آخر الأخبار
The news is by your side.

تحول السلطة بين العنف والثروة والمعرفة 

تحول السلطة: (بين العنف والثروة والمعرفة) 

المؤلف: الفن توفلر
 تعريب ومراجعة: دكتور، فتحي بن شتوان؛ نبيل عثمان

عرض: أحمد ضحية

“لكن إذا كانت الشيوعية التقليدية مهيأة لما أسماه لينين (مزبلة التاريخ)، فهذا لا يعنى أن الأحلام الرائعة التى انجبتها، قد ماتت أيضاً! إن الرّغبة في إيجاد عالم تسوده الوفرّة والعدالة الاجتماعية والسلام، لا تزال رّغبة نبيلة مشترّكة على نطاق واسع، كما كانت دوماً.. بيد أن عالماً كهذا لا يمكن أن ينشأ على أُسس قديمة”.

المتأمل لما بين سطور هذا الكتاب، يستطيع أن يجد تفسيراً للكثير مما يحدث في السودان والإقليم والعالم بشكل عام. الطبعة الأولى لهذا الكتاب صدرت في العام ١٩٩٢ عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان في ٧٢٠ صفحة من القطع الكبير. هذا الكتاب هو الجزء الأخير في ثلاثية المؤلف الفن توفلر، التي استهلها بكتاب (صدمة المستقبل)  ثم (الموجة الثالثة).
يبحث كتاب (تحوّل السلطة)، مسألة بالغة الأهمية: هى التحكم فى التغييرات القادمة! 
اشتمل الكتاب على ٣٤ فصلاً جائت فى ٦ أبواب. ابتداءً من الدور الذى تلعبه السلطة فى حياتنا الخاصة وانتهاء بدورها في حياتنا العملية، مع ملاحظة أن تحول السلطة لا يعني مجرد نقل السلطة، بل أيضاً تغيير طبيعتها! 
يتناول المؤلف التحولات التي اعترت السلطة فى مختلف أنحاء العالم، وفيما يُعاد توزيع المعرفة، يحدث الشيء ذاته للسلطة القائمة عليها. بيد أن ثمّة معنى أوسع لما تسببه (أو تسهم فيه) التغييرات في المعرفة، فى تحولات السلطة والنفوذ (تأثير الناس فى المعلومات وتأثرهم بها) وهو ما يقف بصورة أساسية خلف ما يعتري السلطة من تحولات. 
ويمضي المؤلف إلى القول بأن ظهور نظام جديد لخلق الثروة، قوض كل عمود من أعمدة نظام السلطة القديم. وأدى في نهاية المطاف إلى تبدل شكل الحياة الأسرية والعمل والسياسة ونظام الدولة وتركيبة السلطة الدولية نفسها!
لقد لجأ أولئك الذين قاتلوا من أجل السيطرة على المستقبل، إلى استخدام العنف والثروة والمعرفة. واليوم بدأت ثورة مماثلة لتلك، وإن كانت أشد تسارعاً وعنفواناً. 
وما التغييرات التي رأيناها مؤخراً فى مجال الأعمال التجارية والاقتصاد والسياسة، سوى المناوشات الأولى لما هو مقبل من صراعات أعظم وأشمل على السلطة والنفوذ.. أننا الآن نقف على مشارف أعمق تحول للسلطة في التاريخ! 
ويمضي المؤلف لتناول مستويات السلطة بين الكاوبوى وصاحب المصرف (النموذج الأمريكى) والمصلح، كما جسدت هذه العلاقة افلام رُعاة البقر. وهنا يؤكد متكئاً على فرانسيس بيكون، أن المعرفة سلطة، لكن لكي تنتصر المعرفة فى فيلم رُعاة البقر عليها عادةً أن تتحالف مع العنف أو المال! 
وتشمل السلطة في أكثر معانيها سفوراً .. استخدام العنف والثروة والمعرفة (باشمل معانيهم) لجعل النّاس تتصرف بطريقة معينة! والمعرفة هي الأكثر تنوعاً من حيث الفعالية من بين المصادر الثلاث للسلطة الاجتماعية. ويتوافر أكبر قدر من السلطة، لأولئك الذين بامكانهم استخدام كل هذه الأدوات الثلاث. 
