آخر الأخبار
The news is by your side.

النزعة القومية و سرديات التهميش (2_3)… بقلم: أمجد هاشم

النزعة القومية و سرديات التهميش (2_3)… بقلم: أمجد هاشم

#السودان_أولاً

بالتزامن مع نهايات الحرب العالمية الثانية كانت تجري في السودان معركة حامية الوطيس بين التيار الإتحادي والتيار الإستقلالي اللذان انبثقا عن مؤتمر الخريجين وهي معركة ذات صلة بالنزعة القومية التي إستفضنا في الجزء الأول من هذا المقال في شرح إرتباطها بميكانيزمات الفرز والإنحياز السياسي محلياً و عالمياً.

كما هو معلوم فقد إنتهت هذه المعركة بالخسارة المدوية للمشروع الإتحادي (المدعوم مصرياً) تحت سنابك التيار الإستقلالي (المدعوم بريطانياً) وهو التيار الذي كان مهيأ لمناهضة قرار الإتحاد مع مصر في حال أقدم إسماعيل الأزهري (صاحب الأغلبية البرلمانية) على إعلان وحدة وادي النيل تحت قبة البرلمان و وفقاً لعدد من المصادر الموثوقة فإن التيار الإستقلالي بقيادة حزب الأمة كان مهيأ لما هو أكثر من المناهضة البرلمانية فقد جهز الإستقلاليون أنفسهم للمقاومة المسلحة و في سبيل ذلك و وفقاً لمبدأ (عدو عدوي صديقي) عملوا على توطيد علاقاتهم مع دولة إسرائيل الناشئة حديثاً في ذلك الوقت، فمن المعلوم أن الصديق المهدي (والد الصادق المهدي) و هو أول رئيس منتخب لحزب الأمة كان قد إجتمع في العام 1954 بوساطة بريطانية مع مسؤوليين إسرائيليين في لندن و هو الإجتماع الذي تلته عدة إجتماعات أهمها لقاء عبدالله خليل (سكرتير حزب الأمة) مع جولدا مائيير في العاصمة الفرنسية باريس و رغم محاولات بعض الخصوم السياسيين لحزب الأمة إستدعاء هذه العلاقة القديمة بين الإستقلاليين و إسرائيل للتشكيك في وطنية الحزب و مهاجمته ولكنني شخصياً أرى أن هذا الموقف الذي أقدم عليه حزب الأمة ينم عن وعي متقدم بالمصلحة الوطنية تحلى به قادة الحزب في ذلك الوقت عندما طبقوا عملياً شعار (السودان أولاً)، ولكن للأسف فإن المشروع الإستقلالي لم يصل إلى نهاياته ولم يحقق الإستقلالية الكاملة عن مخلفات الإستعمار المتمثلة في دولته المركزية غير المعبرة عن واقع التنوع في السودان و ذلك بسبب إرتباط الإستقلاليين عضوياً بالطائفية ومصلحياً بمشروع الدولة المركزية المختطفة والتي سرعان ما تورطت بعد الإستقلال في صراعات الدمج والإستلاب وبذلك إنتقل السودان من حالة الإستعمار الخارجي إلى حالة الإستعمار الداخلي.

الحق يقال أن الأزمة ليست أزمة التيار الإستقلالي وحده بل هي أزمة جميع الأحزاب السياسية التي تشكلت إبان معركة الإستقلال و المسماة مجازاً بالأحزاب القومية حيث نجدها بدون فرز قد تبنت نفس النظرة المركزية التي إنعكست بوضوح على هياكلها وبرامجها وآليات إتخاذ القرار والترقي الحزبي فيها مما أوجد حالة عزلة بينها وبين جماهير الهامش الذين خرجوا تماماً عن دائرة إتخاذ القرار وحرموا من ممارسة الفعل السياسي في سودان ما بعد الإستقلال الذي عز على المهمشين فيه التمتع حتى بمزايا الترميز التضليلي الذي كان أمراً عصياً في ذلك الزمان و الشاهد في الأمر ان قيادات الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتهم الايديولوجية (يسار ويمين) كانوا يتجاورون في نطاق دائرة سكنية لا تتجاوز الكيلومترات المعدودة من مجمل مليون ميل مربع هي مساحة السودان قبل ان تتقلص بإنفصال الجنوب وبالنتيجة إنحصرت مشاغل وهموم النخبة السياسية في إطار مشاغل وهموم من يسكنون هذه الكيلومترات المعدودة بينما تفجرت النزاعات المسلحة والقلاقل في ما عداها.

