آخر الأخبار
The news is by your side.

تداعيات … بقلم: يحيى فضل الله .. معادلات حسين الكليس الصعبة

تداعيات … بقلم: يحيى فضل الله .. معادلات حسين الكليس الصعبة

الساعة كانت قد تجاوزت الساعة الحادية عشر ليلا بكثير حين سمعت طرقا على الباب ،كنت

وقتها استعين على ارقي بالقراءة حين فتحت الباب جاءني صوت العم حسين الكليس الملقب

عندنا بالكائن السياسي عميقا وحميما كايامه تلك الخوالي التي يتحدث عنها كذكري قديمة

مبهجة (انا آسف للازعاج، لكن ما في طريقة، بعدين انا جيت متاخر لقيت العالم دي كلها نامت

شباب خامل) .. ( لا ما في اي ازعاج ،اتفضل).

(ما انت عارف انا ما بقدر انوم لازم ابلع المنوم و المنوم هو لازم اهرج في الناس ديل و أفش

غبينتي بالكلام) انها معادلات الكائن السياسي الصعبة ،معادلات حسين الكليس.

العم حسين الكليس كائن خرج من بين فصول رواية ملحمية و قرر ان يتجول في زمن ضاعت

فيه السير و الملاحم و اختلطت فيه الهواجس بالاحلام ، زمن تكلمت فيه القبور، — قبر يتكلم

في الدخينات– و كانت العاصمة المثلثة تنثر الرماد على عتبات البيوت لان مخلوقا غريبا قد ظهر

، مخلوق غريب بستة ارجل و وجوه لا تحصي تجرد الرعب و عيون نارية و يملك قدرة ان يجري و

يطير و يسبح و قيل انه بسهولة يستطيع ان يتسلق الهواء و يمكنه ان يكون في مكانين في

نفس اللحظة ، قيل إنه شوهد في الدروشاب في نفس اللحظة التي كان فيها بحي الشوالات

بالقرب من سوق ليبيا في زمن فيه جافت القوانين و التشريعات امزجة الناس بظلومات و

ظلمات و تعلق فيه الطموحين من العشاق بالحور العين و ها هو الكائن السياسي بفوز و بعقل

تقدمي متفتح بوظيفة غفير لدار حزب الامة بشارع الجميعاب بالقرب من اجزخانة ابن ابي الدنيا

تلك المغلقة دائما .

(انا افخر انو انا اول زول يوصل كتاب ارنست فيشر ضرورة الفن لبلدنا)

هكذا يقول الكائن السياسي حين يفخر بنفسه و لم يكن الكائن السياسي من خريجي كلية

غردون ،انه رجل عادي كان يعمل نقاشا و اظنه لا زال ولكن،تعلم القراءة والكتابة علي ايدي و

عقول مستنيرة و كان كثيرا ما يحكي تفاصيل حميمة عن حركة جماعة ابادماك الفنية و الثقافية.

امتلك العم حسين الكليس حساسية التحليل و القدرة علي وزن الامور ،اي انه كان لا يدس في

المكيال و امتلك بذلك مفردات كائن سياسي ضليع في السخرية .

كان الكائن السياسي العم حسين الكليس لا يخالط انداده لا يحب الجلوس معهم لا يسامرهم

وله اسباب تكتكية لذلك (مملين ما عندهم افكار جديدة بعدين بذكروني باليأس، انا عايز حيوية

،انا عايز اعيش و هم بذكروني بالآخرة).

دخل معي عمي حسين الكليس الي الداخل، جلس على السرير و قال لي (ممكن ربع ساعة

بس و لا اقول ليك خليها نص ساعة) .. (اخد راحتك انا اساسا مساهر).