ثم يمضي المؤلف إلى تناول التحوّل الذي طرأ على مجال الأعمال قائلاً: إذا كان للأعمال نجومها فيما مضى، إلا أن مضمون النجومية نفسه يختلف هذه الأيام. فالسحر الجديد المبهر الذى تكسبه الأعمال التجارية اليوم، ليس سوى واجهة سطحية للاقتصاد الجديد، الذي تلعب فيه المعلومات بدء من الأبحاث العلمية، وانتهاءً بالجعجعة الدعائية دوراً متزايداً! 
وما يحدث اليوم هو نشوء نظام جديد كلياً لخلق الثروة، يجلب معه تغيرات جذرية في توزيع السلطة والنفوذ! هذا النظام الجديد لإنتاج الثروة يعتمد كلياً على التوصيل والنشر الفوريين للبيانات والأفكار والرموز، وهو نظام ينتقل بالبروليتاريا إلى مرحلة متقدمة (كوجنتاريا) جديدة.. بمعنى طبقة عاملة مدركة، تتعامل مع المعرفة وتقنية المعلومات!
حيث يمضى المؤلف إلى شرح العلاقات الاقتصادية قائلاً: ويتطلب الإنتاج حتى في الأزمنة العادية، القيام من حين لآخر بعقد وحل علاقات السلطة أو إعادة تنظيمها بصفة مستمرّة، وفيما نتوغل داخل اقتصاد عالمي يتسم بالتنافس، ويعتمد بشدّة على المعرفة. تزداد الصرّاعات والمواجهات حدة وضراوة! 
والنتيجة هي أن عامل السلطة فى مجال الأعمال تتنامى أهميته أكثر فأكثر، الأمر الذي يؤدي إلى تحولات فى السلطة، كثيراً ما يكون لها وقع أكبر على مستوى الربح أكثر مما للعمالة الرّخيصة أو التقنيات الجديدة أو الحسابات الاقتصادية المنطقية. 
ويؤكد المؤلف أن (تحولات السلطة) بالمعنى الشامل هو أكثر من مجرد نقل للسلطة أو انتقالها، أنه تغيير فجائي حاد في طبيعة السلطة.. تغيير في مزيج المعرفة والثروة والقوة. 
كما يتناول المؤلف ظاهرة (ياكوزا) أو استعمال العنف فى مجال الأعمال، مؤكداً أن كل مجتمع فيه ما يمكن أن يسمى بالنظام الثانوى لتنفيذ القانون، وهو نظام يعمل خارج نطاق النظام المنهجي الرّسمي لتنفيذ القانون.. فثمة أشياء تحدث في السطح الأملس لعالم الأعمال، وقليلون هم من يرغبون فى التحدث عنها. 
إننا نادراً ما نتوقف لنفكر فى القوّة كعامل من العوامل المستخدمة فى مجال الأعمال، فغالبية الأعمال التجارية اللانهائية التي تتم كل يوم، خالية من أي شيء يوحي بالعنف! ومسالمة على السطح إلى درجة نكاد لا نحفل معها برفع الغطاء، لنرى ما يتأجج تحته.. لقد كان العنف دائماً جزء من الاقتصاد، بالرغم من أننا نفضل الاعتقاد بعكس ذلك. 
منذ ذلك اليوم الذي قذف فيه الإنسان القديم حيواناً صغيراً بحجر، بدأ استخدام العنف لصنع الثروة.. إن عنف الدولة يحل الآن محل العنف الخاص.. أول شىء تحاول الحكومة.. أي حكومة أن تفعله، منذ لحظة تشكيلها هو احتكار العنف. فجنودها وشرطتها هم فقط المسموح لهم قانوناً باستخدام العنف. وفى بعض الحالات تسيطر الشركات سياسياً على الدولة إلى الحد الذي يصبح فيه الخط الفاصل بين ممارسة السلطة الخاصة والعامة فى دقة الشعرّة!
