آخر الأخبار
The news is by your side.

القرض المعبري عبور نحو النمو المستدام ام مزيدا من الديون (2)

الاقتصاد السياسي للسودان … بقلم: د. سبنا امام

القرض المعبري عبور نحو النمو المستدام ام مزيدا من الديون (2)

مالم تقله روشتة الإصلاح الاقتصادي للصندوق عن أسباب فشل آلية السوق في السودان

كنا في الجزء الاول من مقالنا هذا قد وضعنا اساسا نظريا يفسر سبب فشل اغلب الدول النامية في الاستفادة من المنح والقروض. ودخولها في دوامة الاستدانة ثم الاستدانة المضاعفة لسد العجز في خدمة الدين.

الا ان الاسباب التي ذكرناها هي اسباب اقتصادية مجردة ولا تتناول اسباب المسكوت عنها عن عدم جدوى سياسات البنك والصندوق في دول كالسودان وهو ما سنسلط عليه الضوء الخافت فقط في هذا المقال الذي يلخص الفكر الراسمالي الحديث. والذي يمثل الخلفية الفلسفية التي تستند عليها كل الاصلاحات التي تتبناها مؤسسات الامم المتحدة ببرامجها المختلفة.

الحقيقة ان الوضع الاقتصادي في السودان لا تشرحه فقط النماذج الاقتصادية والأرقام حيث انها تمثل تجريدا مخلا بالواقع وتجعل كل الاقتصادات تبدو متجانسة وكأنها شيء واحد تماما مثل علم التشريح الذي يتعامل مع الجسد الانساني الواحد بغض النظر عن الاختلافات اللونية او الشكلية والواقع هو ان علم الاقتصاد علم اجتماعي بالأساس يلعب البعد الاجتماعي والسلوكي والسياسي فيه دورا كبيرا ولا يمكن في الواقع فهم لماذا يتسم النمو الاقتصادي في السودان بالضعف والتذبذب فقط بأدوات الاقتصاد البحت التي تهمل تماما الابعاد الاخرى بإعتماد اسلوب البحث العلمي التجريدي الذي طغى على البحوث الاقتصادية في السنوات الأربعين الاخيرة.

وتلك هي الاحترافية في الاقتصاد فالاقتصادي المحترف هو من لديه القدرة على وضع استراتيجية اقتصادية تستوعب المراحل الاجتماعية والسياسية السائدة في مجتمع معين، والحقيقة انه ومنذ ان تغلبت الولايات المتحدة على الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة وولد النظام العالمي آحادي القطب بات السودان منطقة نفوذ الفكر الاقتصادي الرأسمالي و تم خلق طبقة من الاقتصاديي الاتجاه السائد ممن لا يعرفون غير آلية السوق وباتت كليات الاقتصاد لا تدرس غير المدرسة الكلاسيكية وما تولد عنها مثل الكينزية والنيوكلاسيكيه والنيوليبرالية وغيرها على انها الادوات الوحيدة التي يجب ان يتعاطى معها الاقتصادي في مصانعته للسياسات المالية والنقدية.

ولكن الكارثة الكبرى التي يعاني منها الاقتصادالعالمي منذ نهاية الحرب الباردة وتعاني منها بشكل اكبر الاقتصادات النامية مثل السودان هي ما يعرف بفشل آلية السوق التي مظهرت في عدم قدرة نماذج هذة المدرسة على التنبؤ بالازمات الاقتصادية الي تضرب الاقتصاد الخالمي دعك عن إيجاد حلول لها.

وفشل آلية السوق مصطلح دقيق ويصف حالة محددة في الاقتصاد وهي عدم احتواء النموذج الكلاسيكي للخارجنيات وازمة تراجع السلع العامة والتدهور البيئي الناتج عن الإنتاج المفرط واخيرا الازمات المالية العالمية وازمة تفشي الاوبئة العابرة للقارات. وهذه الازمة تعاملت معها الدول بشكل مختلف فدول كالنرويج ابتكرت نموذج الديمقراطية المجتمعية ودول الاتحاد الاوروبي تبنت نموذج دولة الرعاية الاجتماعية اما امريكا معقل النظام الرأسمالي فتبنت نموذج دعه يعمل دعه يجد بمعنى انك لكي تحصل على الخدمة يجب ان تكد بنفسك ولا شيء مجاني .

وهذه النماذج المختلفة تختلف باختلاف طبيعة وإمكانيات هذة الاقتصادات فالنرويج غنية بالموارد الطبيعية كالنفط والغاز ودول اوروبا ليست لديها قدرة على خلق وظائف كافية للراغبين في العمل فمعدلات البطالة كبيرة جدا والواقع هو ان اوروبا من اكثر الدول انعداما للوظائف ولكنها تحسن اداره المتعطلين في نموذج تقاسم فرص العمل والدخل. اما الولايات المتحدة فهي اكبر معقل للاستثمار المالي في العالم ولذلك تتوفر لصغار المستثمرين الفرص دائما لخلق فرص عمل كبيرة ولذلك فهي من اكثر الاقتصادات خلقا للوظائف فعائدات النفط والسلاح وكل تجارة الصين تتم إعادة استثمارها في اسواق المال الامريكية مما يوفر تمويلا ضخما للمستثر الأمريكي ويمكنه ان يستثمر من القيادة بنظام الUber وحتى شركة كSpace xالتي تستثمر في استعمار المريخ.

