آخر الأخبار
The news is by your side.

الفنون وجدلية الحرب والسلام فى السودان

الفنون وجدلية الحرب والسلام فى السودان

د. إشراقة مصطفي حامد

مداخل للدارسة:
مخزون ذاكرتى من زمن الطفولة زاخر بصور عن التعدد والتنوع الذى عايشته عبر ممارسات

الفنون الشعبية فى الحى الذى ولدت ونشأت فيه فى مدينة كوستى على ضفاف النيل الابيض,

وهى مدينة تعبر عن السودان بكل التعدد الذى عبر زمانها عبر هذه الممارسات الشعبية من

رقص وغناء فى ساحة واسعة يجتمع فيها كثير من الناس فى نهاية الاسبوع وبعد صلاة العصر

يمارسون فيها افراحهم البسيطة. كنت ارقب بدهشة الاشكال المتنوعة للرقص والايقاعات

المختلفة. كان يدهشنى وانا صغيرة زيارة القباب مع جدتى على ضفاف النيل الابيض وفى نفس

الوقت ليالى الذكر التى تقرع فيها ايضا الطبول والمدائح النبوية خاصة ايام المولد النبوى

الشريف وليالى رمضان. حكايات جدتى ومايعرف فى السودان (بالاحاجى) كانت ايضا مصدر

الهام لى فى ذلك الزمن رغم انى لاحقا قمت بقراءاتها ولكن برؤية نقدية. وقد قام بتجميع هذه

الحكايات البروفسير العلاّمة عبدالله الطيب عليه الرحمة.

مشهد الحالة الابداعية لاهلنا من جنوب السودان قبل انقسامه فى اعياد الكريمساس وهم

ينشدون بلغاتهم ويزينون رؤسهم بريش الطيور الملون والنساء يردتين اللاوى المزركش

ويوزعون لنا الحلوى. كانت الحياة متصالحة او هكذا انغرست البذرة الاولى لمخيلتى التى

تشكلت بالوان قوس قزح لونت الطين والصلصال الذى شكلنا به ماجادت به مخيلتنا الصغيرة,

نبنى ونهدم هذا المخزون الذى تفجر شظايا اسئلة عن الهويات السودانية لانه من الصعب

الحديث عن دور الفنون بكل اشكالها دون الارتكاز على بعد الهويات وصراعاتها فى السودان منذ

فجر الاستقلال وليس انتهاء بانفصال الجنوب.

لم اعش الحرب كما عايشها السودانيون فى جنوب وغرب البلاد ولكنى احسست بمشاعر

الرعب حين لوحت بدايات الحرب فى منطقة الجزيرة ابا القريبة من مدينة كوستى, المدينة التى

ولدت فيها وتقع على ضفة بحرها الابيض. كنت عائدة من الاجازة التى سبقت ضرب الجزيرة ابا.

اذكر انه كان يوم جمعه عصرا وتم ايقاف القطار فى منتصف الكبرى الذى يربط بين مدينة ربك

وكوستى. كان ضرب الصواريخ يصك الآذن فدفنت جدتى رأسى فى حضنها وهى تدعو الله

تعالى ان يحمينا من موت النار وتعنى الحرب. لقد بقينا قرابة منتصف الليل حتى سمح للقطار ان

يصل الى المدينة ولازالت اثار الدخان والتى استمرت اياما تلوح فى سماء كوستى من البعيد.

كان صوت الرصاص قاسيا اثار الرعب فى اهل المدينة وبدأت الكوابيس تطال طفولتنا, البعبع

الاكبر الذى ظل يلاحقنى فى منامى هى صورة قبيحة لبيوت تهدمت واجساد تفحمت واوراح

تحلق على القمر تسأل عن سر الحرب؟ القمر وحده لم تستطيع الحرب ودخان حرائقها وخرائب

المكان ان تمحو نوره وتعكر صفوه, ظل يؤكد لى ان السلام سوف ينتصر. لم انسى هذه التجرية

وظلت يقظه مع بدايات تفتح وعى السياسى لمعرفة اس الازمة السياسية فى السودان. لذا

اهديت بحث تخرجى من كلية الاعلام بجامعة ام درمان الاسلامية لمعالجة الصحافة الحزبية

لقضية الجنوب, كان ذلك فى ذات العام الذى تزامن مع انقلاب حكومة الانقاذ التى تحكم البلاد

منذ ذلك التاريخ وحتى الآن, ثم واصلت فى ذات البحث فى دبلوم التخرج من كلية الدراسات

العليا جامعة الخرطوم قبل عام من هجرتى للنمسا وكان ذلك فى العام 1992 وظل امر الحرب

وثقافة السلام وترسيخها فى السودان شغلى الشاغل على المستوى السياسى والأدبى ومن

الصعب الفصل بين الاثنين.

الفنون ليست سوى الفضاء الاقدر على مخاطبة الوجدان الانسانى. فالانسان يستطيع ان يميز

الروح المنحازة له من خلال الاعمال التى تُنجز فى هذا الشأن سوى كانت مرتبطة بالادب, الغناء,

المسرح, الرقص والفن التشكيلى. وتناولى للفنون هو خلاصة رؤيتى فى كيفية دورها فى

السلام النفسى اولا كاساس للسلام الجمعى على اعمال روائية وعلى الشعر وهى اعمال

لامست قضايا قضايا الانسان السودانى ايجابا او سلبا.

سوف اتناول نماذجا من السرد بالتركيز على رواية ( احوال المحارب القديم) للروائي حسن

البكري (تخوم الرماد) للروائى والقاص منصور الصويم ثم رواية الروائى عبدالعزيز بركة ساكن

(مسيح دارفور) والتى تناولت الحرب فى غرب البلاد خاصة فى دارفور. وفى القص اتناول

مجموعتى الكاتبة استيلا قايتنو، ان تناول قصصها وكيفية استنطاقها للواقع من رؤيتها يضيف

الى هذا المبحث كثيرا, مجموعتها الاولى (زهور ذابلة) ومجموعتها الاخيرة الصادرة حديثا

(العودة) . فى قراءاتى وتحليلى سوف استصحب رؤى مهمة كرؤية (المثقف والسلطة) لادورد

سعيد اذ ان الفنون ظلت رهينة للسلطة وفقا لقرب الفنانين منها بعدهم. الجدير ذكره ان الروائى

ابراهيم اسحق تناول فى ستينات القرن الماضى 1969 عبر روايته (حدث فى القرية) وعكس

فيها واقع الحياة فى دارفور قبل اندلاع الحرب بسنوات طويلة ممايشير الى ان الادب عبر

استشراقه للمستقبل قد يرى بتلك الروح الشفافة مالايراه غيره. تناول السرد السودانى قضايا

الحرب والسلام واضاء مناطق كان مسكوتا عنها وتحتاج الى المزيد من الاضاءات وتنبأت بالحرب

فى دارفور رواية (تخوم الرماد) الرماد لمنصور الصويم قبل اربعة سنوات من اندلاعها وتنبأت

(زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة) بانفصال جنوب السودان.

——————–
الصورة من صفحة Kumail

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.