ويمكن اعتبار تبرعات الشركات فى الحملات الانتخابية للمرشحين، وسيلة أخرى لجعل الحكومة تخرج مسدسها من جرابها لصالح الشركة أو الصناعة القائمة بالتبرع!
ومن خلال تناول المؤلف لرجال صناعة أمريكان فى عصر المصانع ذات المداخن والمراحل الصناعية التالية، يرصد لنا الكيفية التي تتغير بها سيطرّة رأس المال. وبالتالي سلطة المال في المجتمع. مؤكداً على أفول مبدأ الإنتاج بالجملة، بسبب التقنيات المسيرّة بالحاسب الآلى التي جعلت من الممكن بدرجة متزايدة، إنتاج دفعات صغيرة من السلع المصنعة حسب متطلبات العميل، والموجهة إلى شرائح سوقية مخصوصة. 
أي الانتقال من مرحلة إنتاج دفعات كبيرة إلى مرحلة الدفعات الصغيرة من المنتجات ذات القيمة المضافة المرتفعة. بالتالى تقصير دورة حيّاة المنتج! 
لقد بات من الممكن فى دورة اقتصاد الموجة الثالثة الجديد، بناء سيارّة أو حاسب آلى في أربعة أقطار، وتجميع الأجزاء المصنعة فى قُطر خامس! كما أن الأسواق تتوسع مجتازةً الحدود الوطنية والشركات والمؤسسات التجارية، التي أخذت تتحوّل باطراد نحو التدويل. 
من جهة أخرى يواكب نمو الاقتصاد العالمى توسع السوق المالي نفسه، إلى درجة يتضاءل معها حجم أى مؤسسة أو شركة أو فرد. 
وثمّة تيارات هائلة تهدر عبر النظام محدثةً انفجارات واضطرابات على نطاق دولي.. سوف تشهد العقود المقبلة إذن صراعاً سلطوياً هائلاً بين أنصار (التدويل) و(الوطنية) حول طبيعة المؤسسات التنظيمية الجديدة في أسواق العالم المالية. هذا الصراع يعكس الصدام بين نظام صناعى متحضر، والنظام الدولي الجديد لخلق الثروة، الذي أخذ يحل محله. 
ويخلص المؤلف حول هذه النقطة إلى أن نتيجة الصراع التاريخي على السلطة قد تكون غير مرضية، لا للوطنيين ولا لأصحاب النزعة الدولية. 
ويمضي المؤلف بالقول أن التاريخ مفعم بالمفاجآت، قد يدفعنا إلى إعادة تأطير القضايا بطرق جديدة، واختراع مؤسسات جديدة تماماً. بيد أن شيئاً واحداً يبدو جلياً. وهو أنه عندما تصل معركة إعادة تشكيل المالية الدولية إلى ذروتها في العقود المقبلة، ستتم الاطاحة بالعديد من القوى القائمة الكبرى! 
كما يناقش المؤلف هنا مسألة تحوّل رأس المال إلى شيء فائق الرّمزية. وفي شرحه التهديد الذي تواجهه المصارف بإحلال النقود الالكترونية محل الورقية، يؤكد أن نقود الموجة الثالثة تتألف بدرجة متزايدة من نبضات الكترونية سريعة التلاشي.. أنها ليست سوى المعلومات التي هي أساس المعرفة!
كما يتناول المؤلف عملية الانتقال من العمل العضلي اليدوي إلى العمل الذهني أو العمل الذي يتطلب مهارات سايكولوجية وبشرية، بمعنى أن الانشطة الفائقة الرمزية، أخذت تنتشر انتشاراً واسعاً درامياً، غير قابل للردة! فصادرات العالم من الخدمات والممتلكات الذهنية تعادل الآن صادراته من الالكترونيات والسيارات مجتمعة، أو من الأغذية والوقود معاً!
