آخر الأخبار
The news is by your side.

السودان من الثورة إلى بناء الدولة … بقلم: د/عوض الجيد محمد احمد

السودان من الثورة إلى بناء الدولة … بقلم: د/عوض الجيد محمد احمد

في هذا الوقت من عمر ثورة ديسمبر الشعبية المظفرة كثرت الاجتهادات والتحليلات بالنسبة

لمآل السودان نفسه كوطن عظيم الموارد البشرية والطبيعية، ولكنها إما موارد مهدرة وإما أنها

غير مستغلة. ويشتد الجدل بخاصةٍ عن مآلات شعبه متعدد الأعراق والذي يتميز في مجمله

بصفات النبل والشهامة والتآزر والبذل والتضحية بغير حساب في كل بقاعه، رغم أنه يعيش في

رهق وضنك من العيش. ويكاد كل فرد في هذا الوطن العزيز يحمل في جوفه فطرة الدين الحق.

فلا تغيب عن السوداني لحظة فكرة أن الدنيا (ضُل ضحى) ولا يغتر بنعيمها إلا الكافر أو الجاهل

ولا يعبدها إلا من ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. ولهذا أينما ضربت في أرض السودان

الواسعة وجدت الكرم والبذل والود وبذل الغالي والنفيس للضيف، على الرغم من مرور سنواتٍ

عجافٍ على الوطن وأهله صارت فيها الدنيا أكبر الهمِ لدى طائفةٍ واسعة من الحكام ومؤازريهم.

واليوم وفي ظل الشرور المتراكمة والفشل الحكومي المتجدد يخشى الكثير ممن كتبوا

وناقشوا وتحدثوا أن يكون الوطن وأهله يواجهون خطر التمزق والتشرذم ويرون أن مآل الثورة

(بل والوطن كله شعباً وأرضاً) غامض  ولا يبعث على التفاؤل. وحسناً بدأت تلوح في الأفق

مؤخراً كتابات تحليلية جادة تقترح حلولاً أو تشخص بعض الأدواء الوطنية عسى أن يجد القادة لها

الدواء.

وفي رأيي المتواضع أن هنالك أمران فقط في الوقت الحاضر يمكن أن يعيداننا وطنا وشعباً

لجادة الطريق:

الأمر الأول: تماسك القيادة وتمتعها بكارزما وطنية قوية:

إن القيادة الوطنية ذات الحضور الوطني الشامل والمؤثر ضرورة لا بد منها في وطنٍ متعدد

الأعراق ومتنوع الثقافات ومترامي المسافات. وتماسك القيادة وتمتعها بالكارزما الوطنية الجاذبة

والمقنعة لا يتأتى بالضرورة بالعلم والشهادات العالية ولا بالترهيب والبطش ولا بكثرة الخطب

وبلاغتها، بل هو كساءٌ خيوطه الوقار والحكمة، ووضوح الرؤية والاتزان، والثبات في مواقف

الشدة والاهتزاز. القيادة الكارزمية تجمع ولا تفرق وتوحد ولا تشتت ولهذا يبقى أثرها ولا يزول.

وقد منح الله أنبياءه هذا الحضور الكارزمي الطاغي لأنه ضرورة لملء كرسي الرئاسة والقيادة

وتسهيل مهمة الدعوة والإقناع واجتذاب السامعين لدائرة الإيمان. وقد اختصر المولى الكريم

إطار الكاريزما الكلية في كلمة واحدة وهي (الحكمة) وقد أشار الله تعالى إليها كثيراً ب(الحُكم)

مثل قوله تعالى في يحي عليه السلام (وآتيناه الحكم صبيا). وإذا توفرت الحكمة سهلت القيادة

وتيسر تبليغ رسائل القادة للناس. وإذا غابت الحكمة فلا مجال لتبليغ رسالة القيادة وإن كانت

مقدسة وسامية ونافعة ولو كان المبلِغ نبياً مرسلاً، بل ولو كان خاتم الأنبياء والمرسلين صلى

الله عليه وسلم. القرآن الكريم واضح في ذلك تماماً:

” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ

لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). 159 آل عمران.

 نعم كانوا سينفضون في غياب الحكمة رغم أن القرآن العظيم في قلب النبي الكريم وعلى

لسانه، وجبريل يتنزل عليه وكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار معه. بل حتى هؤلاء الأطهار

كانوا سينفضون من حوله. وهذا مقصود قوله صلى الله عليه وسلم: ” أوتيتُ القرآن ومثله معه”

وهي الحكمة. فبدونها لا يجدي القرآن ولا الأحاديث ولا المواعظ ولا القتال ولا المسالمة. فعظمة

الدين تكمن في معايشته وتدبير أمور الدنيا والآخرة بحكمة ولا  تكمن عظمته في التشدق به أو

الزعيق بشعاراته.

