آخر الأخبار
The news is by your side.

القوس و الذهب (المجد للأميرآلاي في عليائه) 4_4 بقلم: أمجد هاشم

القوس و الذهب (المجد للأميرآلاي في عليائه) 4_4 بقلم: أمجد هاشم

نحو قراءة منصفة للتاريخ ……

لقد ظلت توازنات القوس و الذهب هي الحارس الأمين للسودان و ثرواته تاريخياً إزاء الأطماع الخارجية حتى في عهد الممالك المسيحية (علوة و المغرة) عندما واجه رماة الحدق جيش الفتوحات الإسلامية بشجاعة أجبرت عبدالله بن ابي السرح على التراجع عن فتح السودان و إكتفى بالمصالح الإقتصادية التي عززها بموجب معاهدة البقط.

مع هذا و للأمانة علينا الإعتراف أنه على مدار التاريخ السوداني فشل السودانيون في إدارة هذه التوازنات مع العالم الخارجي على الوجه الأمثل في عدة محكات دائماً ما كانت مرتبطة بظروف داخلية من بينها على سبيل المثال حالة الإنحطاط المعرفي التي لازمت سلطنة الفونج الإسلامية في نهاياتها عندما إنغمس السودانيون في يوميات الدجل و الشعوذه و سادت حينها أفكار إنغلاقية معادية للعلم و التطور وثَّقتها لنا طبقات ود ضيف الله.

و هي أوضاع شبيهة بما تواجهه مناهج القراي حالياً في الشِق المتعلق بالانفتاح على العلوم و المعارف الإنسانية، المفارقة أنه في ذات الوقت الذي كانت فيه السلطنة الزرقاء تمر بأسوأ عهود إنحطاطها كانت مصر منغمسة في عمليات التحديث و الإنفتاح على العالم التي إبتدرها محمد علي باشا و التي أنتجت ما يعرف بمصر الحديثة و المتطورة في جميع مجالات الأدب و الفنون و العمران و الزراعة و نُظُم الري و العسكرية و هو ما سَهَّل على حملة محمد علي باشا إحتلال السودان و السيطرة على كامل حدوده التاريخية في العام 1821.

و من عجائب الزمان أن كثير من المصريين و من بينهم كتاب جهابذة و إعلاميين مرموقين يعتقدون إعتقاد راسخ بتبعية السودان تاريخياً لمصر إستناداً على هذه الفترة بالإضافة إلى فترة مشاركتهم الإسمية في ما سمي بالحكم الثنائي الذي أعقب حملة اللورد كتشنر لإعادة فتح السودان، و هناك بعض المغيبين منهم يعتقد أن محمد علي باشا هو من إكتشف و صنع السودان و يتجاهلون تاريخ تليد من الامبراطوريات و الممالك المسيحية و الاسلامية السودانية و كأنما تاريخ السودان بدأ بعد هذه الحقبة القصيرة التي سرعان ما انتهت بفتح المهدي للخرطوم عنوةً في العام 1885!!

أزمة النخبة السياسية السودانية:

الإحساس بالدونية و إزدواجية الولاء …. لقد عانت الطبقة السياسية السودانية التي تشكلت في أعقاب الحكم الثنائي من علة مزمنة ألقت بظلالها على التحيزات الإقليمية و موازين القوى في حوض النيل الشرقي حيث سيطرت القوة الناعمة المصرية على النخب السودانية الحاكمة التي لم تتعرف على العالم إلا من خلال ما تكتبه القاهرة مصداقاً لمقولة القاهرة تكتب و بيروت تطبع و الخرطوم تقرأ، و حينها أصبح الهدف الأسمى للساسة و العسكريين السودانيين على السواء هو الإنقياد الأعمى خلف الأجندة المصرية بكامل الرضا و الإنبهار حتى وإن كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية و ما إتفاقية مياه النيل و التفريط في الإرث الحضاري النوبي غرقاً تحت بحيرة السد العالي إلا دليل على ذلك.

