آخر الأخبار
The news is by your side.

المساومات التاريخية، والتفهُم الاستراتيجي (2-2)

المساومات التاريخية، والتفهُم الاستراتيجي (2-2)

بقلم: التجاني عبد القادر حامد

تحدثت في الحلقة السابقة عن تجربتي في مساكنة بعض الزملاء الطلاب من جنوب السودان، وكيف أن تلك “المساكنة” قد انتهت بنا الى نوع من “التفهُم” والذي كاد أن يؤدى الى نوع من التحالف السياسي. أما تجربتي الثانية في محاولات “التفهُم” فتتعلق بشخصيات مرموقة لعبت أدوارا مهمة في السياسة السودانية. ويعود الفضل في هذه التجربة الى أستاذنا الشيخ محمد صادق الكاروري رحمه الله (نعم، الكاروري بتاع الجزيرة أبا! ولى مع “الجزيرة أبا” قصة قد أعود اليها). اقترح الشيخ الكارورى على وعلى الأخ الصديق عبد المحمود الكُرُنكي، وكنا قد تخرجنا حديثا في جامعة الخرطوم أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أن نأخذ جهاز تسجيل نطوف به على مجموعة من كبار السياسيين السودانيين (من ذوي الاتجاهات السياسية المخالفة لنا) قبل أن يدركهم الموت! أخذنا بنصيحته وانخرطنا في سلسلة من جلسات استماع ونقاش مطول مع من تيسر لقاؤهم (وقد ساعدنا الأخ الصديق حسن مكي، لما له من علاقات واسعة، في التعرف على العديد من الشخصيات). بدأنا تلك اللقاءات مع الأستاذ أحمد خير المحامي رحمه الله، الأب المؤسس لمؤتمر الخريجين والذي يعد بلا منازع رائدا من رواد الحركة الوطنية التي مهدت الطريق لاستقلال السودان. كان الرجل قد قارب الثمانين من العمر على ما اعتقد، ولكنه كان متوقد الذهن، عالي الصوت، قوى البدن (ومما يدل على ذلك أنه أصر، حينما امتد النقاش الى أواخر الليل، أن يقود سيارته بنفسه ويوصلنا الى منازلنا).

كان الحديث معه ممتعا ومنفتحا وساخنا في بعض الأحيان. تحدث في أول اللقاء بتواضع شديد عن دوره في الحركة الوطنية، وقال إنه لا يعتبر نفسه “بطلا”، فغيره قد قدم تضحيات أكبر. وأعترف بأنه لم يكن يخلو من “أنانية” المثقفين. وفي سياق حديثه عن تاريخ السودان سألناه عن الثورة المهدية، فقال بامتعاض: وهل المهدية “ثورة”؟ فتعجبنا من جرأته الصادمة، إذ كيف يصح في نظره أن يقال عن “انقلاب” الفريق عبود “ثورة”، ولا يقال مثل ذلك عن المهدية؟ وقادنا ذلك الى الحديث عن مسألة الديموقراطية، فقلنا له: لماذا بدأت مشوارك السياسي “ديموقراطيا” ثم أعرضت عن الديموقراطية لتتقلد منصب وزير خارجية في أول انقلاب عسكري؟ لم يغضبه السؤال، كأنما كان يقول بلسان الحال إن ذلك هو شأن معظم المثقفين السودانيين. غير أنه انتقد بعض مواقفه بشجاعة، ولكن قبل أن يستكمل الإجابة سأله الأخ عبد المحمود سؤالا مفاجئا و”مشاترا” عن تأثير “الفلاتة” في السياسة السودانية!! فاستشاط غضبا ثم التفت الى قائلا: “مالو أخوك دا عاوز يجنني”؟ (وبالفعل فان الأخ عبد المحمود كان يتعمد أن يطرح أسئلة “غير معتادة”، حتى كاد أن يجنني أنا أيضا، ولكن لعل مثل هذه الأسئلة هو ما جعله صحفيا متميزا فيما بعد). ثم حكى لنا عن “اقتحامه” (حينما كان وزيرا للخارجية) مقر الرئيس الكيني جومو كنياتا في منتجع نيفاشا بلا موعد، وكيف أنه سرد للحاضرين طرفا من نضال الرئيس جومو من أجل استقلال كينيا، وكيف أنه قد أطرب الرئيس بذلك الحديث، وكيف استطاع بهذا النوع من “الدبلوماسية” أن ينزع فتيل التوتر بين البلدين بسبب الطائرة السودانية التي اخترقت الأجواء الكينية. كانت الرسالة التي أراد ايصالها: إننا نحتاج الى مؤسسة دبلوماسية قوية أكثر من حاجتنا الى السلاح. نسيت أن أقول إنه اشترط علينا قبل الحديث معه أن نغلق آلة التسجيل، حينما سألناه عن السبب قال إنه يراعى حرمة الأموات. ولولا هذا الشرط لكان من الممكن أن يطلع القارئ على زوايا نادرة في السياسة السودانية. كان الانطباع الذي خرجت به أن الأستاذ أحمد خير لو لم يكن “محاميا” لكان “ضابطا”، إذ تراه يهتم كثيرا بتحديد “الهدف” ثم ينطلق لا يلوى على شيء. وظل سؤال يراودني: ألا نحتاج في أحزابنا الى هذا النوع من القيادات التي لا تعرف “الالتواء”؟ أم أن هذا النوع من القيادات ذات “الشكيمة القوية” لا يصلح في عمل الجماعة السياسية؟ وفى التطور نحو نظام “ديموقراطي” يعج بلو لو لولوة؟

