آخر الأخبار
The news is by your side.

الدعم والديون وتقويض الديمقراطيات

الاقتصاد السياسي للسودان .. الدعم والديون وتقويض الديمقراطيات

بقلم: د. سبنا امام

ان موقفنا الرافض للاعتماد على الديون والمنح ليس موقفاً عدائياً من الدول والمؤسسات التي تمد الدول النامية بهذه الحزم كما انه ليس مناورة سياسية ستهدف حزباً او فصيل ولكنه موقف علمي وفكري يسنده المنطق وتصدقه الوقائع التاريخية على الارض.

فقد لعبت الديون والمنح والهبات دورا كبيرا في تعميق وتمكين الاستبداد وتقويض الديمقراطية في هذه الدول (بمافيها السودان) بالابقاء على هيكلها الريعي الذي يقوم على الاستناد على الخارج لقمع الداخل. وهو السبب الجوهري وراء متبادلة العسكر والديمقراطية في السودان إذ ان كلا تجربتي الحكم قد مارستا الاستناد للخارج لقمع الداخل في حالة الحكم العسكري والاستناد على الخارج لتخفيف الضغط الديمقراطي في الداخل في حالة الديمقراطيات.

ولن نستطرد في شرح الاول فهو واضح فالديكتاتور يدين بولائه لدولة او محور او معسكر يسنده بالمال حتى يستخدمه في قمع شعبه (بشار الاسد وروسيا وعمر البشير وتقلبه في المحاور ونميري وتقلبه بين اليسار واليمين) نموذجا . ولكننا سنتحدث عن كيف استخدمت وتستخدم الحكومات الديمقراطية في السودان اموال الخارج لتخفيف الضغط الديمقراطي.

يمكن فهم اثر المنح والقروض في تقويض الديمقراطية من خلال ثلاثة اثار ذكرها روس (2011)وهي:

اولاً: اثر الريع (rentier effect) وهنا لا تركز الحكومة في جانب الانتاج ولا تحاول الدخول في إعادة توزيع موارد الإنتاج بشكل يقحم المزيد من المواطنين في العملية الإنتاجية فيقل الناتج الاجمالي ويتباطأ النمو وتقل قدرة الاقتصاد على خلق الوظائف في القطاعين العام والخاص فتنكمش الطبقة المتوسطة ويقل العائد الضريبي مقارنة بالريع وقد تستغني الحكومة تماما عن العائد الضريبي بالاعفاء الضريبي كما في دول الخليج.

وهنا يصبح ريع المورد الاقتصادي(ذهب نفط ماس و قروض ومنح )هو المصدر الاساسي لدخل الدولة ويصبح مالك او ملاك المورد هم الحكام او الاسياد ومن هم خارح قسمة الريع محكومين او عبيد وعليه يتحول ولاء الحاكم الفرد او الحزب الحاكم حتى في في حالة الديمقراطية (كما في الكويت مثلا ) لمالك المورد او مجموعة ملاكه كما في حالة الجيش والدعم السريع ومن يسيطرون معه على عائد او ريع الذهب في السودان ومن قبله من كانوا يسيطرون على ريع النفط او يكون الولاء للمؤسسات التي تمد خزينه الدولة بالقروض (شروط البنك والصندوق نموذجا).

وفي كلتا الحالتين تضعف الديمقراطية لان الحاكم لا يشعر بانه مسائل امام دافع الضريبة الذي يمثل قيمة ما يمده للخزينة 17%وهي عائدات الضرائب مقارنة ب40%وهو ما يمثله ريع الذهب من الناتج المحلي في السودان ولذلك من يملك الريع يملك القرار حتى في ظل الحكم الديمقراطي وهذا هو الحال اليوم فمؤسسة الدعم السريع ومن معه اهم لصانع القرار من الشعب لانهم يضعون يدهم على المورد الذي يمثل المصدر الاساس للخزينة.

وهي حقيقية سواء اعترفنا بها او استمرينا في غض الطرف عنها. ما يفسر تباطؤ الحكومة في تلبية متطلبات الثوار. ثم يأتي ثانيا في سلم اولويات الحكومة الدول والمؤسسات المانحة فالقروض والمنح تمثل ما يزيد عن 35%من الناتج وايرادات الخزينة ولذلك يصبح جزء من الولاء او الaccountability موجها لهذه الدول والمؤسسات. فتضعف الديمقراطية لان الديمقراطية هي ولاء الحاكم للشعب ولكي يكون الشعب مؤثرا لابد من ان يكون المصدر الاساس لتمويل الدولة هو دفع الضرائب اي المواطنين. وعليه تلعب القروض والمنح دورا شبيها بلعنه الموارد في تقويض المؤسسات واضعاف الديمقراطيات.

