آخر الأخبار
The news is by your side.

حواء المنصوري .. سيرةٌ في ذكر (المُختلف) !!!

حواء المنصوري .. سيرةٌ في ذكر (المُختلف) !!!

بقلم: برير بشير الشفيع

أغرب ما أمارسه، في هذه الحياة هو أن أعيش لأرصد، عند كلٍ من معارفي، ما هو مختلفٌ في حياته. فالحياة عندي هي روايةٌ يكتب فيها كل إنسانٍ صفحةً ولكن بمداده الخاص (المُختلف) من حيث السمت ونمط التفكير والأسلوب الخاص.
وخلاصة تجاربي هي أن لكل إنسان بصمةٌ وأثرٌ (طيّبٌ) يتركه في حياة غيره. ولكنه أثرٌ لا تستبين حروفه وتنكشف إلّا عندما يسوّدها مدادُ الفقدِ، ومرُّالغياب.

كتبت عن كثيرٍ ممن فارقونا إلى دار البقاء والخلود. ولكنني اليوم أكتب عن شخصيةٍ كانت يملأ سيرتها، ويعمّر حياتها ذلك (المختلف)!!..
أكتب لكم عن إمرأةٍ أمٍّ، ولكنها لم تلدني. وعن أختٍ لم تلدها لي أمي. وعن ابنةٍ لم ألدها من ظهري ..
أكتب لكم عن بعض حياتي التي عاشتها وكتبت فصولها أختي حواء المنصوري. وعايشتها أنا فيها. أيامٌ وسنين قضيتها في كنف علاقةٍ كنت أظنها من ثوابت هذا الوجود. فإذا بالموت يهدمها فيكشف في وجهي عورة هذه الحياة الفانية !!!..

ها أنا ذا أفيق للتوّ، وبعد أيامٍ، من صدمة الفقد كي أتجرع جرعةً أخرى من كأس اليُتم وشرابه العلقم المرير. شرابٌ جرّعتني الحياة جرعته الأولي قبل ثمانية وثلاثين عاماً بموت الوالدة وفقدها. وسقتني الحياة جرعته الثانية بموت شقيقتي جواهر، التي كانت ترعاني، قبل عشر سنوات !! ..
لم أكن قبلها أعرف أن لليُتم أبواباً يتسلل منها خلسةً إلى حياة الكهول، فيُظلِمها، كما يُظلِم حياة اليفّع الصغار!! ..
لقد يتّمتنا (أختنا حواء)، كما يتّمت (أمنا حواء) نسل البشر!!. وما اليُتمِ غير نقصٍ في طمأنينة العيش، وفقد المثال؟!!

في حياة أختنا حواء المنصوري، كان لكل إنسانٍ نصيب من دفء الحنان وصدق المشاعر، حتى ليظن الوالد إنها لم تُخلق إلّا لتكون ابنةً، ويظن الإبن إنها لم تخلق إلّا لتكون أُماً. ويظن الأخ والأخت إنها لم تُخلق إلّا لتكون أختاً، ويظن الجار والجارة إنها لم تُخلق إلّا لتكون جارةً.. والأغرب من كل ذلك، إنها توفي كلٍ من أؤلئك حقه من خصوصية التعامل، حتى يستغرق مكتفياً بنصيبه من وشيجة تلكم العلاقة الحانية !!!..

حواء عند أمها وأبيها هي الأم التي أنجباها أمّاً لأخواتها. لأنها قد حملت عنهما عبء وهمّ تربيتهّن ورعايتهّن، حتى لحظة فراقها المرير.
لقد أذاق فقد حواء شقيقاتها يُتماً فوق يُتمٍ، وفراقاً لا يطاق. يلحظه كل من أتاهنّ معزيّاً ..
أما حواء، بالنسبة لنا نحن نسابتها وأهل زوجها، فهي الزوجة التي تزوجها أخينا لتكون لنا أمّاً وأختاً وموئلاً نلتجأ إلى دارها، كلما فُجعنا بمصيبةٍ من مصائب الدنيا. فحواء هي أم الحياة وملاذها، عند الشدائد والمحن!!!

من خصائص (المختلف) في حياة أختنا حواء وشخصها، إنها هي الموسيقية التي لم ترقص في حياتها قط !! .. وهي العازفة التي لم أسمعها في حياتي وهي تدندن بلحنٍ أو أغنية. ولكأنها قد عزفت لتطرب غيرها وتسعده !!..

العزف عند حواء ليس حفلاً للمجون، وإنما هو دعوةٌ للإلتزام وترقية الحس والوجدان، وكسر رتابة الحياةِ والملل. والنغمة عند حواء هي خطوةٌ بين مقامات السلالم، لم تزلّ يوماً بعثرةٍ من نشاذٍ، ولم تخرج يوماً لتسقط وتدوزن لحناً لغناءٍ هابط أو نصٍّ مبتذل. فهي ماهرةٌ في إلتزام قواعد العزف وسكب شجيّ الألحان، وعميق المعاني، وإفشاء القيم ومحاسن الأخلاق!!! ..

من ملامح (المُختلف) في حياة حواء أن لكل علاقة لها مع أحبابها خيطٌ من نسيج الأزل!!! ..
ففي ذات يومٍ، اجتمعت في بيتي أسرة زوجتي. والدتها وأخواتها الكبار. وتقابلن في هذه المناسبة مع حواء ووالدتها. وقد تفاجئنا نحن الحضور بسلامٍ ومقابلة تعارفٍ بين والدة حواء ووالدة زوجتي !! .. كلٌ منهما تسالم الأخرى باندهاشٍ وشوق. فهنّ قد كنّ جارتان تتقاسم أسرتيهما بيتاً واحداً تستأجر كل مهما نصفه، في حي بانت بمدني، في ستينيات القرن الماضي!!!! وها هي الأقدار تكتب لهما قصة أخرى من الالتقاء على علاقة النسب والمصاهرة، بعد فراقٍ دام لأكثر من ثلاثين عاما أو يزيد !!!..

