آخر الأخبار
The news is by your side.

العبرة في التطبيقات… سلسلة مقالات مسلم علماني

العبرة في التطبيقات… سلسلة مقالات مسلم علماني

بقلم: أمجد هاشم

إن العلمانية في الدولة الوطنية الحديثة أصبحت ركيزة أساسية ولازمة من لوازم الايفاء بحقوق المواطنة المتساوية وقوانين حقوق الإنسان الدولية وبالتالي هي ليست خيارا من ضمن خيارات متعددة تخضع للتنافس الحزبي.

مع ذلك من المحبذ إبتدار نقاش مفتوح ليس حول العلمانية نفسها ولكن حول النموذج العلماني الأنسب في دولة ذات غالبية يتبعون الدين الإسلامي الذي هو نسبيا أكثر الأديان تداخلا مع المجال العام ولا تنحصر ممارسه شعائره في المجال الخاص فقط مقارنة مع الأديان الأخرى.

وبالتالي فإن النموذج العلماني الفرنسي مثلا الذي يمنع ارتداء الرموز الدينية لن يكون مناسبا في السودان فنحن بحاجة الى نموذج مقارب للعلمانية البريطانية التي لا تفرض قيودا على الشعائر والممارسات الدينية في المجال العام كما تتيح اللجوء للاحكام الدينية في قضايا الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث) اختياريا فشتان بين إبعاد الدين عن فضاء السياسة للحفاظ على قدسية الدين وتحييده عن المواقف السياسة المتقلبة وبين إبعاده عن فضاء المجتمع.

والعلمانية في غالب تطبيقاتها العملية تحقق الخيار الأول وكل ما عدا ذلك فهو إما بروباغندا تضليلية يطلقها الثيوقراطيين أو تطرف يمارسه بعض العلمانيين.

سلسلة مقالات (مسلم علماني) في سياق تتبع مسار التحولات التي مرت بها دولة المدينة وفي إطار الإجابة على السؤال (كيف ومن أين) جاءت جماعات السلفية الجهادية والإسلام الحركي (الدواعش والوهابيين والأخوان المسلمين) بدولتهم الثيوقراطية المسماة مجازا بالإسلامية؟؟

هناك حدث تاريخي مهم لا يمكن في مباحث علم الإجتماع الديني تجاهله أو تجاوز مدلولاته وتأثيراته الممتدة إلى عصرنا الراهن… الحدث الذي أعنيه هو إجتماع الصحابة المكلومين بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في سقيفة بني ساعدة… فالرسول توفي دون أن يحدد خليفة له أو حتى آلية لإختياره وهو ما فتح الباب للتكتلات ذات الطابع العشائري فظهر تكتل المهاجرين مقابل تكتل الأنصار كما إنقسم المهاجرين أنفسهم إلى قرشيين (أشراف) وعامة المهاجرين.

وليس هناك أكثر بلاغة في وصف ما آلت اليه الأمور من العبارة التي قالها سيدنا أبوبكر في معرض تزكيته للقرشيين وإستبعاده للأنصار الذين إقترحوا مناصفة الإمارة بينهم وبين المهاجرين فرد عليهم (ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. هم أوسط العرب نسبًا ودارًا).

إن ما تمخض عنه إجتماع السقيفة لم يكن كما يظن الكثيرون نقلا إعتياديا للسلطة بل هو في حقيقته كان منصة إنطلاق للأيدولوجيا الاسلاموعروبية التي شكلت ارتدادا على قيم المساواة في الاسلام (المكي) الذي ناصره الرقيق وضحوا من أجله بدمائهم (لافرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى).

الشاهد هو أن سيدنا أبوبكر نفسه لم يكن من سادات قريش بمعايير التراتيبية القرشية الأمر الذي يفسر تراخي أبو سفيان الأموي (سيد سادات قريش) في أداء البيعة لخلافة يرى نفسه الأحق بها و قد آلت في النهاية الى ابنه معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية.

ما بعد إجتماع السقيفة تصاعدت تدريجيا ثيوقراطية دولة المدينة لتبلغ ذروتها في العهد الأموي الذي مهدت له فترة سيدنا عثمان بن عفان والذي عرف بميله لأقاربه الأمويين وهم (الطلقاء) الذين لم يكونوا أصحاب سبق في الإسلام و بالتالي لا يملكون الحق في تقدم الصفوف فالاسلام في بداياته ناصره الرقيق و المستضعفين حين حاربه الأشراف و لذلك كان لا بد للأمويين من تحميل ادعاءات التفوق الثقافي والعرقي مسحة دينية مقدسة حتى يستتب لهم الأمر.