ويمضي الكاتب إلى شرح المعنى الجديد للبطالة نتيجة لهذه التحولات، قائلاً أنه حتى لو كانت هناك عشرّة اعلانات وظائف جديدّة متاحة لكل عاطل، أو إذا كانت ثمّة مليون وظيفة شاغرّة مقابل واحد مليون فقط من العاطلين، فإن هؤلاء لن يتمكنوا من أداء هذه الوظائف المتاحة، ما لم تكن لديهم مهارات معرفة بما تتطلبه الوظائف الجديدة!
هذه المهارات متنوعه الآن وسريعة التغيير، بحيث لا يمكن استبدال العاملين بنفس السهولة، أو الرخص الذي كان يتم استبدالهم به فى الماضي. أن الأموال والأعداد لم تعد تحل المشكلة. 
ومن هنا يمضي المؤلف لمناقشة البديل النهائي فيما يتمثل فى المعرفة، قائلاً لقد أضحت المعرفة هى المورد النهائي للعمل التجارى، لأنها هى البديل النهائي. باعتبار أن الانتاج والارباح، يعتمدان في أي اقتصاد على المصادر الثلاثة للسلطة: العنف والثروة والمعرفة “وكما أن العنف يتم تحويله بشكل متزايد إلى قانون، فان رأس المال والنقود يجرى أيضاً تحويلهما إلى معرفة، أما العمل فإنه يتغير أيضاً في خط مواز. لذلك ليصبح أكثر اعتماداً على المضاربة بالرموز.. و لأن المعرفة تقلل الحاجة إلى المواد الخام والعمالة والوقت والحيز ورأس المال، فإنها تصبح بذلك المورد المحوري للاقتصاد المتقدم. وفيما يحدث هذا تزداد قيمتها. 
ويتناول المؤلف حرب المعلومات في مستوياتها المختلفة ابتداء بالسوبرماركت، حيث يسرد وقائع معارك التقنية المتقدمة التي بدأت فى السوبرماركت، وانتقلت إلى أماكن أخرى مشيراً إلى أن المستهلك يعطى المعلومات بلا مقابل، في حين أن هذه المعلومات القيمّة، هي التي يتقاتل من اجل السيطرّة عليها التجار والصانعون والمصارف وشركات البطاقات الائتمانية (وكثيرون غيرهم). ومن الناحية النظرية يحصل المستهلكون مقابل بياناتهم، على انخفاض في الأسعار نتيجة للارتفاع في كفاءة النظام، لكن ليس من المؤكد أن أى جزء من هذا الوفر سيصل إلى المستهلك! 
ولما كانت البيانات المستخرجة من المستهلك مطلوبة باطراد من أجل تصميم السلع والخدمات وانتاجها، وكذلك توزيعها. فان المستهلك فى الواقع يصبح بذلك طرفاً مساهماً في عملية الإنتاج. 
وفى تناول المؤلف للذكاء الخارجى أى الشبكات (التلغراف، الهاتف، الحاسوب، إلخ) يتناول المؤلف أثر هذه الشبكات على النشاط الاقتصادى وتحول السلطة، كما يطلق على شبكات القيمّة المضافة تسمية شبكات الذكاء الخارجي باعتبارها لا تنقل البيانات فحسب، بل تقوم بتحليلها أو ضمها أو إعادة تحجيمها أو تغييرها، حيث يخلص إلى أننا بخلق نظام عصبي الكترونى مدرك لذاته وذي عقل خارجي، إنما نغير قواعد الحضارّة والأعمال التجارية. 
وفيما تدفع التجديدات والابتكارات التنافسية مزيداً من المنتجات الجديدة إلى الأسواق، مشبعةً وخالقةً في نفس الوقت احتياجات جديدة للمستهلكين، يعمل تعريف المعايير القياسية نفسه على دفع الأبحاث إلى الأمام. 
وهكذا على كل جبهة علمية أو سياسية أو اقتصادية وتكنولوجية، يمكن توقع اشتداد المعارك حول المعايير القياسية، فيما يحل نظام خلق الثروة الجديد محل عالم المصانع ذات المداخن الغابر. 