و لكن للأمانة هناك قلة من السياسيين السودانيين قد لا يمثلون التيار العام كانوا محظوظين في التخلص من هذا التأثير بفعل معايشتهم للخذلان الذي تعرض له ثوار اللواء الأبيض من قِبَل الأورطة المصرية في الخرطوم و التي لم تحرك ساكناً عندما كان عبد الفضيل الماظ و رفاقه يتعرضون للقصف بالمدفعية الثقيلة عقاباً لهم على إشعالهم لثورة ضد الإنجليز و من المفارقات أن هذه الثورة كان شعارها الأساسي هو وحدة وادي النيل!!!!

هذه الحادثة شكلت نقطة فارقة لدى الكثير من الشباب السودانيين في ذلك الوقت و دفعتهم للإنضمام إلى التيار الإستقلالي فقد أدركوا بوعيهم المتقدم أن تقاعس الأورطة المصرية هو إشارة للمستقبل المظلم الذي ينتظر السودان في حال تمت الوحدة مع مصر، و من بين هؤلاء الشباب كان الأميرآلاي عبدالله خليل الذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء السودان في الديمقراطية الأولى (يوليو 1956- نوفمبر 1958) و سيذكر له التاريخ إعلانه حالة الإستنفار و تهديده لجمال عبدالناصر بتحريك الجيش السوداني إلى الحدود بين البلدين عندما قرر الرئيس المصري في 1958 إجراء إستفتاء على الجمهورية العربية المتحدة و كانت السلطات المصرية حينها قد أعلنت أن حلايب ستكون ضمن النطاق الجغرافي لعملية الإستفتاء و على إثر هذا التهديد تراجع عبدالناصر عن قراره و وجَّه بسحب الأتيام المسؤولة عن إجراء الإستفتاء من حلايب فوراً.

و هنا دعونا نتوقف قليلا و نتساءل لماذا تراجع جمال عبدالناصر بهذه السهولة و هو الذي كان في حينها الزعيم المتوج على قلوب ما سمي بجماهير الأمة العربية التي كان بمقدور إذاعة صوت العرب أن تحركها لإسقاط أنظمة و تركيع حكومات و الإجابة هي أن عبدالناصر كان في حاجة ماسة لإستكمال التفاوض مع السودان على إتفاقية مياه النيل حتى يستطيع الشروع في بناء السد العالي و قد فشلت المفاوضات مع حكومة الأميرآلاي في مراوحة مكانها بسبب المطالبة السودانية في ذلك الوقت بمناصفة إيرادات المياه بين البلدين و رَفض الأميرآلاي القاطع لأي خيار يتضمن ترحيل النوبيين أو إغراق الآثار النوبية.

كما أن عبدالناصر كان يعلم جيداً علاقة عبدالله خليل الوطيدة مع الولايات المتحدة التي أبدت رغبتها في إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في محمد قول بالقرب من حلايب و بالتزامن مع مفاوضات مياه النيل كان الأمريكان في نفس الفترة يتفاوضون مع الأميرآلاي على حزمة المساعدات الإقتصادية و الفنية الأمريكية للسودان في إطار ما سمي بالمعونة الأمريكية للدول الديمقراطية الحرة و هي المعونة التي تقدمها الولايات المتحدة بمبادرة لدفع الدول الديمقراطية الحليفة للقيام بإصلاحات إقتصادية و سياسية تتماهى مع النموذج الديمقراطي الغربي و هي إمتداد لخطة جورج مارشال التي كان لها الفضل في إعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية و قد ساهمت المعونة في تطور دول كثيرة متنت علاقتها مع القوة الأعظم في العالم مبكراً و منها كينيا و تركيا.