هذا على الرغم من معدل ادخار الامريكيين المنخفض و الذي لا يتجاوز ال2%ولكن اغلب التمويل يأتي من شراء الدول لأذونات الحكومة الامريكية وايداع ارباحهم في البنوك الامريكية. وعليه هنالك دائما فرصة لاي راغب في الثراء في امريكا لان يحقق حلمه ولذلك هي ارض الفرص اما اوروبا فقد باتت اليوم اقرب ما يكون للنظام الاشتراكي الذي يسمح بتفاوت بسيط لا يمكن ملاحظته في كثير من الاحيان ولا يحفز اي مستثمر.

وبالعودة للسودان فشأنه شأن كل الدول ذات النظام الرأسمالي الذي بدأ في عهد نميري ثم اخذ شكله المكتمل في عشرية الانقاذ الاولى التي اخرجت الدولة تماما من السوق ومن الخدمات مفسحة المجال للقطاع الخاص ليحل محل الدولة في تقديم السلع والخدمات حتى وصل الامر لتكوين جيوش قطاع خاص مثل جيشي موسى هلال وحميدتي ليشارك القطاع الخاص في تقديم خدمة هي من صميم عمل الدولة وهي الدفاع. ولكن وكالعادة فشل نظام السوق في السودان للاسباب الاتية:

اولا العيوب الهيكلية للاقتصاد السوداني وهذه العيوب جعلته اقتصاد معادي للنظام الرأسمالي فكما ذكرنا النظام الراسمالي package يجب ان يصحبه تغيير اجتماعي وسياسي لكي يعمل تماما مثل الماكينة فالديمقراطية والعلمانية وتحرير المرأة ليست مطالب انسانية بل هي من صميم شروط نجاح النظام الرأسمالي ولكن العوائق الدينية والاجتماعية والسياسية حالت دون تبني السودان للجزء السياسي والاجتماعي من الروشتة واكتفى بالجزء الاقتصادي.

فكون السودان دولة اسلامية وبلغت ذروة الحكم الاسلامي بقيام خلافة نميري عام 83 وتلتها الصحوة الاسلامية للصادق المهدي ثم اخذ المد الاسلامي ذروته بقيام خلافة الاخوان عام 89 هو واحد من اسباب فشل نظام السوق وروشتة الصندوق في السودان فالاسلام يتعارض مع الرأسمالية مثلا في عدم اعترافه بسعر الفائدة وسعر الفائدة هو الاساس الذي تقوم عليه الصيرفة الراسمالية والتمويل الرأسمالي وبدونه تصبح كل المصارف عبارة عن خزن لحفظ وتداول الاموال ولا يمكن ان يكون لها اي اثر اقتصادي ملموس وهو ما يفسر ضعف الجهاز المصرفي السوداني من المركزي حتى اخر بنك في اي اقليم.وهذا مثل واحد لتضارب الشريعة مع النظام الرأسمالي ولا يتسع المجال لذكر اخرى.

ثانيا كذلك التركيبة الاجتماعية للسودان التي تقيد حرية المرأة وتمنع عملها في بعض الوظائف وتقيد حركتها بدون ولي ايضا هي من صميم معوقات النظام الراسمالي اذ لم تكن الرأسمالية لتنجح في امريكا واوروبا لو لم تحرر المرأه تماما من كل القيود المجتمعية بحيث يسمح لها بالسكن لوحدها والعمل في اي مجال والتنقل كيفما تشاء. فشل السودان في الايفاء بهذا الشرط ايضا ادي لفشل آلية السوق وروشتات الصندوق.

ايضا يقوم النظام الرأسمالي على تقديس الفردية والفردية هي إلهة الرأسمالية ومعبودتها الاولى التي انجبت كل آلهة الرأسمالية الاخرى كالسوق الحر وحرية التدين وحرية الجسد والفكر…. والخ . فالفرد هو اساس القانون والتشريع والفردية individualism مقدسة وتتفوق على الجماعة لان نه كما قلنا مصلحة الجماعة تتحقق بتعظيم المصلحة الفردية ولكن في السودان تذوب مصلحة الفرد في مصلحة الجماعة من اسرة وعشيرة وقبيلة ولذلك بستحيل ان ينجح النظام الرأسمالي.

