آخر الأخبار
The news is by your side.

تشيرنوبل الأخرى (2-2) … بقلم: أمجد هاشم

تشيرنوبل الأخرى (2-2)… بقلم أمجد هاشم

#المجتمع_المدني_السوداني

بعيداً عن مخاطر القاعدة العسكرية الروسية التي إستفضت في الجزء الأول من هذا المقال في تبيان آثارها البيئية و البشرية المحتملة إستناداً على السجل السيئ للروس تاريخياً في إدارة ترسانتهم و منشئاتهم النووية ، نجد أن ما رشح في الإعلام الخارجي من تسريبات متعلقة بمسودة الإتفاق الروسي السوداني يقرع جرس الإنذار حول الطريقة السبهللية التي تتعامل بها السلطة الإنتقالية بجميع مكوناتها مع ملف العلاقات و التحالفات الخارجية و هو ما ينبهنا لضرورة أن تضطلع مؤسسات المجتمع المدني السوداني ممثلة في (النقابات ولجان المقاومة و الصحافة الحرة و المراكز البحثية المتخصصة و الجمعيات الحقوقية و منظمات حماية البيئة وغيرها) بدورها المستقل عن الحكومة و المتمثل في تصحيح الإنحراف السلطوي البائن و إعادة التوازن إلى مؤسسات الإنتقال الهشة التي أضعفتها الشلليات و مراكز القوة على الجانبين المدني و العسكري (شلة المزرعة و شلة الجنرالات المذعورين و الساعين للحصول على الحماية الدولية مهما كانت التكلفة).

في الجزء التاني من هذا المقال أود التركيز على المجتمع المدني السوداني و المعيقات التي تمنعه من لعب دوره المستقل في الرقابة على الحكومة و أهم هذه المعيقات و المهددات في رأيي هي محاولات الاستحواذ والتجيير السياسي التي ظلت تمارسها بعض الاحزاب منذ الإستقلال و تحديداً الأحزاب المنضوية تحت لواء اليسار الراديكالي و اليمين الأصولي و التي لطالما تصارعت فيما بينها و مارست التخفي والتكتل الحزبي للإستيلاء على الأجسام النقابية المستقلة وإختطاف مؤسسات المجتمع المدني و تحويلها إلى مجرد واجهات حزبية منعدمة الإستقلالية.

المنطلقات الفكرية: بالنسبة لتيارات اليمين الأصولي فهي ليس لديها موقف متماسك و محدد مسبقاً تجاه المجتمع المدني ربما لأن المصطلح نفسه نشأ في سياق حضاري مختلف عن سياق منطلقاتهم العقدية و لكن مع ذلك نجدهم قد مارسوا سياسات إحتوائية تجاه المجتمع المدني من منطلق مكيافيلي الغاية فيه تبرر الوسيلة.

أما اليسار فتنطلق محاولاتهم للإستحواذ و السيطرة على المجتمع المدني من منطلقات فكرية عميقة و متجذرة في الفكر اليساري عامة و الفكر الماركسي خاصة، فاليسار الراديكالي المتأثر بأطروحات أنطونيو غرامشي يعتقد أن المجتمع المدني هو مجال إجتماعي تدور فيه صراعات ذات طابع إيديولوجي مثله مثل مؤسسات الإنتاج الإقتصادي ليس بمعزل عن الصراع الطبقي الذي يتراوح ما بين الهيمنة و الهيمنة المضادة المستندة على خلق حالة من الرضا و الإقتناع لدى الطبقة المغلوبة بهيمنة الطبقة السائدة.

و بالتالي فإن مؤسسات المجتمع المدني بالنسبة لغرامشي تشكل ظهير خفي و قلعة حصينة من قلاع الدولة البرجوازية، أكثر من ذلك عزى غرامشي أسباب نجاح الثورة البلشفية إلى بدائية و ضعف المجتمع المدني في روسيا القيصرية و هو ما سهل إنقضاض البلشفيك عليها و في المقابل عزى فشل الثورة الشيوعية في الغرب إلى وجود مجتمع مدني قوي و مستقل ذاتياً في أوروبا الغربية و هو ما يتماشى مع تعريف المجتمع المدني في الفكر الليبرالي الذي يعتبر أن مؤسسات المجتمع المدني هي الضمير الحي للسلطة ولا يمكن لهذه المؤسسات ممارسة دورها الرقابي ما لم تحافظ على إستقلاليتها عن السلطة و مصالحها المتشابكة و المعقدة و هو ما يتيح للمجتمع المدني التصدي لفساد السلطة السياسي و المؤسسي من موقع الإستقلالية.