إن المنتصرين في الحرب الآخذة في الاتساع التي تدور حول المعايير القياسية، سينالون سلطة هائلة وعالية النوعية فى عالم الغد المقبل سراعاً —أن حرب المعلومات المحتدمة فى العالم الخارجى على كل شيء من الأجهزة الفاحصة في السوبرماركت والنظم القياسية، إلى أجهزة التلفزيون والتكنلوجيا، تنعكس داخل الشركة أيضاً. 
السلطة في أعمال الغد التجارية، سوف تذهب لأولئك الذين يملكون أفضل المعلومات عن حدود المعلومات، ولكن قبل أن تفعل السلطة ذلك، فإن حرب المعلومات التي يشتد أوارها الآن، سوف تغير شكل العمل التجارى نفسه.
كما يتناول المؤلف انهيار الوحدات البيروقراطية المنغلقة، إذ يرى أن على أقطار العالم الثالث، نبذ الشخصية البيروقراطية و مناوأة الأسرة التى تسود فى الغرب، وأن تبني اقتصاداً يقوم على الأسرة، فالمنشأة الأسرية ليست سوى مجموعة من الصيغ التجارية المتنوعة، التي ستحول السلطة بعيداً عن البيروقراطيين الإداريين في السنوات المقبلة. مؤكداً أن إدارة التنوع الذي تتسم به الشركة المرنة، يتطلب قادة جدد لا يمتون بصلة إلى خصائص المدير البيروقراطي. بيد أن شركة المستقبل المرتقبة، لا يمكن أن تعمل بدون تغييرات أساسية في علاقات السلطة بين المستخدمين ورؤسائهم.
أننا اليوم نعيش تحول السلطة في موقع العمل. ومن كبرى سخريات التاريخ أن نوعاً جديداً من العامل المستقل ذاتياً يبرز الآن مالكاً في الواقع لوسائل الإنتاج. بيد أن (وسائل الانتاج الجديدة) لا توجد في صندوق أدوات الحرفي أو في الآلات الضخمة لعصر المداخن، بل هى تجلجل داخل جمجمة العامل، حيث سيجد المجتمع المصدر الوحيد الأهم للثروة والسلطة في المستقبل هو المعرفة —ان من المبكر على أى منا فهم فسيفسائيات السلطة الآخذة في التشكل بسرعة فهماً تاماً، والتكهن بما تكون عليه الشركات في المدى البعيد. لكن شيئا واحداً مؤكداً: وهو أن الفكرة التي مفادها أن حفنة من الشركات العملاقة ستهيمن على اقتصاد الغد، هي أشبه برسم ساخر للحقيقة— فنظام خلق الثروات يسهم في تفسير الاضطرابات الهائلة التي تعم العالم الآن. وهي هزات تمهيدية تنبىء بتصادم بين نظامين لخلق الثروة على نطاق لم يحدث من قبل أبداً!
وفى تناول المؤلف لأساليب تحول السلطة يؤكد أننا عوضاً عن نهاية الآيديولوجيا التي يُتشدق بها كثيراً، قد نرى في الشؤون المحلية والدولية كلتيهما: ظهور إيديولوجيات جديدة متعددة، كل منها تشعل حماس المنضمين إليها برؤية وحيدة للحقيقة، وعوضاً عن ألف نقطة من الضوء الشهيرة التي قال بها الرئيس بوش، فإننا قد نواجه ألف حريق من الغضب العنيف! وبينما نحن منهمكون فى الاحتفال بالنهاية المفترضة للأيديولوجيا والتاريخ والحرب الباردة، قد نجد أنفسنا ازاء نهاية الديمقراطية التى عهدناها، أى الديموقراطية الجماعية.
أن الاقتصاد المتقدم القائم على الحاسبات الآلية والمعلومات والمعرفة والاتصال العميق، يثير الشك فى كل وسائل الدفاع التقليدية عن الديموقراطية، متحدياً إيانا بأننا نعيد تحديدها بمعايير القرن الحادى والعشرين. ولكى نقوم بذلك نحتاج إلى صورة واضحة عن كيفية عمل هذا النظام، وكيف بدأ يتغير سلفاً! 
