آخر الأخبار
The news is by your side.

الدروشة السياسية vs العقل الإستراتيجي (1_2) … بقلم: أمجد هاشم

الدروشة السياسية vs العقل الإستراتيجي (1_2) … بقلم: أمجد هاشم

تعالَت في الأيام الفائتة بعض الأصوات التي تدَّعي أن معركة إسترداد الأراضي السودانية المحتلة في الفشقتين الكبرى و الصغرى ما هي إلا حرب بالوكالة يخوضها السودان بالنيابة عن مصر، كما أن بعض الأصوات الأخرى تساءلت لماذا الفشقة و ليس حلايب بما أن كلاهما محتلتين؟؟!!

في رأيي أن هذه الأصوات تعبر بجدارة و إستحقاق عن حالة مرضية مزمنة ظلت تعاني منها الدولة السودانية طوال العقود الفائتة التي أعقبت الإستقلال و هي حالة الإنغماس كلياً في الدروشة السياسية و غياب العقل الإستراتيجي القادر على الإستفادة من دروس التاريخ، الإستغلال الأمثل للفرص الآنية، الإستثمار في التقاطعات الدولية و التناقضات الإقليمية و إستشراف الفرص المستقبلية، و العقل الإستراتيجي هنا ليس بالضرورة أشخاص بعينهم بل هو في الغالب مؤسسات بحثية متخصصة يسترشد بتوصياتها صانعي القرار و متخذيه.

و للتوضيح أكثر دعونا نبدأ بالدروس التاريخية ولتكن لنا في السد العالي عظة و عبرة، ففي نهاية الخمسينات من القرن الماضي قدَّمت مصر للبنك الدولي دراسة جدوى لأضخم مشروع في أفريقيا على مجرى نهر النيل سمي بالسد العالي و لكن البنك الدولي رفض تمويل المشروع فتوجهت القاهرة إلى الاتحاد السوفييتي الذي وافق على التكفل بالتمويل والانشاءات في سياق الصراع الأممي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي و هو ما حوَّل مسألة بناء السد العالي إلى رمزية لما هو أكبر من مجرد مشروع فالكتلة الإشتراكية إعتبرته صفعة موجهة للإمبريالية العالمية و لا يجب تفويتها.

لكن العائق الأكبر أمام السوفييت و المصريين كان السودان فهو يملك بموجب المواثيق الدولية حق الفيتو ضد المشروع الذي سيؤدي لتهجير عدد كبير من المدن و القرى السودانية المأهولة بالسكان و سيغرق الإرث الحضاري النوبي بالكامل تحت بحيرته التي كان مقرراً لها أن تتجاوز الحدود الدولية المصرية إلى داخل العمق السوداني بطول 300 كيلومتر و عرض 3500 كيلومتر مربع، الطامة الكبرى أن النخب السودانية ذات الميول اليسارية في ذلك الوقت كانت أكثر حماساً من المصريين أنفسهم للمشروع الذي ظنوا أنه سيمرمط الرأسمالية العالمية و يقضي عليها كمداً والشاهد في هذا الأمر بحسب رواية الصاغ الفاتح بشارة سكرتير الفريق إبراهيم عبود أن عبدالخالق محجوب سكرتير عام الحزب الشيوعي هو الذي نسق مع السوفييت زيارة عبود الأولى إلى الإتحاد السوفييتي في تجاوز معيب لقنوات الإتصال الرسمية بين الدول و هي الزيارة التي مارس فيها السوفييت ضغوطات هائلة على عبود للقبول بالسد العالي.

وقد أفصح عبدالله علي ابراهيم المقرب من عبدالخالق في ذلك الوقت نصاً وأنا أنقل كلامه بين قوسين (وبدا لي مما أعرف كفاحاً أن الحزب الشيوعي لم يكن ضد الاتفاقية، فلم يكن السد العالي في نظرهم مصرياً، كان في سياقه المعروف اختراقاً تحررياً معادياً للامبريالية تهون لأجله كل تضحية).

إن النتيجة الحتمية لمنهج الدروشة السياسية و التعصب الإيديولوجي الذي كانت و ما زالت تعتنقه بعض النخب السياسية السودانية هو تضييع الفرصة الآنية التي أتاحها إحتياج السوفييت و المصريين للسودان و التفريط في المكاسب التي كان يمكن للسودان الضغط للحصول عليها قبل الموافقة على المشروع بما فيها الإعتراف المصري بسودانية حلايب و الإقرار بهذا الإعتراف دولياً في محاضر الأمم المتحدة و لكن من العجائب أن السودان لم يكتفي بتضييع الفرصة بل شارك مع مصر في مشروعها و دفع جزءا من التكلفة المالية لعمليات إعادة التوطين في حلفا الجديدة.

كما وقَّع السودان طائعاً على إتفاقية تقسيم مياه النيل المذلة التي منحتنا 18 مليار متر مكعب فقط مقابل 55.5 مليار متر مكعب ذهبت لمصر دون الوضع في الإعتبار الإحتياجات المستقبلية المتزايدة للأجيال القادمة و الأنكى من ذلك أن الإتفاقية ألزمت السودان بأن يتقاسم مناصفة مع مصر أي نقصان في مياه النيل قد يحدث مستقبلاً بسبب المطالبة المحتملة لدول المنبع بحصصها المائية.

يتبع… الطريق إلى حلايب يمر عبر الفشقة (2_2)

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.