جمال عبدالناصر من ناحيته لم يسامح الأميرآلاي أبداً على إذلاله للقيادة المصرية علناً أمام العالم و هو الذي كان يظن نفسه زعيماً و قائداً للعرب من المحيط إلى الخليج خصوصاً بعد خروجه منتصراً من حرب السويس و معارك التأميم و لكن ناصر لم يكن غبياً كذلك لدرجة الدخول في مواجهة مباشرة مع عبدالله خليل ستكون نتيجتها المؤكده هي زيادة شعبيته و تعزيز حظوظه في الفوز بالإنتخابات السودانية المزمعة و هو ما سيبدد أي فرصة للوصول إلى إتفاق حول مياه النيل لذلك فضَّلَ الرئيس المصري تحريض الأحزاب الموالية لمصر و الأحزاب اليسارية الأجهر صوتاً في ذلك الوقت على مناكفة الحكومة و المزايدة عليها و تحريك المظاهرات في الشارع لتعطيل مشروع المعونة الأمريكية التي كان بمقدورها وضع الإقتصاد السوداني على المسار الصحيح تنموياً.

فالاقتصاد السوداني في نهاية الخمسينات كان يعاني بسبب الإنخفاض العالمي في أسعار القطن و الذي كان يعتمد عليه السودان حينها كمصدر وحيد للعملات الصعبة و قد راهن عبدالله خليل على المساعدات المالية و الفنية الامريكية في أن تُحدِث طفرة إنتاجية في قطاعات أخرى تُسهم في تنويع الصادرات السودانية و تقليل مخاطر الإعتماد الكلي على القطن، كما أنه كان يخطط بحسب وثائق الخارجية الأمريكية للإستعانة بالولايات المتحدة في تحديث شبكة الإتصالات و المواصلات و ربط جميع المدن السودانية بشبكة من الطرق و السكك الحديدية.

و لكن بينما الأميرآلاي يسعى لتحقيق هذه النقلة النوعية و الإختراق المهم في الإقتصاد السوداني الخارج لتوه من فترة الإستعمار جاءته الطعنة من الخلف فقد نجحت أحزاب اليسار الراديكالي في تهييج الشارع حديث العهد بالإستقلال ضد الحكومة تحت دعاوى أن مشروع المعونة الأمريكية ما هو إلا إستعمار جديد و أداة من أدوات الإمبريالية العالمية لتركيع الشعوب الأمر الذي ضيَّع على السودان فرصة أن يتحول إلى سنغافورة أفريقيا و هو يمتلك الموارد و الثروات الكفيلة بتحقيق ذلك في حال توفرت التقانة و التمويل الأمريكي.

للأسف فشل الأميرآلاي في تمرير مسودة الإتفاق السوداني-الأمريكي في البرلمان، مما أدى لتأزيم المشكلة الإقتصادية بسبب إنهيار الإحتياطي النقدي من العملات الأجنبية مما أصاب الكثيرين باليأس من العملية الديمقراطية نتيجةً لإنسداد أي أفق للحل السياسي، فقد تكتل اليسار مع الأحزاب الموالية لمصر في جبهة واحدة إستفادت من التدفق الغزير للمال الإنتخابي المصري الفاسد فأصبح إسقاط الحكومة برلمانياً مسألة وقت ليس إلا خصوصاً بعد التقارب بين علي عبدالرحمن زعيم حزب الشعب الديمقراطي و إسماعيل الأزهري زعيم الحزب الإتحادي الوطني بوساطة و حضور جمال عبدالناصر شخصياً بغرض إسقاط عبدالله خليل و تشكيل حكومة جديدة معادية للولايات المتحدة و رافضة للمعونة الأمريكية و هو ما يعني عملياً إعادة السودان إلى الحظيرة المصرية و تمرير إتفاقية تقاسم مياه النيل المذلة التي حدت من مقدرة السودان على التوسع في المشاريع الزراعية المروية إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من مصر.