وفي تلك الفترة تحديدا تمكنت الإيديولوجيا الإسلاموعروبية سلطويا وإستطاعت تحويل المحددات الثقافية العربية السابقة للإسلام زمنيا مثل (اللغة و الزي و وضعية المرأة الدونية في المجتمع البطرياركي العربي و الميل للإستبداد بالسلطة و ممارسة الاستعلاء تجاه الاخر المختلف عرقيا {نشرب ان وردنا الماء صفوا و يشرب غيرنا كدرا و طينا} و غيرها) الى محددات و عناصر مقدسة تحشد لها النصوص و الأدلة الدينية زورا و بهتانا بالاعتماد على التأويلات و الأحاديث ضعيفة السند وإتباع منهج القياس المعطوب.

مع ذلك قد أجد لهذا المشروع التمكيني في حينه مبررا براغماتيا و ليس أخلاقيا على خلفية الصراع الأموي-الهاشمي للإستحواذ على السلطة في الدولة الإسلامية الناشئة و المتمددة بقوة الفتوحات الاسلامية وهو الصراع الذي انتهى بتقسيم العالم الاسلامي إلى سنة وشيعة وخوارج وكل منهم لديه روايته الخاصة به للتاريخ الإسلامي وتفسيراته لما يسمى بالشريعة الإسلامية وهي تفسيرات وأحكام نتجت من وحي الصراع المذهبي وتم توظيفها سياسيا بما يعزز مواقفهم الأيديولوجية المسبقة.

فلم يكن مستغربا أن يشترط علماء السلطان الانتماء لقبيلة قريش (القرشية) والذكورة شرطا لازما لتولى الخلافة وظهرت فتاوى وأحاديث تحرم وتجرم الإعتراض على مشيئة ولي الأمر (الحاكم بأمر الله) والأنكى أنهم في مرحلة لاحقة وظفوا الشريعة الإسلامية لتحقيق ملذاتهم الشخصية فظهرت فتاوي تجيز إغتصاب الأطفال (زواج القاصرات) وتبيح لولاة الأمر ما تحرمه على العامة في إزدواجية لازمت سلوك السلفيين حتى عصرنا الراهن (عبدالحي يوسف نموذجا).

برغم زوال الدولة الاموية ولكن النسخة التي ابتدعها الأمويين من الإسلام لم تزول بزوالهم بل خبأ لنا القدر نسخ أخرى أشد إنحطاطا و ظلامية أنتجتها لنا جماعات الإسلام السياسي والسلفية الجهادية التي تمظهرت من خلال ممارسات الدواعش الماثلة للعيان من حرق وإغتصاب وإستحلال لدماء الأبرياء بإسم الدين استنادا على فتاوى ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب.

إن تطور الدول التي تقع في نطاق تأثيرات الأيدولوجيا الأسلاموعروبية ومنهم السودان رهين بتحقيق واحد من الخيارين التاليين:

أما أن ندفع في إتجاه مشروع تنويري يقودنا إلى إصلاح ديني جذري على نمط الإصلاحات الدينية في أوروبا والتي أطاحت بالكثير من المسلمات الدينية التي كانت تشكل عائقا في سبيل تطورهم وإزدهارهم الإجتماعي والفكري والسياسي وهي الإصلاحات التي مهدت للنهضة الأوروبية الماثلة أمامنا الآن.

أو الخيار التاني هو أن نبدأ من حيث أنتهى الأوروبيون بتطبيق العلمانية و هي الأقرب لجوهر الإسلام بنسخته المكية التي حيدت نفسها من أي مواقف سياسية تتخذ طابعا لاهوتيا مقدسا.

في الحالة السودانية يبقى الخيار الثاني هو الأسهل فنحن لا نمتلك رفاهية البحث والتنقيب في الفكر الإسلامي السلفي أو الإجابة على أسئلته الجدلية الكبرى وحلحة إشكالاته المتوارثة منذ مئات السنين بالنيابة عن بقية المسلمين ليس فقط بسبب حالة الكسل الفكري والإبتزاز السلفي التكفيري التي يعاني منها الباحثين السودانيين ولكن أيضا بسبب موقع السودان الهامشي إزاء المركزية الإسلاموعروبية التي يتحدد فيها مدى تأثيرك بحسب بعدك أو قربك من تراتيبية النقاء العروبي المزعوم الأمر الذي يجعل أي جهد إصلاحي سوداني غير مجدي ويفتقد التجاوب والتأثير.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.