إذاً فالمجتمع المدني المستقل بالنسبة لليسار الراديكالي هو خصم لدود يجب الإطاحة به و السيطرة عليه بينما لدى الليبراليين هو لازمة من لوازم الشفافية و الديمقراطية و سيادة حكم القانون، و ما بين هذين الموقفين يمكننا أن نفهم لماذا إنتهت التجربة الشيوعية في أوروبا الشرقية الى مجرد دكتاتوريات قمعية مارست أبشع الإنتهاكات في غياب المجتمع المدني المستقل و هو ما زاد من تكلفة إسقاطها الباهظة جدا ففي رومانيا مثلاً مارس نيكولاي تشاوتشيسكو الإبادة الجماعية ضد المتظاهرين، بينما أنشأ جوزيف تيتو في يوغسلافيا دولة بوليسية قمعية حازت المرتبة الأولى عالمياً و على مر العصور في عدد المعتقلين السياسيين، أما الاتحاد السوفيتي المنهار فهو صاحب السجل الأسوأ عالمياً في حقوق الإنسان و ما زالت وريثته روسيا حائزة على نفس المرتبة من السوء.

أما الصين فيكفي ذكر مجزرة ميدان تيانمين التي قتل فيها النظام الشيوعي الصيني 10 ألاف طالب جامعي بدم بارد في يوم واحد بسبب مطالبتهم بالحرية والديمقراطية، في المقابل إزدهرت الديمقراطيات الليبرالية و ما زالت مزدهرة في أوروبا الغربية و أمريكا و استطاع المجتمع المدني اليقظ و المستقل هناك التصدي لإنحراف السلطة في عدة محكات منها على سبيل المثال أحداث ووترغيت و إيران-غيت و حياة السود مهمة (Black lives matter) و آخرها كانت إحتجاجات المجتمع المدني الفرنسي التي ما زالت مستمرة حتى الآن ضد قانون الأمن الشامل المثير للجدل في فرنسا بالإضافة إلى مساهمة المجتمع المدني في الضغط على القادة السياسيين و إجبارهم للتوقيع على إتفاقية باريس للمناخ و بروتوكول كيوتو لخفض الإنبعاثات الغازية بالرغم من التكلفة الإقتصادية الباهظة لهذه الإلتزامات.

راهن المجتمع المدني السوداني:

فيما يلي الراهن السوداني للأسف كان و ما زال اليسار الراديكالي ينطلق في تعاطيه مع مؤسسات المجتمع المدني السوداني على ما يبدو بحسب الشواهد من نفس المنطلق الأيديولوجي الإحتوائي الذي يتسق مع ما دونه أنطونيو غرامشي في كراسته الشهيرة و الدليل هو تسجيلات (الفراكشن) المسربة و التي كشفت عن الاجتماعات التآمرية خارج الأطر الرسمية لتجمع المهنيين التي ظل يجريها أعضاء في مجلس التجمع ينتمون الى أجسام نقابية مختلفة ولا يربط بينهم سوى انتمائهم للحزب الشيوعي.

و الهدف الواضح من وراء هذه الاجتماعات كان التنسيق و التكتل للسيطرة على تجمع المهنيين، إقصاء الخصوم السياسيين و التحكم في عملية إتخاذ القرار و هو ما أدى في النهاية إلى إنقسام التجمع و ضياع حالة الإجماع و التوحد الشعبي حوله و نفس المخطط التآمري مستمر للإلتفاف على لجان المقاومة التي كان لها الدور الأعظم في ثورة ديسمبر المجيدة بغرض إختطافها و تحويلها هي الأخرى الى ألعوبة في يد اليسار الراديكالي تعادي من يعاديه وتصالح من يصالحه و تتصدى لمعاركه السياسية بالنيابة عنه !! و النتيجة المؤكدة لهذا السلوك اليساري بإمتياز ستكون إنقسام لجان المقاومة هي الأخرى لتلحق بطيب الذكر (تجمع المهنيين).

ما هو الحل؟

الخطوة الاولي و الأهم في نظري لاستعادة المجتمع المدني و الحفاظ على دوره المستقل والمنوط به في إحداث التوازن السلطوي هو في تحريره من اليسار الراديكالي و العمل استباقياً على مقاومة و عزل وتحجيم التيارات السياسية التي لا تؤمن باستقلالية المجتمع المدني و تعمل بكامل الإصرار والترصد على تقويض الإنتقال الديمقراطي لأن الديمقراطية المتعارف عليها ليست جزءا من عقيدتهم الفكرية و التحجيم هنا هو سلوك ديمقراطي كامل الدسم فالحفاظ على الديمقراطية و ضمان إستدامتها يستدعي فضح و عزل المتآمرين عليها وإلا ستتحول إلى لقمة سائغة للراديكال المتشنجين أصحاب الإيديولوجيات المتطرفة فهؤلاء أخطر على الإنتقال الديمقراطي من الدولة العميقة و الدولة الموازية والعساكر مجتمعين لأنهم ينخرون عظم الثورة من الداخل وحين تستتب لهم الأمور سنبدأ لا محالة من جديد دوامة الإنقاذ ولكن بثوب أحمر قاني هذه المرة. #sudanese_civil_society

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.