الأمر الذي إضطر الأميرآلاي في النهاية إلى تسليم السلطة لقيادة الجيش مؤقتاً بحسب إتفاقه مع الجنرال عبود قائد الجيش على خلفية معلومات إستخباراتية تحدثت عن تخطيط إنقلابي يقوده مجموعة من الضباط الصغار الذين إستهوتهم تجربة الضباط الأحرار في مصر و هو ما حدث فعلاً و لكن في مايو 1969 عندما قاد ضباط صغار ينتمون للحزب الشيوعي و لتنظيمات الضباط الأحرار ذات الولاء الناصري إنقلاباً راديكالياً على الديمقراطية الثانية و هو الإنقلاب الذي مهدت له القوى اليسارية إبان ثورة أكتوبر 1964 عندما أصرت على إقصاء كبار الضباط عن الجيش مما أتاح الفرصة لصغار الضباط ذوي التوجهات اليسارية للعبث بالقوات المسلحة و إستخدامها لتصفية حسابات سياسية.

عبود من ناحيته تنصل عن إتفاقه مع الأميرالاي و إستفرد بالسلطة و بذلك إنتهت الحياة السياسية للأميرآلاي عبدالله خليل، واحد من أعظم الساسة السودانيين في العصر الحديث و أكثرهم براعة في (لعبة الأمم) و هي لعبة لا يجيدها للأسف غالب الساسة السودانيين إما بسبب إحساس يلازمهم بالدونية تجاه الدول الأخرى أو بسبب ولاءاتهم المزدوجة.

لا يوجد في رأيي تلخيص أدق للأحداث التي شهدتها تلك الفترة من التوصيف الذي ورد في وثائق الخارجية الأمريكية عندما أبدى السفير الأمريكي في إحدى مراسلاته مع واشنطن إحباطه و إستياءه من الطبقة السياسية السودانية و تشكيكه في مقدرتها على الخروج من جلباب القاهرة و تغليب المصلحة الوطنية السودانية فوق أي إعتبار، الأعجب أن المعونة التي رفضها البرلمان السوداني تضامناً مع مصر في معركتها ضد ما تسميه بالإمبريالية ظلت مصر نفسها تتلقاها بإنتظام منذ 1979 و حتى وقتنا الراهن بقيمة إجمالية تصل إلى 2.5 مليار دولار سنويا و الأكثر غرابة أن مصر الرسمية فيما بعد باتت تتبجح على السودان بعلاقاتها الوثيقة و تحالفها الإستراتيجي مع أمريكا في سياق إستعراض قدرتها على تخفيف الضغط الدولي على حكومة المخلوع عمر البشير!!!

مع ذلك فإن الإخفاقات السابقة جميعها على مرارتها لا يمكن مقارنتها بأي حال في السوء مع فترة الإنحطاط الأكبر في تاريخ السودان عندما سيطرت الفاشية الإخوانية على السلطة في الفترة الممتدة من 1989 و حتى 2019 و يكفيني هنا فقط وصفها بالفترة التي إختلت فيها التوازنات لدرجة أن تتجرأ إثيوبيا و مصر على إحتلال أراضي سودانية مُثبتة بالوثائق الدولية، و سبب هذه الجرأة هو مغامرات نظام الجبهة الإسلامية الأخرق الذي هيأ له هوَس الإيديولوجيا أن بإمكانه أن يحكم العالم من الخرطوم فكانت النتيجة هي تحويل السودان إلى دولة مشبوهة يتم التعامل مع مواطنيها في مطارات العالم كإرهابيين محتملين.

الجيل السوداني الجديد ….

الأمر المطمئن أن الجيل السوداني الجديد الذي نجح في إسقاط واحد من أسوأ الأنظمة القمعية في تاريخ السودان الحديث هو قادر بالتأكيد على الإستفادة من دروس التاريخ و بإمكانه التصدي لحالة الإنحطاط المعرفي الشبيهة بالحالة التي لازمت السلطنة الزرقاء و أوقعتها في براثن الغزو المصري كما أنه قادر على التحرر من جميع الإيديولوجيات التي لا تعلي من شأن المصلحة الوطنية يسارية كانت تلك الإيديولوجيات أو يمينية، فواحدة من المزايا التي أتاحتها التكنولوجيا و العولمة و إنفتاح أبواب الهجرة لهذا الجيل من السودانيين إلى بلاد تموت من البرد حيتانها هي فرصة الإنعتاق من القوة الناعمة المصرية و التعرف على العالم بعيون سودانية، فمسلسلات الساعة 8 مساءً التي واظب تلفزيون السودان القومي على بثها لم يعد هناك من يشاهدها.