ثم جلسنا الى الأستاذ مبارك الفاضل شداد، رئيس الجمعية التأسيسية (عن الاتحاديين). كان رجلا جم الأدب، ظاهر الاناقة، يميل الى الاستماع أكثر من ميله الى الكلام، رغم ما كان بيننا من فارق في السن والتجربة. لم نتمكن من الوصول الى مفتاح شخصيته، ولم نعرف ما إذا كان يتفق معنا فيما نقول أم يختلف، كان يمثل الطرف النقيض لما يمثله الأستاذ أحمد خير، مع أنهما “اتحاديان”، ولكنه أحسن ضيافتنا كما يكون الحال مع الوفود الأجنبية. لم يكن محتوى اللقاء مثيرا، ولكنى أدركت فيما بعد أن الرجل كأنه كان يريد أن يقول لنا (وقد لاحظ اندفاعنا ورغبتنا في الكلام): إن من حسن السياسة “ترك الثرثرة”. فإن كان ذلك ما قصد فقد صدق، لأنه ما أضر بالسياسة في السودان، بتقديري، الا الثرثارون الذين يبحثون عن الشهرة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.

قدرنا أن تلك قد تكون جرعة كافية من عينات “اتحادية”، فلماذا لا نستمع كذلك الى شخصيات في الجهة المقابلة: أي في حزب الأمة، قبل أن يدركهم الموت، بحسب وصية الشيخ الكارورى. جلسنا الى الأستاذ عبد الرحمن النور، المحامي وقطب حزب الأمة والمستشار المقرب من السيد عبد الرحمن المهدي (رحمهما الله)، فرحب بنا ترحيب الأب بأبنائه، وأخذ يتدفق في الحديث سواء سألنا أم لم نسأل. كان يعيش في التاريخ، فحدثنا عن مأساة “عنبر جودة”، وعن “حادثة المولد” التي ترافع فيها نيابة عن الأنصار. كان يتحدث عن هذه الأشياء كأنه يقرأ من صحيفة، رغم وقوعها قبل عقدين من الزمان أو يزيد. وحينما طلبنا منه أن يذكر موقفا كاشفا لجانب من شخصية السيد عبد الرحمن المهدى، ذكر لنا هذه القصة، قال: إن السيد عبد الرحمن وأنصاره أصيبوا بصدمة كبيرة عندما خسر حزب الأمة أول انتخابات عامة بعد الاستقلال. في ذلك اليوم لم يستطع أحد غيرى أن يدخل الى غرفة السيد. قال لي السيد وهو في غاية الحزن: “ماذا أقول عن هذا الشعب الذي بذلت من أجله كل ما عندي؟ هل أقول إنه شعب جاحد؟ لا، لا ينبغي أن أقول هذا، لأني لو قلت هذا لتركت السياسية، ولكن من الأفضل أن أقول إنه شعب مضلل، وعلينا أن نبذل المزيد من الجهد في توعيته”. ودعنا الأستاذ عبد الرحمن النور بحفاوة مماثلة للحفاوة التي استقبلنا بها. الغريب أنه لم يسأل عن أسمائنا ولا أحزابنا بل دعانا لمواصلة الحديث في جلسة أخرى. لم نتمكن من ذلك لأن الأجل قد سبقنا. غادرنا منزله ولكن كلمات السيد عبد الرحمن المهدى، التي جمعت بين مرارة الهزيمة وحكمة القيادة، لم تغادر مسمعي. صرت أتذكرها كلما منيت بإخفاق في العمل العام، فأقول لنفسي: إن الشعب إذا وعى لا يجحد ولا يخون، ولكن لعل بعض النخب وبعض “القيادات” هي التي تفعل ذلك في بعض الأحيان.