اما الاسباب السياسية فهي الاسباب الظاهرة والمعروفة وهي غياب الديمقراطية والضعف المؤسسي وانتشار الفساد. والديمقراطية ليست غاية في الدول الأوروبية وانما هي نظام حكم يخدم النظام الرأسمالي او الماكينة الرأسمالية ولو كان النظام الديكتاتوري يخدم النظام الرأسمالي بشكل افضل لتبنت كل الدول الغربية ابشع النظم الديكتاتورية دون تردد.ومثال على خدمة النظام الديكتاتوري للنظم الرأسمالية الصين وفيتنام.

هذة الشروط لا تكتب ضمن روشتة الصندوق ولكنها تمثل الفلسفة الاقتصادية التي يقوم عليها الاقتصاد الرأسمالي فالنظرية الرأسمالية انشأها آدم سميث وفي تساؤله عن اسباب ثروة الامم وضع الاساس للاقتصاد الرأسمالي الذي يقوم قرار الفرد الراشد فيه على الغرائز البشرية المجردة مثل الانانية وحب الذات وتقديم المصلحة الفردية على الجماعية واشباع رغبات الجسد دون اي قيود وهو يرى ان مصلحة الجماعة هي الحاصل التجميعي لمصالح الأفراد فإذا ما ركز كل فردعلى تعظيم منفعته ومصلحته وحاجته تعظمت المصلحة والمنفعة والاشباع الجماعي للمجتمع وعليه فلا تناقض بين مصلحة الفرد والجماعة ولكن على ارض الواقع خلق النظام الرأسمالي في كل العالم مجموعة صغيرة تحقق ارباح ومصالح وطبقة اخرى تمثل اغلبية الشعب تكافح كل يوم من اجل البقاء في تناقض واضح مع تنبؤات سميث حيث ان مصلحة الفرد تتضارب مع مصلحة الجماعة بل ويمكن لفرد واحد ان يعظم منفعته بحرمان الملايين من الحد الادنى اللازم للبقاء.

ولذلك انتهت سياسات تحرير السوق في اغلب الدول التي يوجد بها عامل واحد او اكثر من العوامل اعلاه الى فشل الية السوق واضطراب النمو وتراكم الديون وانشار الفساد.

وعليه فالخروج من دوامة النمو المنخفض تحتاج محترفي اقتصاد والمحترفين يعرفون فلسلفة اي نظام يستخدمونه وهو للأسف ليس الحال في السودان فمثلا تهليل د جبريل للنظام الرأسمالي لا يخرج من احتمالين اما انه لا يعرف فلسفة الاقتصاد الرأسمالي وهذا امر مستغرب على شخص يحمل درجة الدكتوراة في الاقتصاد واما انه ليس اسلاميا كما يدعي فالاسلام والراسمالية لا يجتمعان ابدا وقد حاول النظام السابق خلق نظام راسمالي اسلامي وكانت النتيجة كما شاهدتم جميعا . ونحن اليوم نسأل ما الذي تغير في الجانب الاجتماعي والسياسي في السودان ليصبح لدينا هيكل اقتصادي pro-capitalism اوبلغة اخرى هيكل صديق للرأسمالية؟

هذة نهاية مبحثنا النظري في الفكر الرأسمالي الحديث ومتطلبات نجاح روشتة البنك والصندوق . وخلاصة القول انه لا يمكن ان ينهض اي اقتصاد فقط بتطبيق برشتة من خمس او ست نقاط بحذافيرها . ولكن النهضة الاقتصادية تحتاج تغييرا شاملا لهيكل الاقتصاد الريعي الذي يتميز بالعوامل المذكورة اعلاه لهيكل اقتصاد انتاجي يشجع الاستثمار ويحفز الابتكار ويتسم بعدالة الفرص وسهولة الوصول للموارد اللازمة للإنتاج. وهذا لا مجال لحدوثه الا بإعادة توزيع الثروة المتراكمة حتى الان وتمكين المواطنين من الموارد وتفكيك الاحتكارات لاتاحة فرص اكبر للتنافس الذي يزيد الكفاءة ويقلل الاسعار.

ولأن ثورة ديسمبر لم تحدث هذا التحول بل كرست للهيكل الريعي وحافظت على مصالح اصحاب المصلحة القدامى في الاقتصاد السوداني منذ الاستقلال ولم تمكن المواطنين من موارد بلادهم ستفشل روشتة الصندوق حتى لو طبقت الحكومة شروطها بحذافيرها فالعيب ليس فقط في الشروط بل في القالب نفسه. وسيؤدي تطبيقها الى ان يزداد الأغنياء غناً والفقراء فقراً. و ان الاعتقاد بأن مجرد تطبيق الروشتة الإصلاحية للصندوق بحذافيرها سيجعل ماكينة الاقتصاد السوداني تعمل على شاكلة المكينات الاقتصادية الصينية او الغربية هو من قبيل السراب الذي يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

علينا ان نتعامل مع الملف الاقتصادي كمحترفي إقتصاد لا كموظفين بالمؤسسات الاقتصادية.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.