فالسوداني لم يعد مأسوراً بالدراما و الأفلام و البرامج المصرية الرديئة التي لطالما حاولت تحقير الآثار السودانية و التقليل من شأن الشخصية السودانية عن سابق إصرار و ذلك بتكريسها لصورة نمطية تضع السوداني و النوبي المصري في قالب الكسل و البلاهة و هو ما تبنته للأسف الدراما الخليجية بفعل التأثير الطاغي للدراما المصرية و غياب الدراما السودانية عن الساحة، تجدر الإشارة هنا أنه من السذاجة بمكان حصر الخلاف بين شطري وادي النيل في إطار ردود الأفعال الغاضبة على الخطاب الاعلامي المصري المبتذل تجاه السودان والسودانيين كما يحدث دائماً فهذا الخطاب هو ليس أصل المشكلة و لا يتعدى كونه مجرد مظهر من تمظهراتها، فحتى وإن إنضبط الخطاب الاعلامي بين الفينة و الأخرى و ساد مكانه خطاب الأخوة و المصير المشترك بإيعاز من المخابرات المصرية فستبقى مصر الرسمية هي المحرك الأساسي لهذا الإبتذال و التدليس ضد السودان لإعتبارات جيوسياسية سأفصل فيها لاحقاً و هو ما يتطلب من الإعلام السوداني التخلي عن سياسة ردود الأفعال و إطلاق خطاب إعلامي مضاد و أعمال درامية سودانية تعمل على تصحيح الصورة و إزالة اللبس و التشويش و الأكاذيب التي درجت أجهزة الإعلام المصرية على ترويجها حول التاريخ السوداني و الشخصية السودانية على نطاق واسع إقليمياً و عالمياً.

ما هو المانع في أن تنتج الحكومة السودانية أفلام سينمائية ملحمية بميزانيات كبيرة تعيد تعريف العالم بالإمبراطورية الكوشية التي وصفها اليونسكو بالقوة العظمى التي ضارعت في زمانها الرومان و الفرس في القوة و النفوذ أو دراما تسلط الضوء على شخصيات مثل السلطان تاج الدين الذي نجح في دحر التمدد الاستعماري الفرنسي نحو السودان أو شخصية أخرى مثل الأميرآلاي عبدالله خليل السياسي المعاصر الذي ضحى بمستقبله السياسي في سبيل المحافظة على إستقلالية القرار السيادي السوداني إزاء التدخلات المصرية السافرة.

ما هو المانع في أن تنتج الحكومة السودانية أفلام وثائقية عن صناعة الحديد و الفولاذ في مروي التي أطلق عليها علماء التاريخ الأوروبيين تسمية (بيرمنغهام إفريقيا) بسبب سيطرتها على صناعة و تجارة الحديد عالمياً في القرن السادس قبل الميلاد و بالتأكيد هذا النوع من الترويج سيكون له مردوده الإقتصادي الكبير على السودان عبر قطاع السياحة الذي نمتلك فيه ميزات تفضيلية تتعدى سياحة الآثار و الفلكلور الى سياحة الحياة البرية و الترفيهية التي يدعمها تنوع البيئات الطبيعية في السودان.