ثانياً: اثر القمع ( repression effect) وهو يتمثل بمجال استخدام القروض والمنح فالقروض تمنح ولكن يصعب على الدول المانحة تحديد آلية استخدام هذه المنح وتتبع الأيادي او الجيوب الاخيرة التي ستنتهي فيها هذه الاموال وهنا يستخدم الحكام القمعيون هذه القروض في زيادة الصرف على امنهم وتقوية جيوشهم واجهزتهم الامنية القمعية وآلتهم الإعلامية المضللة ومليشياتهم التي ترتكب الفظائع وقد حدث هذا في نموذج نظام البشير والاتحاد الاوروبي حيث انتهت اغلب الاموال الخاصة بمحاربة الهجره غير الشرعية بأيدي المليشيات وزادتها قوة وعتاد كما استخدمت ايضا في تمكين المؤسسات الامنية القمعية.

وحيث ان هذه المؤسسات لم يتم بعد إعادة هيكلتها وطالما انها مازلت تحظى بجزء كبير من موارد البلاد فإن اي قروض ومنح سيذهب النصيب الاكبر منها لهذه المؤسسات الصديقة للاستبداد ولايوجد دليل على اي اتجهات تنموية او مشاريع بنية تحتية تستقر عندها هذه الاموال او غيرها. ولتسأل نفسك وانت تقرأ هذا المقال من هو رئيس الآلية الاقتصادية ومن سيقرر ويتصرف في اي دعم او منحة اوقرض؟

ثالثاً: اثر التحديث( modrenization effect) وهو ان النمو الاقتصادي القائم او المُحرك بالقروض والمنح يفشل في خلق التغييرات الاجتماعية والثقافية الازمة لإنتاج الديمقراطية فلكي تستديم الديمقراطية لابد من ان ينتظم المحتمع تغيير ثقافي واجتماعي بحيث تحترم حقوق الانسان وتقدس الحريات ويقضى على كافة انواع التمييز واحترام الاديان وقبول الاخر والتساوي في الحقوق واختفاء المحسوبية والطبقية وغيرها من التغييرات الضرورية لاستدامة الديمقراطية.

فديمقراطياتنا السابقة لم تحدث هذه التغييرات لان هيكل الدول ريعي يقوم على سادة وعبيد وليس حكام منتخبين وشعب صاحب السيادة فالسيد هو الحاكم حتى لو اتى بالصندوق.

والقروض والمنح والريع تمكنه اقتصاديا ليستغني عن ارادة شعبه ولذلك لا ترى حكومتنا الانتقالية اي ضرورة لإستعجال المجلس التشريعي او الايفاء بمقتضيات السلام فنحن شعب فقير لايدفع ضرائب وليس له وزن حقيقي من ناحية النفوذ. ومن هم بحاجة للسلام هم لاجئون خارج دومين الاقتصاد نفسه ومن الصعب سماع اصوات الخافتة بفعل القمع والقهر الذي انتظم مجتمعاتهم لسنين.

وعليه اخلص للقول بأننا اذا اردنا ديمقراطية مستدامة لابد من ان ندخل في عملية انتاجية كبيرة تبدأ بالزراعة ليس لان السودان دولة زراعية ولكن لان 70%من السكان يشتغلون بها ولكنهم فلاحين peasants وليسوا مزارعين وهنا لابد من تمليك الاراضي للمزارعين وانشاء بنك للتنمية يمدهم بقروض طويلة الاجل ليقيموا مزارع كبيرة وهنا يمكن ان نتقدم للعالم ونطلب خطة مارشال لمساعدة هولاء المنتجين على اقامة مزارع ضخمة وبأحدث الآليات بدلا من منحنا امولا لسد عجز الموازنة فتلك اموال تدعم الحكام ودعم الانتاج يدعم المواطن. فعندما تصبح الزراعة تمثل %50من الناتج الاجمالي يكون 70%من السكان هم مصدر ثروة ودخل الخزينة وهم الاسياد وهم من يتجه ولاء الحاكم لهم فتستديم الديمقراطية.

نحن كسودانيين بتنا نمتلك خبرة تراكمية تتيح لنا عدم تكرار تجارب الماضي ومواجهة تحديات بلادنا بشجاعة كبيرة وصولاً لبناء ديمقراطية مستدامة تقوم على بناء مؤسسات حديثة صديقة للديمقراطية على انقاض المؤسسات البدائية الصديقة للاستبداد.

واختم بالقول النور في قلبي وبين جوانحي فعلام اخشى السير في الظلماء.
ودمتم

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.