جاءني عم حسين – الكائن السياسي – في تلك الليلة لان اهم ما في تصرفاته و التي هي

اقرب للحكمة، هي حدته تجاه ما يحدث، ودعنا مرة في الصباح كي يسافر الي بلده قرية من

قري النيل الابيض كي يحضر سماية حفيده من بنته الكبري سافر الكائن السياسي في ذلك

الصباح برغبة حقيقية كي يقضي اسبوعا بين اهله و لكنا فؤجئنا به قد عاد في اواخر الليل و

السبب في ذلك ان الرئيس قرر ان يزور قريته في نفس يوم السماية فهرب من قريته عائدا

وتاركا سماية حفيده كرها في تلك الضجة من الاناشيد الزائفة و الهتافات ذات الهوس المخيف

التي تتابع الرئيس والذي حتما سيرقص اينما ذهب .

الكائن السياسي له ذائقة متفردة في تذوق الادب و له اصدقاء في هذا المجال فكان ان

اكسبته هذه الصداقة حرفية المقارنات والتأمل فيما وراء النص فكان حين يتحدث عن رواية –

عرس الزين – للطيب صالح تراه يركز على موقف امام المسجد من (الزين) مقارنا اياه بموقف

(الشيخ الحنين).

امام دكان احد الاصدقاء كنا نجلس ومعنا الكائن السياسي بتعليقاته العذبةحول كل الامور جاء (

ابوطاقيه) – سمسار تشاشه بالسوق الشعبي امدرمان – كان (ابو طاقية) قد ادمن اغنيات

مصطفي سيد احمد و كان دكان صديقي يتميز بتلك الاغنيات جاء (ابو طاقية) وهو يغني:

( واقف براك
و الهم عصب)

هكذا (عصب) بدلا عن (عصف) فما كان من الكائن السياسي الا ان قال لي (شايف الهم عصب

اقوي من الهم عصف، عليك الله اكتب لي مصطفي ! قول ليهو يغنيها كده واقف براك والهم

عصب لانو فعلا الهم عصب).

كان العم حسين الكليس -الكائن السياسي – يحاول ان يتذوق حالة كونه غفير لدار حزب

الامة بامدرمان الجديدة ايام الديمقراطية الثالثة بعلائق في التضاد والمقاربات وكان عادة ماتكون

الدار خالية و يستانس الكائن السياسي بفكرة – كان للمهدي داك ولدا قدل فوق عزه و يخاف

من فكرة تلك الوزه – و يلوذ ببعض جمل من قصص قديمة للكاتب عبد الله علي ابراهيم و يغني

قصيدة محجوب شريف:

(مشتاق كتير والله للجيران و للحله)

يغنيها علي لحن اغنية اسحاق الحلنقي لمحمد وردي

(يلا و تعال يلا
نهاجر في بلاد الله)

فقد كان يملك مرجعية تسمح له بهذا الابدال لان اللحن كان في الاول علي كلمات محجوب

شريف ،كان الكائن السياسي الغفير لدار حزب الامة يجادل وضعيته بين الانتماء و الوظيفة و

على منضدة صغيرة بثلاث ارجل تحت لمبة نيون خارج الخدمة كان هنالك كتاب مكفئ هو رواية

(فرسان الرمال) للكاتب البرازيلي (جورجي امادو) و حين كنت اتأمل ما هي علاقة غفير بدار

حزب الامة برواية لكاتب مثل (جورجي إمادو) جاءني صوت عم حسين عميقا و واضحا

(ايوه غفير بدار حزب الامة، عضو حزب شيوعي و بقرأ جورج إمادو).

الكائن السياسي، حسين الكليس، عادة ما يستخدم تلك الجمل الشهيرة باسلوب مميز، اشتبك

صديقان في مشاجرة من تلك المشاجرات التي تمايز بين جلسة واخري واستعلت حدة احدهم

على الاخر ،مال الكائن السياسي على ذلك الذي اشتد عليه الخناق قائلا و بهمس لطيف

(انحني يا صديقي حتي تمر العاصفة).

