آخر الأخبار
The news is by your side.

القراءة في عصر السرعة… كيف تكون؟ (2-2)

القراءة في عصر السرعة… كيف تكون؟ (2-2)
بقلم: التيجاني عبد القادر حامد

انتهيت في الجزء الأول من هذا المقال الى أن القرّاء ينقسمون الى ثلاثة أصناف: قارئ كالسائح، يسوق السواد ولكن لا يفقه شيئا، وقارئ يشبهه رجل المباحث، يفك الرموز لا ليكتسب معرفة ولكن لكي يوقع بالكاتب ويجره الى مخافر الشرطة. وقلنا إن هذين الصنفين ليس لهما من القراءة سوى الجوع والعطش، أما القارئ الثالث فهو الناقد المستبصر، الذي لا يكتفي بالقشرة الخارجية للنص، وإنما يغوص في مضمون النص، ولا يغادره حتى يستحضر الكاتب والبيئة التي كتب فيها، ويدخل معهما في محاورة فكرية عميقة قد تنفتح بالنص على نصوص أخر، وقد تتدرج به حتى تسلكه في المنبع الأعلى (النموذج) الذي انطلق منه.
وهذه كما ترى “قراءة” لا تشبه ما يفهمه العامة من لفظ القراءة؛ وإنما هي عملية تفسيرية تأويلية لها شروط ومواصفات، ولها منهج ومحددات، يتفق المفكرون حول بعضها وينقسمون حول البعض الآخر الى مدارس ومذاهب. يتفقون في أن القراءة الحقة تتضمن تفسيرا وتأويلا، وأن هذين الأخيرين يستلزمان “احياء” المؤلف صاحب النص، كما يستلزمان استرجاع الإطار التاريخي الذي كتب فيه النص. ولكنهم يختلفون من بعد ذلك في عملية “استرجاع الإطار التاريخي” هذه، فيذهب بعضهم (وليام ديلثي، 1833-1911) الى القول بأن ذلك لا يتأتى إلا بأن ينخلع القارئ/المفسر من إطاره التاريخي الراهن بطريقة منهجية منظمة، ويتخلى عن قناعاته الذاتية وتحيزاته الشخصية، فتكون قراءته حينئذ قراءة “موضوعية محايدة”، لأعمال موضوعية ظاهرة.
هذا، وقد اعترض فلاسفة ومفكرون كثر على هذا المنحى من “الموضوعية”، وتشككوا في إمكانية حدوثه وفى جدواه العلمية والعملية. كان هانز-جورج غادامار أحد هؤلاء (وهو كما تعلم فيلسوف ألماني معاصر، نشرت أطروحته الأساسية بعنوان “الحقيقة والمنهج” عام 1960 باللغة الألمانية، ثم ترجمت الى الإنجليزية عام 1975). عارض غادامار هذا الاتجاه بقوة، شاكا في إمكانية حدوثه، ذاهبا الى القول بأن “تحيزاتنا” هي الأفق الذي يمكننا من إدراك الوجود، بل هي الوجود ذاته بالنسبة لنا”. ولكي تكون القراءة مفيدة ومثمرة، بحسب غادامار، فلا نطلب من القارئ أن “ينسلخ” من ذاته وتاريخه، ولكن نطلب منه، على العكس من ذلك، أن يضع نفسه، موضوعيا وذاتيا، موضع المؤلف. أما وضع نفسه “موضوعيا” في موقع المؤلف فتعنى أن يلم الماما كافيا بلغة النص والسياق الذي كتب فيه. ولكنه يحتاج علاوة على ذلك لأن يضع نفسه “نفسيا” في النص؛ أي أن يدرك مقاصد الكاتب الخفية، وافتراضاته المسكوت عنها، وتاريخ تطوره الفكري، وموقعه الاجتماعي وموقفه السياسي، علاوة على قيم وأعراف المجتمع الذي أنتج فيه النص. فالنصوص بحسب هذه النظرة لا تنتج في فراغ، ولا توجد معلقة في الفضاء، وإنما هي ثمرات لأشجار ذات جذور ضاربة في التربة الاجتماعية والثقافية.
وحتى لا يشغب أحد على غادامار ويتهمه بالترويج “للتحيز” الفج، فتراه يسارع ليميز بين نوعين من التحيز: تحيز مشروع ولازم في العملية التفسيرية (legitimate prejudice) والآخر غير مشروع. أما “التحيز المشروع” فهو يعزز تداخل الماضي في الحاضر ولا يقطعه، وذلك هو التعزيز المطلوب الذي يقود الى معجزة الفهم الإنساني؛ أي يقود الى اقتسام المعنى المشترك بين عقلين قد يكونا في غاية التباعد زمانا ومكانا، ووضعا اجتماعيا ومكانة سياسية.