نحو نظرة مستقبلية تتفادى الأخطاء التاريخية…

إن أمام هذا الجيل واجب منزلي مهم لا بد من إستكماله قبل المطالبة بأن تكون للسودان علاقات خارجية متوازنة و ندية مع محيطه الأقليمي و قبل المطالبة بتحرير الأراضي السودانية المحتلة، هذا الجيل مطالب أولاً بتحرير السودان من النخب السياسية و مراكز النفوذ السلطوي ذات الإرتباطات الخارجية المسيطرة على الدولة السودانية و عملية إتخاذ القرار السيادي فيها منذ الإستقلال و تحريره كذلك من أحزاب اليسار العقائدي و اليمين الأصولي المهووسة بمشاريعها الأممية العابرة للحدود و القارات، فحلايب لن تستعيدها دولة تريد محاربة الرأسمالية و الصهيونية و أسراب الغيلان و العنقاوات بالنيابة عن المضطهدين و المظلومين في العالم أجمع بينما هي في الواقع لا تقوى حتى على محاربة الملاريا و باعوضها الناقل.

فحلايب يا سادة يا مأدلجين لن تستعيدها دولة تستخدم الموانئ و البواخر المصرية لتصدير المنتجات السودانية، حلايب لن تحررها دولة منغمسة كلياً في مشاكل الدقيق و الوقود، حلايب لن تعود في ظل دولة تمد أيديها و تلجأ إلى الجيش المصري لحل أزمة الرغيف في السودان و الأهم من ذلك أن حلايب لن تعود ما لم نستكمل تحولنا الديمقراطي المدني المستدام و إصلاحاتنا الإقتصادية الهيكلية، و لن تعود ما لم نستعيد بالكامل إستقلاليتنا السياسية، فحلايب ستستعيدها فقط دولة تدرك قيمة الموارد و الثروات التي يحوزها السودان و أهمها 145 مليون رأس من الأنعام غير المستغلة و 200 مليون فدان من الأراضي الزراعية غير المستثمرة كافية لتحقيق الأمن الغذائي الإقليمي و العالمي بعد أن يتم إستزراعها بإستخدام التقانات الحديثة بمساعدة أصدقائنا القدامى الجدد في دول العالم الأول.

حلايب ستستعيدها دولة تضع في صدر أولوياتها تأهيل مشاريع الري الحالية و التوسع فيها و زيادة السعة التخزينية لبحيرات السدود السودانية، دولة تُدرك أن السودان يهدر سنوياً 450 مليار متر مكعب من مياه الأمطار (تعادل الحصة السودانية من مياه النيل 25 مرة) كافية لتجنيبنا شر الإبتزاز المائي الإثيوبي إذا تم إدارتها و إعادة توجيهها بالطريقة الأمثل، دولة تُدرك أن مصر الرسمية ستظل دائماً معادية لإزدهار السودان لإعتبارات جيوسياسية فالتاريخ القديم والحديث علَّمنا أن شمال وادي النيل لا يتحمل إزدهار حضارة مستقلة في جنوبه بسبب تصورات راسخة تتبناها الدولة المصرية العميقة و مؤسساتها الأمنية تدور جميعها حول الخوف من إستنزاف السودان المزدهر لما تسميه بحقوقها التاريخية في مياه النيل و هناك شواهد كثيرة على هذا التوجه المصري منها التدخلات السلبية الضارة بالحياة السياسية الديمقراطية في السودان منذ إستقلاله و حتى الآن بالإضافة إلى شواهد أخرى منها على سبيل المثال أن مصر الرسمية في فترة الحكم الثنائي ظلت تقف حجر عثرة و تعترض على المشاركة في تمويل أي مشاريع تنموية إقترحها الإنجليز في السودان بما فيها مشروع الجزيرة و خزان سنار مما إستدعى الحاكم العام البريطاني في ذلك الوقت للإقتراض من حكومة لندن لتنفيذ هذه المشاريع بضمان من البرلمان البريطاني.

و في التاريخ المعاصر حاولت القاهرة إبان الأزمة الدستورية التي صاحبت حل الحزب الشيوعي في العام 1965 أن تفجر الموقف و تُقحِم الخرطوم في حرب عصابات داخل المدن السودانية و ذلك عندما زوَّد جمال عبدالناصر الحزب الشيوعي السوداني بالسلاح و لكن الحزب على ما يبدو لم تكن لديه الجرأة للتورط في هذا النوع من الصراعات فإحتفظ بالأسلحة المصرية في مخابئ سرية و لم يتم العثور عليها إلا في أعقاب انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971 و في حينها كشف عبدالخالق محجوب لأول مرة مصدر الأسلحة في الجلسة الثانية السرية من محاكمته قبل إعدامه و التي سرب مضابطها الصحفي إدريس حسن.