في رمضان الرابع و التسعين من القرن السابق كان الكائن السياسي حريصا على متابعة

مسلسل (النوه) لاسامه انور عكاشة و محمد فاضل و ذات حلقة و قد كنا كلنا نتحلق حول

التلفزيون و فجأة قطع التلفزيون المسلسل لينقل خطاب الرئيس البشير و هو يعلن اعادة

تقسيم الولايات قفز الكائن السياسي كالملدوغ و قذف بمركوبه علي عتبة الغرفة و لحق به

هاربا وقذف لنا بوداعه دون ان ينظر الينا (تصبحوا علي خير).

وذهب تاركا لبقية الليل مهمة امتصاص تفاصيله و حين سألناه عن ذلك الهروب في الصباح قال

(ما ما معقول حكومة كاملة تتضاري وراء فردوس عبد الحميد).

حين كان الكائن السياسي يجرب خلطة الالوان بخربشات من الفرشاة على الجدار الذي تم طلاه

بالبوماستك الابيض ،كنا شلة من الاصدقاء نساعده كنفير لطلاء غرفة نوم صديق لتتحول الي

قفص ذهبي، كان الكائن السياسي يتحسس و بمتعة تفاصيل مهنته كنقاش ،كان يحاول ان

يحصل من خلال الخلط علي لون قرمزي وكلما يلطش على الجدار الابيض بالفرشاة يسأل

العريس المرتقب (تفتكر اللون ده رومانسي خالص).

ومن تجاربه على اللون كان قد كتب علي طول الحائط الابيض هذه الجملة (لا الحاد و لاشيوعية

الفانوس حرق القطية) وكان هذا الجدار اخر ما تم طلاءه .

احد الاصدقاء ادمن و بحرفية عمل شوربة الخضار، ليست هي المشكلة ولكن المشكلة انه

يسجن كل الحديث داخل الموضوع يعني (بستلم المايك) وكنا نثور على ذلك حتي ننتقل الي

مواضيع اخري و حين تكررت ثورتنا تلك قذف الكائن السياسي في آذاننا بحكمة نفعية و عملية

جدا (يا شباب اجروا اضانكم و بعدين انتو حقو تستغلوا الوعي الغذائي الحاد ده بدل ما تقيفوا

ضدو مش احسن ليكم من الفول).

اتكأ الكائن السياسي، عمي حسين الكليس علي السرير بعد ان اشعل سيجارته و قال لي

(انت عارف انا ما بقدر انوم لو ما اتكلمت عن الخمج ده انا جيت لقيت الشباب كلو نايم وبعدين

كمان انا اتكلم براي؟، مع انو مرات بعملها اها انا قلت اجيك ناخد و ندي مع بعض ،نشتم مره و

نحلل مره عشان عمك يعرف ينوم تخيل ده مش ادمان غريب؟).

و تحدث الكائن السياسي في تلك الليلة و افاض و نزع عن نفسه همومه الصغيرة والكبيرة

يشتم احيانا ، يسخر و ينثر نكاته العميقة و حين احس انه صافي من شوائب الراهن اللزج و

المظلم ودعني و خرج و من بعض حديثه في تلك الليلة قال (تعرف الشيخ فرح ودتكتوك و

سيدنا الخضر و بله قالوا و اقفين في صف التأشيرة)، فسالته (اها فرح ود تكتوك معروف و

سيدنا الخضر معروف بس بله ده منو؟ )و ضحك الكائن السياسي ضحكته الهامسة و قال

(مش الناس بتقول يحلنا الحل بله من القيد و المذله بس بله ده ذاتو).

في مساء اليوم التالي جاءني الكائن السياسي مبكرا في تفاصيل ما بعد المغرب و خرجنا من

سأم بنا الي اخر محطة بالجميعاب كانت المدينة قد قاطعتها الكهرباء وكانت اكشاك المحطة

تتباهي باضواء الرتائن وحتي اللمبات الصغيرة امام ستات الشاي لها في الاضواء نصيب و انحزنا

الي فكرة ان ندخل الي راكوبة مسورة بالشوالات و الكراتين لنشاهد شريط فيديو لفلم هندي

وكان صوت الجنريتر مرغما على التداخل في النسيج الصوتي للفلم ،اهم ما في الامر ان العم

حسين – الكائن السياسي – كان يتابع الجمهور اكثر من الفيلم بل كان يحرضني بهمس متأمر

(اسمع سيبك من الفيلم الهندي، شوف الفيلم السوداني ده).