مع ذلك أعيد التساؤل مرة أخرى ما هي الموانع التي عطلت صعود حركات النضال السياسي المدني المدافعة عن حقوق القوميات السودانية والتي كانت دائماً ما توصف في أدبيات أحزاب المركز بالحركات الجهوية والعنصرية للتقليل من شأنها و تحقيرها وهل ظهورها كان يمكن أن يجنبنا دوامة الحروبات الأهلية والنزاعات المسلحة بإعتبار أن المطالبات السياسية/الحقوقية كانت ستتخذ في حينها طابعاً سلمياً على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا إبان الأبارتهايد وفي الولايات المتحدة الأمريكية إبان حركة النضال المدني المطالبة بحصول الأفارقة الأمريكان على حقوقهم المدنية؟

و ما الذي انحرف بالمظالم التاريخية المتراكمة إلى حالة من الانغماس في موجة من البكائيات والمناحات و إنجرف بها في بعض الأحيان إلى رد فعل غاضب يعيق المقاومة المشروعة للتهميش و يحول المشاعر النفسية السالبة إلى مجرد آلية لممارسة الدفاع النفسي التعويضي الذي يختزل الصراع حول السياسات التي أنتجت التهميش إلى صراع الكل ضد الكل الذي يتمحور حول الكيانات والأشخاص (ثنائية الجلابة و العبيد)؟!

في رأيي هنالك عدة عوامل وأسباب موضوعية وأخرى ذاتية ساهمت في تثبيط الحركة السياسية والمطلبية في الهامش وتأخير نضجها و من بينها لجوء الحكومات السودانية المتعاقبة إلى الحلول الأمنية الباطشة حتى في ظل العهود الديمقراطية، بالإضافة لغياب الوعي الجمعي بمشتركات الهوية الثقافية السودانوية أو إن جاز لنا القول الفرض المتعمد لهوية تخيلية عبر وسائل الإعلام و تحديداً عبر إذاعة أمدرمان الأوسع إنتشاراً وتأثيراً و كذلك عبر المناهج التعليمية التي لطالما مجدت الزبير باشا رحمة (النخاس الأشهر) و لم تتطرق إلى عبدالله السحيني الذي هزم الانجليز و قتل قائدهم الجنرال ماكلين في نيالا كما ظلت تتجاهل السلطان تاج الدين الذي هزم الفرنسيين وأباد جيشهم عن بكرة أبيه و قتل قائدهم الأعظم الكولونيل مول في معركة دروتي الشهيرة و لولا هذه المعركة لكانت دارفور الان جزء من مناطق النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، كل هذه السياسات الإقصائية كانت تهدف لتكريس صورة نمطية غير واقعية للإنسان السوداني (نموذج ود أمدرمان) و ما عداه لا تنطبق عليه صفات (ود البلد) و هو ما حفز حالة الإستلاب والتهميش الثقافي والسياسي والاجتماعي التي أدت لتكريس التفاوت بين أقاليم السودان فيما يلي مستوى الوعي بالحقوق السياسية كما أدت للتشكيك في مشروعية إستخدام آليات النضال المدني لإنتزاع الحقوق المسلوبة تحت وابل الإتهامات الموجهة بالعنصرية والجهوية، وهنا وجب علي توضيح أن هذا النوع من الإستلاب و التهميش الثقافي بعكس (التهميش التنموي) لا يتماهى مع الجغرافيا بقدر تماهيه مع تصوراتنا المغلوطة حول ما ينبغي أن تكون عليه الهوية السودانية وبالتالي يعاني منه كل من لا تنطبق عليه المعايير والشروط التي تتبناها الدولة السودانية الحديثة للهوية الرسمية وهو ما يبقي المهمش مهمشاً حتى وإن كان يسكن في قلب العاصمة المثلثة الأمر الذي يتمظهر من خلال ظاهرة الجيتوهات المعزولة في أطراف العاصمة والمدن الكبرى والتي يطيب لبعض الإقصائيين تسميتها بالحزام الأسود كما يتمظهر من خلال الإتفاق غير المعلن على إستمرارية هياكل الحكم والقوانين والسياسات التنموية و سياسات الخدمة العامة التي تكرس لبقاء و إستدامة دولة الإمتيازات التاريخية الظالمة.

أضف لذلك الجهل بالمظالم التنموية المشتركة التي ألقت بثقلها على جميع من هم خارج مثلث حمدي الأمر الذي أدى لإقحام المهمشين في صراعات جانبية فيما بينهم (النوبة والبني عامر نموذجاً) و هو ما حجم من فرص النضال المشترك بين المهمشين لإنتزاع حقوقهم في التنمية العادلة والمتوازنة، و لكن أن تأتي متأخراً أفضل من أن لا تأتي أبداً فقد جاءت الحركة السياسية المطلبية الواعدة و إشتد عودها وقويت شوكتها من رحم التهميش وإتضحت رؤيتها كثيراً خلال الثلاثين سنة الماضية و استبانت مسراها بالطريقة الصعبة (أزمة دارفور وحرب جبال النوبة ومآسي كجبار وبورتسودان والمناصير و غيرها) .

يتبع… الكتلة الإنتخابية الأكبر (3_3)

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.