كما كان لمصر الرسمية لاحقاً دور كبير في تأزيم علاقات السودان مع دول الخليج و الدول الغربية عندما نشرت تقارير إستخباراتية مزيفة عبر إعلامها إدعت فيها أن السودان بالتواطؤ مع صدام حسين قد نصب منصة صواريخ سكود عراقية قبالة السد العالي شبيهة بالتي أطلقها صدام على تل أبيب في أعقاب حرب الخليج الثانية و واحدة من تبعات هذه الإدعاءات كانت طرد أعداد كبيرة من العمالة السودانية في الخليج و إستبدالها بالعمالة المصرية، كما لمصر الرسمية مواقف مشهودة دولياً في التحريض على عدم رفع العقوبات المفروضة على السودان عندما كانت الدول الكبرى في عهد النظام البائد لا تتعامل مع الملف السوداني إلا عبر وسطاء إقليميين.

ومن المعلوم للجميع أن ملف العلاقات مع السودان تديره في مصر المخابرات العامة (سيئة السمعة) بدلاً عن وزارة الخارجية و أن سفراء مصر في السودان دائما ما يأتون بخلفية مخابراتية و هو وضع شاذ و غريب لا يوجد في أي مكان آخر في العالم و يعكس النوايا السيئة التي تضمرها مصر الرسمية تجاه السودان لذلك فإن إستعادة حلايب لن تتم إلا في ظل دولة صارمة في حماية الأمن القومي السوداني من التدخلات الخارجية، دولة لا تسمح للمخابرات المصرية تحت مسمى البعثة الديبلوماسية المصرية بأن تجعل البلاد مرتعاً لعملياتها التخريبية بهدف الإبقاء على السودان دائماً في مربع الدولة الفاشلة و القابعة في الحديقة الخلفية لمصر، حلايب ستستعيدها دولة مدنية كاملة الدسم لا مكان فيها للميليشيات و المرتزقة مزدوجي الولاء، دولة يخضع فيها الجيش الموحد و الشرطة الفيدرالية و المخابرات المركزية لسلطة المؤسسات المنتخبة و المسؤولة أمام الناخب السوداني الذي سيحاسبها على تفريطها في الأمن القومي إذا حدث.

فإستعادة حلايب لن تتم إلا في ظل حكومة مستعدة أن تتحمل التكلفة السياسية لمواقفها و قراراتها أمام الناخبين السودانيين بكامل التجرد و الشفافية و المسؤولية، حكومة تعمل على جذب العقول السودانية المهاجرة و حشد طاقات شعبها الذي يحمل جينات من شيدوا الحضارة الكوشية العظيمة، حكومة تضرب بطاقمها الوزاري المثل أمام شعبها في الكفاءة و التفاني و الحرص على قيم العمل و الإنتاج، حينها فقط ستعود حلايب سِلماً و ليس حَرباً بعد أن يصبح السودان المارد الأفريقي الذي تنبأ به العالم دائماً، فالسودان بإمكاناته البشرية و موارده الطبيعية قادر على أن يتحول إلى قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب.

في نهاية هذه السلسلة من المقالات التي تناولت الأبعاد الجيو-سياسية للعلاقة المعقدة بين السودان و جاريه الشرقي و الشمالي أود الإشارة إلى نقطة مهمة و هي ضرورة التمييز ما بين مصر و إثيوبيا الرسميتين اللتين يجب التعامل معهما بحذر وفق مقتضيات العقل الإستراتيجي و ما بين شعبيهما الشقيقين و هما اللذين سيبقيان إلى جوارنا بحكم الجغرافيا أمد الدهر.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.