الحكومات ظلت تطبخ دفاترها على الأقل منذ اختراع دفاتر القيد المزدوج، بواسطة أهالى البندقية في القرن الرابع عشر، فقد دأبت منذ اليوم الأول على طبخ البيانات والمعلومات والمعرفة بكافة أنواعها وليس فحسب تلك الخاصة بالمال، أو الميزانيات. أما الجديد حالياً فهو ظهور القدرّة على استخدام الحاسب الآلي فى قلي هذه المواد أو سلقها أو طهيها بمواقد المايكرويف. فالسياسة تدور حول السلطة وليس حول الحقيقة. 
فالقرارات لا تبنى على النتائج الموضوعية أو الفهم المتعمق، بل على تصارع القوى التى تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية المفتقدة، وليس بمقدور الحاسبات الآلية أن تزيل ما يتسم به هذا الصراع من مظاهر لازمة ومقيدة. 
وعلى الرغم من الجلاسنوست ومن تشريع حرية تداول المعلومات وتسريب الأسرار، والصعوبة التي تجدها الحكومات اليوم فى الحفاظ على سرية الأمور.. على الرغم من كل هذا ومما هو أكثر غموضاً، العمليات الفعلية التي يمارسها من بيدهم السلطة. قد يكون على الأرجح فى تزايد لا فى تناقص وذلك هو السر الأسمى للسلطة!
كما أن الثورة التاريخية التى تواجه الآن صناعة الاستخبارات، ناقلة إياها إلى مرحلة ما بعد الإنتاج الكمى، تضعها مباشرة في طريق نظام خلق الثروة الجديد المتقدم. وتواجه هذه الصناعة مثل غيرها من الصناعات، منافسة من جهات غير متوقعة. ويتعين عليها شأنها في ذلك شأن غيرها من الصناعات، أن تُشكل تحالفات جديدة دائبة التغير، وعليها كغيرها أن تعيد صياغة تنظيمها، وأن تضع منتجاتها حسب متطلبات العميل، وأن تعيد النظر في مهامها الجوهرية.
سوف تكون الديموقراطية فى خطر مميت إذا أصبحت العمليات الاستخبارية (التي يتعذر سلفاً على البرلمانات والرؤساء التحكم فيها) جد متشابكة مع الأنشطة اليومية للمجتمع، وجد مركزية وجد ملتحمه مع مصالح الأعمال التجارية وغيرها من المصالح، إلى درجة تجعل السيطرّة عليها أمراً مستحيلاً!
تمر طبيعة السلطة والقوة حالياً بتحوّل جذري حقاً، إذ يتم تعريفها الآن بدرجة متزايدة من ناحية سوء توزيع المعلومات. 
أن التفاوت الذي ظل مرتبطاً لأمد طويل بالدخل أساساً، يجرى الآن ربطه بالعوامل التكنولوجية و بالتحكم السياسي والاقتصادي والمعرفة. 
في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت الأمم تخوض حروباً من أجل السيطرّة على المواد الخام، أما فى القرن الحادى والعشرين فإن المعرفة هي التي ستكون أكثر المواد الخام أساسية. فهل سيكون ذلك هو المحور الذي قد تدور حوله حروب المستقبل وثوراته الاجتماعية؟ 
واذا كان الأمر كذلك، فما هو الدور الذي تلعبه وسائل إعلام المستقبل عندئذ؟ —صحيح أن وسائل الإعلام الدولية لن تجعل الأمم تتصرف كأفراد الكشافة، لكنها تزيد من تكاليف تحدي الرأى العالمي! ففى عالم يقوم ببنائه بارونات الإعلام، سيكون لما يقوله الأجانب عن دولة ما وزن فى الداخل أكبر مما كان لها من قبل. ولا شك أن الحكومات ستخترع أكاذيب أكثر تطوراً تسوِّغ بها تصرفاتها الأنانية و التلاعب بوسائل الإعلام، التي ما فتئت تصير منهجية، وسوف تزيد كذلك من جهودها الدعائية، لتحسين صورتها الدولية. 