عندما نعيت أنا صديقتها ورفيقة دربها، الموسيقية مريم عثمان، قبل شهر من الآن، لم أكن لأعرف المرحومة مريم عن قربٍ. ولكن قد آلمني فقد أختنا حواء لها. وأنا أعرف أن من تعاشره حواء يستحق أن يُحزن عليه، ويُعنى.

أول يوم وقعت فيه عيني على الفقيدة مريم عثمان، هو يوم زفاف حواء لشقيقي عوض الله. فقد رأيت شابة يافعة من بنات أم درمان تهامس حواء في أذنها، وهي جالسة إلى عريسها في(الكوشة). وقد لفت إنتباهي شعر هذه الفتاة النظيف والمتبعثر فوق رأسها. المتدلّي فوق أكتافها، بلا انتظام أو احتزام !! …. هو نمطٌ من موضات تصفيف الشعر لبنات العاصمة، لم يألفها كثيرٌ من أهلي الذين ساروا من شبشة ليزفّوا إبنهم عوض الله لإحدى بنات أمدرمان.
لاحظت أن لهذه الفتاة وضع خاص عند حواء العروس. ولكنني قد استغربت أن المهامسة بينهن قد انتهت بضحك متواصل لحواء واستياء وامتعاضٍ بائن لصديقتها مريم !!..

بعد شهور من زواجها، حكت لنا حواء مضمون هذه الحكاية التي كانت أول قصة في حياتها الزوجية. فقد جاءت مريم لتشكو إحباطها من إمرأةٍ كانت تجلس خلفها وهي تقابل العروسين. همست مريم شاكيةً في أذن حواء: (شايفة، يا حوة المرة الكبيرة الصفرا القاعدة ديك؟!!). ردت لها حواء (أيوة. مالا؟) .. (المرة دي قالت لي هويْ يا (أم تِفّة) دي. زحي كدي ولا كدي خلينا النشوف العروس).. وكان إحباط مريم الذي أوشكت أن تبكي من فرطه، هو بسبب ما أنفقته من مالٍ ووقت في (الكوافير) لتظهر بهذه التسريحة في زواج أعزّ وأقرب صديقاتها!!!.. أما ضحك حواء المتواصل فهو لأنها عرفت أن المرأة التي أحبطت صديقتها مريم، ووصفت (تقليعة) شعرها بالتِّفة، هي الأخت الكبيرة للعريس!!!. وهي معلومة آثرت حواء ألّا تُخبر بها مريم، إلى يوم رحيلها هذا!!!..

العلاقة بين حواء ومريم بدأت في عام ١٩٨٢م عند دخولهنّ معاً مدرسة البلك الثانوية بنات. واستمرت هذه العلاقة حتى رحيل مريم قبل شهر (بالضبط) من وفاة رفيقتها حواء، التي حدثت قبل ثلاثة أيام من الآن. حيث كانتا زميلتان في معهد الموسيقى تخصصتا معاً في آلة البيانو. وهما الأستاذتان الأساسيتان في الشعبة.

من وحي التلازم والارتباط الوجداني، والتشابه بين حياة هاتين الصديقتين، فقد حكت مريم لزوجها أن كل ما يحدث لها يحدث لحواء. وكل ما يحدث لحواء يحدث لها. وهي قناعة مشتركة لديهما معا!!..
لذلك فعندما ظهر مرض السرطان وأصاب حواء، قبل ثلاث سنوات تقريباً، قالت مريم لزوجها إنها ستصاب أيضاً بهذا مرض!!. وقد صدقت. فهو ما أودى بحياتها فعلاً، قبل شهر واحد من وفاة صديقتها حواء به. مع اختلاف إن مريم لم تكتشف هذا المرض في جسدها، إلّا قبل عشرة أيامٍ فقط من وفاتها !!!
كذلك، وعندما فُجعت أختنا حواء بوفاة صديقتها مريم عثمان، أصرّت على أن تشيّعها إلى مثواها الأخير. وأن ترى جثمانها قبل أن يوارى الثرى. وقد فعلت. ووقفت على قبر صديقتها تدعو لها. ثم قالت لزوجها عوض الله.. (استعدّوا الآن، فقد قرب الأجل)… وما هي إلّا أيامٌ معدودات، حتى لحقت الصديقة بصديقتها، وبنفس الداء، وذات الطريقة.
وهكذا فقد بدأت حواء حياتها الزوجية بضحكة أهدتها لها مريم، فوق أريكة الزفاف. وختمت حياتها بعِبرةٍ وعَبرة ودمعة ذرفتها على قبر مريم، وأيقنت بأنه هو الفراق، والمصير المشترك حتماً !!!

قد كانت أختنا حواء كتاباً في سفر وجودنا في هذه الحياة، سأكتب وأقتبس لكم منه فصولاً وفصول، في مقبل الأيام، ما لم يطوي القدر صفحة العمر، لأقرأه معها في دار القرار، بإذنه تعالى ..

اللهّم أجعله كتاباً نحمله بيميننا، فإننا موقنون بصادق قولك: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)..

اللهم تقبّل حواء عندك في الصادقين المقربين. وأحشرها في ذمرة من تحب. وأوردها مورد من إصطفيت. وأرزقها صحبة المصطفى، عليه أفضل الصلاة والسلام …

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.