غير إن هذا لا يعنى أن يسعى المفسر للهيمنة على النص، إذ لا بد أن يترك النص ليفصح عن مكنوناته للمتلقي، ولكن المتأول الماهر يمكنه أن يستولد معنى جديدا من النص القديم من خلال السماح لأفقه التاريخي الراهن أن يتداخل مع الأفق التاريخي للنص، لا أن يصد مثل ذلك التداخل. وهذا التداخل، أو التماهي في الآفاق (fusion of horizons)، أي تداخل عوالم المفسر مع عوالم مؤلف النص، هو ما يوسع عملية الفهم عند غادامار لا ما يضيقها. وسيحصل المفسر على المعنى المناسب بقدر ما يصير هو نفسه جزاء من التقليد الثقافي العام الذي كُتب النص في أجوائه.
وهذا منهج كما ترى مغاير لمنهج الحيادية المتكلفة الذي يطالب به أصحاب المنطقية الوضعية، كما أنه من الناحية الأخرى يسير في اتجاه معاكس تماما لنظرية “موت المؤلف”؛ النظرية التفكيكية التي يعتقد أصحابها (دريدا مثلا) أن فهم النص لا يتطلب فهما “لمقاصد” مؤلفه، ناهيك عن القول بضرورة إحيائه أو “الاندماج” معه، كما ينادى بذلك غادامار. أي أنه بحسب هذه النظرية يجب “الفصل” بين النص ومؤلفه، كما يجب الفصل بين النص وبيئته.
ولا يفوت عليك بالطبع ما وراء هذه النزعة التفكيكية “الانفصالية” من مكر وتسلط؛ أما المكر فيعود الى “هدم” الأصول المرجعية الحاكمة، ونزع مشروعية الوجود عن النصوص “التأسيسية، فتصبح الأفكار كالأطفال اللقطاء، لا نعرف لها نسبا أو “أسرا” تنتمي اليها، أو مذهبا تولدت في إطاره، أو غاية يرومها منتجوها. أما التسلط فنقصد به أنه إذا تسنى لهؤلاء “الانفصاليين” أن يقطعوا النص عن مؤلفه وبيئته فسيكون من الميسور حينئذ أن يعيدوا قراءة أي نص تاريخي عتيق قراءة “إسقاطية تسلطية”. والقراءة الاسقاطية التسلطية هي أن يسقط القارئ على النص “حمولات” ثقافية، وتصنيفات مفاهيمية جاهزة تم إنتاجها في بيئات ثقافية وعلمية مغايرة، فيسلّطها على النص “اليتيم”، فيعمل من خلال ذلك على “إعادة تعريف” المصطلحات والمفاهيم التي يتضمنها النص، مع إغفال تام للبيئة التي أنتج فيها، ثم يستخدم التعريفات المستولدة والبيئة المصطنعة لإجراء عملية “التحليل النقدي”، دون أن يعترض عليه أحد. وهذه طريقة سار عليها قديما بعض المستشرقين في “إعادة قراءة القرآن”، وفى إعادة ترتيب آياته، وفى إعادة قراءة قصائد الشعر الجاهلي، وإعادة قراءة كثير من النصوص الإسلامية العتيقة. وهي عملية سطو وتسلط لا تقل خطورة عن عمليات السطو والتسلط التي تقوم بها الامبريالية الغربية في كل مكان، كما حاول أن يوضح ادوارد سعيد بحق في دراساته الرائدة في هذا المجال.
الغريب أن بعضا من أبنائنا وبناتنا قد انطلت عليهم مثل هذه الخدع، فتجدهم يتحدثون بلا وعى عن القراءة “التفكيكية” وعن “موت” المؤلف. وقد تجد إحداهن تزعم، ولما تفرغ بعد من قراءة صفحات قلائل من كتاب الأم للشافعي، أنها تقوم “بإعادة قراءة الشافعي”، مسلطة عليه ذخيرة المفاهيم التي أنتجتها الحركة النسوية الأوربية أواسط القرن الماضي، وقد تجد أحدهم يستل ابن رشد الحفيد من سلالته العلمية وبيئته الروحية، ويعيد قراءته إعادة تخرجه من ربقة الإسلام؛ يحرفون الكلم عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا، ولا حول ولا قوة الا بالله.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.