لكن عندما تفشل تلك الجهود، فإنها يمكن أن تواجه جزاءات اقتصادية ذات بال من جراء تصرفها المستفز لحفيظة سائر العالم. 
إن اباطرة الإعلام الجدد وغيرهم، يخلقون الآن أداة جديدة قوية، ويضعونها في يد المجتمع الدولي. بيد أن ذلك يكاد لا يمثل شيئاً بالنسبة لما يجري الآن. إذ أن النظام العالمى الجديد، بات في الواقع أداة رئيسية من أدوات الثورة فى عالم اليوم المتغير حثيثاً.
—حرية التعبير شرط أساسي للقدرة على التنافس الاقتصادي. هذا الاكتشاف يضع الأساس لتحالف مستقبل سياسي غير معهود.. تحالف يجمع بين المفكرين والعلماء والفنانون ودعاة الحرية المدنية من جهة، والمدراء المتطورون بل وحملة الأسهم و الرأسماليون من جهة أخرى. فكلهم سيجدون الآن أن مصالحهم مرهونة بتثوير التعليم، وتوسيع سُبل وصول المواطنين جميعاُ إلى الحاسبات الآلية وغيرها من وسائل الإعلام الجديدة، وبحماية بل وتوسيع حرية التعبير— 
إن الحكومات لا تظل ديموقراطية لمدة طويلة، عندما تكون خاضعة لسيطرة نفوذ المتطرفين، الذين يقدمون لونهم الخاص من الدين أو البيئة أو القومية على القيم الديمقراطية. ولإنقاذ التنمية والديموقراطية كلتيهما، تحتاج النظم السياسية للقفز إلى مرحلة جديدة، كما يفعل الاقتصاد نفسه حالياً. 
لكن فيما يدخل المجتمع الصناعى آخر مراحل انهياره، يجرى خلق قوى مضادة يمكن أن تدمر الديموقراطية وخيار التقدم الصناعي. وفى عصر تحول السلطة لن يكون الصراع الأيديولوجي الرئيسي بين الديموقراطية الرأسمالية والشيوعية، بل بين ديمقراطية القرن الحادى والعشرين وظلام القرن الحادي عشر!! 
يتناول المؤلف فى هذا الفصل الأخير، من آخر أبواب هذا الكتاب الضخم تحولات السلطة في الكتلة الشيوعية السابقة وفى عدد من بلدان العالم، مؤكداً أن النظام الجديد لخلق الثورة القائم على المعرفة، كان اما عاملاً هاماً، أو سبباً رئيسياً للتحول التاريخي الكبير فى السلطة، الذي يعيد الآن تشكيل العالم. مشيراً إلى أن المفتاح الجديد للتنمية الاقتصادية، واضح وجلي. والفجوة التي يتعين إغلاقها هي فجوة معلوماتية و إلكترونية.. انها ليست فجوة بين الشمال والجنوب، بل بين المبطئين والمسرعين— أن أهم ثورة على ظهر البسيطة اليوم، هى ظهور مدنية جديدة تنتمي للموجة الثالثة، وتتسم بنظام جديد جذري. لخلق الثروة. وأن حركة لم تستوعب هذه الحقيقة بعد، محكوم عليها باجترار إخفاقاتها. وأى دولة تجعل المعرفة أسيراً، انما تحكم على مواطنيها بالبقاء في كابوس الماضي. 
ومن خلال مناقشات المؤلف لتحولات السلطة في برلين وطوكيو وواشنطن، يؤكد أن القرارات التي تتخذها واشنطن عن وعي أو إهمال، ستشكل مستقبل سائر الأمم من الصين وروسيا، الى الشرق الأوسط وافريقيا وامريكا اللاتينية. ولكن فإن أهم تحول للسلطة على الإطلاق، ليس هو ذلك الذي يكون من شخص او حزب او مؤسسة او دولة، إلى آخر أو أخرى، بل أنه ذلك التحول الخفي في العلاقات بين العنف والسلطة والمعرفة، فيما تنطلق المجتمعات نحو صدامها مع الغد.
 

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.