل بنا الي ساحات اللهو تحت ضوء القمر:

اذا انتظمت بنا في الليل( شدت ) وضوء البدر منتشر جميل

سمعت صياحنا ورأيت قفزا غبارا تحت ارجلنا يجول

وما (شدت )سوي وثبات قوم همو لله درهمو فحول

توارثها من الاجداد جيل فأعقبه من الآباء جيل

لها في وسط قريتنا مكان يهب نسيمه الرطب العليل

به غنم الفريق تحوم صبحا مع الابقار تتبعها العجول

ونراه في ذات القصيدة يفرد مساخة واسعة للحديث عن الخريف وخيراته وقيم النفير والتكاتف في القرية منذ مراحل الزراعة الاولي وحتي الخصاد وكيف يعاون اهل القرية بعضهم بعضا ثم يصف في طرافة بعض خيرات موسم (الدرت) وهو موسم الحصاد فنراه يقول:

وتبش حامض قشرته ليلي بموساها وصحن فيه فول

لذيذ الطعم مسلوق بماء و(بابون) به ملح قليل

ويمضي في وصفه ليبدع في رسم صورة حسية ومعنوية (للعنكوليب) وهو قصب اقرب مايكون الي قصب السكر من حيث مذاقه وحب الاطفال والصبية له بل وحتي الكبار:

واخضر يانع في الطول غصن سنابله بها حب جميل

واوراق له متهدلات بها كالسيف خط مستطيل

تقشره فتمضغه فتلقي غصيرا ما له ابدا مثيل

فلا البيبسي النقي الذ منه ولا رطب به يزهو النخبل

وذو القمصان عيش الريف دوما علي الكانون تسمعه يقول

ططق متفجرا كمفرقعات تتش كالشحم لكن لا يسيل

وبعد عزيزي القارئ هذه بعض نمازج من اشعار خليل عجب الدور التي تشعرك اول ما تشعرك بانك من السودان بثقافته المتفردة وخصوصيته المستمدة من التداخل والمازج وحتي التباين الثقافي والاثني والذي هو في آخر المطاف الباني للشخصية السودانية المرتبطة تاريخا رغم مسافات الجغرافيا لذلك كانت القضارف التي ولد وترعرع فيها خليل عجب الدور الانموذج الامثل لقراءة وكتابة الواقع السوداني وذلك لوجود كل قبائل السودان التي تكاد تتساوي من حيث تأثيرها الثقافي ان كانت قراءة هذا التأثير بالكم ام بالكيف … وهذا لا يعني اننا طوينا ملف خليل عجب الدور فهذه هي القراءة الثانية تعقبها ثالثة نحاول من خلالها ان نقرأ ونري ملامح بعض المدن السودانية بعيون الخليل الفاحصة وقلمه القادر علي الرسم والتصوير ونقف معه ايضا علي اخوانياته وتصويره للحياة السودانية بافراحها واتراحها باسلوبه السهل الممتنع وسخريته الدافئة..
في آخر ايامه له الرحمة كان يحدثني عن قصائده التي كتبها في التأمل في الدنيا والكون واستخلاص الحكم من خلال تجاربه الحياتية التي اطلعني عليها وهي تنتظر من ينفض عنها الغبار ويدفع بها للناس وغيرها من مخطوطاته التي آخرها دراسة في العامية السودانية إن اطلع عليها الناس لأحسو بفخر انهم سودانيون … أما اشعاره الاخري وموضوعات الشعر التي تناولها الخليل فهذا حديث يطول ونعد بالمواصلة فيه بإذن الله.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.