رأينا أن الاتحاديين وحزب الأمة لا يختلفون معنا كثيرا في المنطلقات الفكرية، فلماذا لا نتجه “يسارا”؟ لماذا لا نلتقي بالسيد عبد الكريم ميرغني، المفكر الاقتصادي اليساري (وهو كما علمنا أنه قد كان من أوائل السودانيين الذين درسوا الاقتصاد في بريطانيا، ومن مؤسسي الدبلوماسية السودانية، وقد عمل سفيرا للسودان في عدد من الدول، ثم صار وزيرا للتجارة بعد ثورة أكتوبر، ثم وزيرا للتخطيط في حكومة مايو الأولى التي كانت تتجه نحو الاتحاد السوفيتي، ثم أقيل من منصبه وأودع السجن في أعقاب الانقلاب الشيوعي بقيادة هاشم العطا عام 1971، وهو الانقلاب الذي قيل إنه كان مرشحا ليكون وزيرا للخارجية فيه). لم تكن لي معرفة شخصية بالرجل، ولم أره في حياتي، ولكنى كنت أتطلع الى الاستماع اليه، وأبحث عن “الزاوية” التي يطل من خلالها على السياسة والاقتصاد في السودان. أحسسنا للوهلة الأولى أن هناك حاجزا بيننا، فهذا رجل يختلف عن أولئك من حيث الكلام المختصر، والدقة في اختيار الكلمات، والحذر في إطلاق الرأي. كنا نود أن نتعرف على جوانب من رؤيته للاقتصاد السوداني (خاصة وأنه قد كان من واضعي الخطة الخمسية الأولى)، ولكن الذي أدهشنا أنه لم يكن متحمسا للحديث عن الاقتصاد كما توقعنا، ولا عن تاريخه السياسي، ولا عن علاقته بانقلاب الشيوعيين، وإنما كان راغبا في الحديث عن الاستعمار الجديد، وعن قضايا العالم الثالث، وعن اهتمامه بترجمة معاني القرآن الى اللغة الإنجليزية. خرجنا من عنده ونحن نتساءل عن سر العلاقة بينه وبين القرآن والترجمة (علمت فيما بعد أنه قد اعتزل السياسة ومال الى التصوف، وصارت داره منتدى للفكر والثقافة).

والتقينا في تلك الفترة بالسيد مأمون بحيرى، الخبير الاقتصادي المخضرم ومحافظ بنك السودان المركزي في عهد الفريق عبود. كان اللقاء في منزله بالخرطوم، وقد رحب بنا أيما ترحيب، ثم دعا السيدة حرمه الى الجلوس الى جانبه أثناء النقاش (كأنما يعبر بذلك عن موقف)، ثم أخذ يؤكد لنا ومنذ البداية عن عدم قناعته بما يسمى “اقتصاد اسلامي”، غير إنه على أية حال لا يرفض الاستماع لما يقول أصحابه. وأشار الى أنه أخذ يطلع أخيرا على بعض الكتابات التي تمده بها ابنته “هند” التي انضمت حديثا الى الحركة الإسلامية. لم نجادله كثيرا وقد غمرنا بفيض من كلام يدل على اطلاع واسع ومعرفة بالعالم. خرجت من ذلك اللقاء يخامرني اعجاب بهذه الأسرة التي يتواصل فيها حوار فكري بناء بين أب ليبرالي (كما كان يقال) وابنة إسلامية، وزوجة سودانية أصيلة. (تزوجت الدكتورة هند فيما بعد بالدكتور عبد الحليم عبد المتعافي الذي حضر ذلك اللقاء فيما أظن، وصار فيما بعد واليا للخرطوم ثم وزيرا مشهورا)