وقد آتى الله هذه الكارزما القيادية في التاريخ السوداني الحديث لعدد من قادة الأمة. فمثلاً

الشيخ/ عبد الله بن محمد  (جماع) ملك العبدلاب المشهور استطاع أن يجمع الناس وهم قبائل

شتى حتى غلب لقب جمَاع على نسبه الأبوي فلا يكاد يعرف إلا بهذا اللقب المنير. لقد جمع هذا

القائد بالحكمة والرؤية الثاقبة أشتات القبائل ووحدهم ثم أسس بالتحالف مع الفونج دولة كاملة

العدة والعتاد في هذا الوطن المعطاء.

ومهما اختلف الناس حول الإمام محمد احمد المهدي فهم يتفقون على أنه وحد السودان بشكل

إعجازي من جنوبه لشماله ومن غربه لشرقه ضد الاحتلال الأجنبي وحرر الوطن وأكسبه

شخصيته وكيانه الموحد المسمى (السودان) والممتد من نمولي جنوبا إلى حلفا شمالاً ومن

الجنينة غربا إلى سواكن في البحر المالح. ولكن المهدي كان قائد تحرير مثل زعماء لاحقين

نجحوا نجاحا باهراً في قضية التحرير رحمهم الله وغفر لهم وتركز نجاهم في هذا المضمار. وقد

أسهم قادة آخرون ممن جاءوا بعدهم في التنمية والبناء والتعمير كل بقدر ما سمحت له الظروف

المحيطة به وبنظامه والقدرات التي توفرت له. ورغم ذلك فإن مستقبل الوطن كله ونجاح ثورته

يرتكز بشكل أساسي على ثورة التعمير وبدونها فلن تقوم لشعارات الثورة قائمة ولن تخمد نار

الفتنة وستنحصر قضايا الوطن في المطالب وسيصطرع عليها الناس أو يتقاتلون.

الأمر الثاني: وضع رؤية تنموية وطنية بعيدة المدى. مثلاً: رؤية السودان التنموية 2020-2040:

          إن قضية الوطن والمواطنين اليوم هي التنمية والتعمير وحسن استغلال الموارد والقدرات

بعد أن  صار عيش المواطنين مثل عيش (الدودة بين حجرين)  بسبب غياب الرؤية بعيدة المدى

والإرادة التنموية الشاملة.

         وكما تحتاج القيادة لكارزما جاذبة يحتاج تحدي التنمية والبناء لرؤية وطنية تنموية بعيدة

المدى تستوعب التنوع ، بل والتناقضات الجمة ثم تطور وتبني على الإيجابيات التي لا تحصى

للمواطنين والوطن وتحول التحديات لفرص تنمويةٍ واعدة ونافعة.

والرؤية بعيدة المدى غير الدستور. فالدستور نصوصه ذات طبيعة قانونية حاكمة ولذلك يكثر

الجدل حوله. أما الرؤية التنموية فهي مرشد عام تتم بلورته في إطار مسح شامل ودراسات

متعمقة لبيئة الوطن المتكاملة بشرياً واقتصاديا واجتماعيا وبيئياً

( Comprehensive Environmental Scan ).

وعلى ضوء هذه الرؤية المتعمقة المرشدة والموجهة لبرامج التنمية يتم وضع الخطط التنموية

المتكاملة والمتنوعة متوسطة وقصيرة المدى وترصد الموارد والموازنات على أساسها.

وهنا تتاح الفرص الأفضل:

  • للاستغلال الأمثل لقدرات الشعب (المنفِذ) بخبرائه وبعمالته الماهرة والمنتجة؛

  • لاجتذاب الاستثمارات ورؤوس الأموال المحلية والأجنبية الراغبة في النشاط المعني

  • والقادرة توفير الموارد المالية والتكنولوجية للنهوض به ؛

  • لبناء القيادة الواعية المرشدة والموجهة والمتجردة التي تقود عملية التنمية بأكملها في

  • المسار المرسوم وتجتذب بعلاقاتها السليمة رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية وتحافظ عليها.

  • لقيادة عملية التوعية الوطنية وفق مفاهيم الرؤية الوطنية التنموية ومقتضياتها وواجبات كل مواطن وكل جماعة في تحقيق غايات وأهداف الرؤية الوطنية والمنافع التي تنجم عن تحقيق تلك الغايات والأهداف.

  • لوضع أطر محكمة لمتابعة تحقيق غايات وأهداف الرؤية التنموية تتيح للمسؤولين والمواطنين الإلمام بما يتحقق من غايات وأهداف الرؤية التنموية وما يقع فيها إخفاق ، وما يتم من إجراءات لتلافي الإخفاق.

وفي الختام:

إن قضايا البناء والتعمير أشق وأدق من قضايا التحرير. وهي التحدي الوطني الحقيقي الذي

ظللنا نواجهه كوطن منذ أول يناير 1956 والانصراف عنها لقضايا تحرير أو تنوير متوهمة إنما سببه

العجز عن مواجهة تحديات التنمية المستدامة وما تتطلبه من إبداع وابتكار وفكر وتضحيات.

حفظ الله الوطن وأهله وسددهم لما فيه الخير.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.