وكان يلكزني بكتفه كي الاحظ الجمهور الذي كان يجلس علي بروش و طوب وجلوس كما اتفق

و لا اتفق على الارض و هنالك واقفون واثقون من لياقتهم البدنية وخرجنا من الفيلم سعيدين

بانتصار البطل و وثقنا هذا الانتصار بصحن فول مصلح وكانت حافلات امدرمان الجميعاب تقترب

من هجعتها الليلية بعد ان منحت المحطة الاخيرة ما يعزز نموها في تفاصيل المدينة والكائن

السياسي يشعل سيجارة الطريق الي البيت و يجادل فكرة ترييف المدن و يكاد يدحضها حين

يقول بطرب واثق وصوت جهوري:

(نمشي في كل الدروب
الواسعة ديك
والرواكيب الصغيرة
تبقي اكبر من مدن)

و بعدها مباشرة يدخل منطقة همسه (ياتو حزب ممكن يتحمل المسئولية دي ؟،حزب يقوم

بالمهمة دي ، مهمة -الرواكيب الصغيرة تبقي اكبر من مدن ؟،حزب يؤمن بنظرية الدروب

الواسعة). و يعود مرة اخري الي صوته الواثق الجسور

(مكان الطلقة عصفورة
تغرد حول نافورة
و تمازح شفع الروضة)

و يقذف الكائن السياسي بسيجارته الي البعيد و يزفر زفرة متحسرة.

استوقفتنا زحمة امام الخيمة التي هي امام المحطة الاخيرة القديمة ذات الاربع اكشاك ،خيمة

العساكر،كان اثنان من العساكر احدهم يحمل باقة بلاستيكية بيضاء كانت فيما مضي باقة عصير

و الثاني يجرجر شاب يبدو عليه الاحترام الذي ربما كان قد تملص منه لولا ان عكشه العساكر

،حين اقتربنا كان العساكر دخلا بالشاب داخل الخيمة و حين تفرق الجمع تاركين الشاب لمصيره

و بهمة اليفة دخل حسين الكليس-الكائن السياسي- الخيمة و لم املك الا ان ادخل بعده لنجد

الشاب المحترم و قد اعيدت اليه الباقة و العساكر يبدو عليهم الود و قد تخلي احدهم عن

ضحكته حين لاحظ وجودنا و هب الثاني نحونا قائلا: (في شنو؟ ).

نظر اليه الكائن السياسي في وجهه و نظر الي الشاب و الي القاطع ضحكته و قذف بسؤال

مباشر (يعني عملتو تسويه؟ ).

و خرج بنا الشاب قبل ان يرد العساكر على السؤال و ربت الشاب على كتف العم حسين

الكليس و هو يحاول ان يخفي الباقة في المنطقة بين القميص وبطنه ونحن خارج الخيمة قائلا

(ما في مشكلة ،اتخارجت).

ولما وصلنا باب البيت كنا لا نملك ان نفارق بعض و الليل به شئ من حتي وبيننا شبك كثيرة

اشتعلت فيها التفاصيل و حين ذكرت له مقطع من قصيدة للقدال يوثق لترييف المدن

(كلما امتداد يمتد
نبني حواهو كرتونه
و زرايب ناس)

اشعل الكائن السياسي سيجارته و وعدني بالمجئ بعد نصف ساعة و اكد ذلك و هو يذهب في

اتجاه الدار، دار حزب الامة ، قائلا (في كلام كتير و انا لازم ابلع المنوم).

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.