وهكذا تلاحظ أنى وصديقي الكُرُنكي قد التقيتنا في تلك الفترة الباكرة من حياتنا الفكرية السياسية بعديد من الشخصيات البارزة ممن كانوا يختلفون عنا في الرأي والرؤية، واستمعنا إليهم لساعات طويلة. لم يكن هدفنا من تلك اللقاءات أن نضم أحدا منهم الى صفوفنا، كما لم نكن نبحث عن مواقع لنا في أحزابهم، وإنما كنا نريد أن ندرب أنفسنا على عملية “تفهُم الآخر”، وعلى اكتشاف مناطق الخلافات الجوهرية، والتمييز بينها وبين الخلافات الثانوية. كنا نبحث عن المشترك الإنساني والوطني، لنقارب بينه وبين ما نؤمن به من قيم وأفكار، ولنتقدم بالوطن خطوة الى الامام.

وكانت حصيلة ما خرجت به من تلك اللقاءات والحوارات أن “الصورة” التي تضعها عن الآخر المخالف لك في الرأي (أو الموقف أو المذهب) قد لا تكون بالضرورة صورة صادقة، وأنك كلما اقتربت من الآخر، وحاولت بصدق أن “تتفهم” موقفه، كلما تقاربت المسافة بينكما، وكلما اتسع نطاق المشتركات. واستقر في نفسي بعد تلك الحوارات ألا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وأننا في الواقع لا نملك غير وطن واحد، وأن علينا في نهاية المطاف أن نتعلم أن نعيش فيه معا، وألا نقع في الخطأ الذي وقع فيه بنو إسرائيل حينما كتب عليهم في “الميثاق”: الا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم (أي أن يتجنبوا الحرب الأهلية)، فلما خرقوا ذلك الميثاق كتب عليهم الشتات الى يوم الناس هذا.

صرت أميل الى القول بإن قادة الجماعات السياسية في السودان المعاصر (وغيره من البلاد العربية)، خاصة من ذوي الأيديولوجيات الكبرى، قد يحتاجون الى نوع من استراتيجية “التفهم” هذه، لأنها تساعد على فضيلة التواضع، كما انها توفر مناخا مناسبا للحوار ولاكتشاف المشترك الانساني والوطني. ومدفوعين بهذه القناعة شرعت مع بعض الاخوة (وعلى رأسنا الأستاذ الراحل الطيب زين العابدين) في تكوين “الحركة الوطنية للتغيير” في عام 2013. كانت رؤيتنا التأسيسية تقوم على فكرة “ترميم الجسور” بين النخب، واستعادة الثقة بين العناصر الراغبة في أن تجعل قضايا الوطن تعلو على العصبيات الاثنية والحزبية، وكان الهدف هو الشروع في اعادة البناء الوطني على أساس من شراكة وطنية تقوم على العدل والحرية، والعمل الجاد في بناء القدرات الشبابية، وتوسيع فرصهم في الحياة الكريمة، ووفقا لنظام ديموقراطي توافقي.

خلاصة القول: إن المشكل السوداني يوجد، بتقديري، في “الداخل السوداني”، وإن حل هذا المشكل يوجد أيضا في “الداخل”. هذا لا يعنى أن “الخارج” لا يوجد، أو أنه لا يؤثر سلبا وايجابا، ولكنه يعنى أن الأثر الخارجي “السلبي” لن يكون حاسما الا في وجود “خميرة” داخلية سالبة يعتمد عليها في نزع “الثقة” بين الكيانات الوطنية الفاعلة، وقطع حبال التواصل والتفهم بينها، فينشط عندئذ كل طرف في شيطنة الآخر والقطيعة معه، لتكون المحصلة النهائية أن يهرول كل طرف من هذه الأطراف لإجراء “تفاهمات” مع “الخارج”. يهرولون الى الخارج وصدورهم عارية، وظهورهم مكشوفة، وخيولهم قد هدها الجوع، وخيامهم قد هوت بها الريح في مكان سحيق. ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.