آخر الأخبار
The news is by your side.

الحزب الشيوعي السوداني و ملوك البوربون … لم ينسوا ولم يتعلموا (1_4)

الحزب الشيوعي السوداني و ملوك البوربون … لم ينسوا ولم يتعلموا (1_4)

بقلم: أمجد هاشم

قراءة في دفاتر الحزب الشيوعي بالتزامن مع الذكرى ال74 لتأسيس (حستو) يقول أينشتاين (الغباء هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة)، لا أجد حزباً سياسياً في التاريخ الإنساني على مر العصور تنطبق عليه مقولة أينشتاين المذكورة أعلاه أكثر من الحزب الشيوعي السوداني، فالحزب الراديكالي العجوز الذي إنتقلت أفكاره إلى السودان لأول مرة في الأربعينات من القرن المنصرم عن طريق بعض الطلبة السودانيين الذين ذهبوا للدراسة في الجامعات المصرية وكان من بينهم عبدالخالق محجوب وحينها تلقفهم وتبناهم في القاهرة هنري كوريل مؤسس الحركة المصرية للتحرر الوطني المسماة إختصاراً (حمتو) وهو معروف لدى السلطات المصرية بعلاقاته الإستخباراتية المتشابكة والمريبة التي تسببت في طرده من مصر فيما بعد و أودت في النهاية بحياته مُغتالاً في ظروف غامضة بمدينة باريس في نهاية السبعينات.

(هنري كوريل… العراب الأول)

قام هنري كوريل (عراب الشيوعيين المصريين والسودانيين) في منتصف الأربعينات بإبتعاث المجندين الجدد من الطلبة السودانيين إلى الخرطوم لإنشاء فرع لـ (حمتو) في السودان وسمي بالحركة السودانية للتحرر الوطني وإختصارها (حستو) والتي بمجرد تأسيسها كواجهة للشيوعيين في أغسطس 1946 ناصبت العداء لمؤتمر الخريجين وللحركة الوطنية السودانية وإعتبرتهم مجرد قوى رأسمالية برجوازية متعفنة ومتواطئة مع الإستعمار وإتهمتهم بممارسة الخيانة الوطنية كما إعتبرت أن تفاوضهم على إستقلال السودان مع سلطات الإستعمار لا يعدو أن يكون هبوطا ناعما مع الإمبريالية العالمية متمثلة في الحاكم العام البريطاني المقيم بالخرطوم!!!! وظل الحزب الشيوعي يحرض الجماهير و يدعوها عبر واجهته (حستو) للتوحد حصريا تحت راية الحزب (النبضو واصل!!!!) لمقاومة وإسقاط إتفاقية الحكم الذاتي التي فاوض و وقع عليها مؤتمر الخريجين (تجمع مهنيين ذلك الزمان) وهي الإتفاقية التي أفضت فيما بعد إلى إستقلال السودان.

(سايرين سايرين في طريق لينين)

كان الشيوعيون يريدونه إستقلالا بطعم الدم والدموع ولم يرق لهم أن يتحقق سلمياً دون أن تراق في سبيل تحقيقه قطرة دم واحدة لذلك ما فتئوا يشككون في إتفاقية الحكم الذاتي ويعملون على إجهاضها ويبدو أنهم في موقفهم هذا قد سيطرت على عقولهم وأفئدتهم خيالات الثورة الشيوعية البلشفية في روسيا بقيادة فلاديمير لينين (الأب الروحي للماركسيين) وهي الثورة التي أفضت إلى تهجير مئات الملايين قسريا وإزهاق ما يفوق المئة مليون من الأرواح سقط غالبيتهم في إقليم القوقاز المتمايز عن روسيا ثقافياً وعرقياً ودينياً وهو سلوك غير مستغرب لدى الشيوعيين الذين تعاملوا على مدار تاريخهم مع قضايا القوميات والتنوع الثقافي والديني برعونة و وحشية زائدة غذتها حالة الشحن والتشنج الماركسي التي تسبب فيها ممارسة الشيوعيين للسياسة عبر بوابة العقائدية التي تضيق زاوية الشوف وتحصرها في إطار الإيديولوجيا وليس إستثناءاً في ذلك إضطهاد الحزب الشيوعي الصيني لقوميتي الإيغور المسلمة والتبت البوذيين في الصين كنموذج معاصر، وبالعودة إلى السودان البلد المأزوم أصلاً بالحمولات التاريخية الثقيلة التي صاحبت إنشاء الدولة السودانية الحديثة وإغفالها واقع التنوع الديني والثقافي مع ذلك أراد رفاق لينين وأبناء هنري كوريل بقيادة تلميذه الأنجب والمفضل من دون الآخرين (عبدالخالق محجوب) تأزيم الوضع أكثر وأكثر بإستنساخ ثورة السوفييت الدموية بحذافيرها لإكتمال شروطها بحسب ظنهم تحت دعاوى حتمية الصراع الطبقي و وجوبية الفرز الإيديولوجي فبحسب شهادة رفعت السعيد السياسي اليساري المصري الذي زامل عبدالخالق محجوب في (حمتو) فقد وصفه بالراديكالي الصارم و اللينيني الملتزم حتى النخاع وهو الذي صعد إلى قيادة (حستو) بعد معارك تكسير العظام بينه وبين العناصر الموصومة في وثائق الحزب بالهشاشة الثورية من أمثال عوض عبدالرازق (السكرتير السابق).

(النادي السياسي الجديد….)

نحمد الله أن ثورتهم البلشفية الموعودة تلك لم تتحقق بفضل التضييق الذي مارسته سلطات الإستعمار البريطاني على الشيوعيين و على واجهتهم (حستو)، فقد لاحقتهم السلطات بإستخدام قانون محاربة الأفكار والأنشطة الهدامة في ذلك الوقت وهو ما سمح للتجربة الديمقراطية الليبرالية في السودان أن تنشأ وتزدهر في أجواء ديمقراطية معافاة ومستقرة بقيادة مؤتمر الخريجين وفقاً لخطوات محسوبة ومتدرجة تم التوافق عليها في إتفاقية الحكم الذاتي مع البريطانيين كسلطة أمر واقع. الحزب الشيوعي بعد أن يأس من قدرته على تهييج الشارع ضد مؤتمر الخريجين والقوى السياسية الوطنية المنبثقة عنه و فقد الأمل في جدوى محاولاته الحثيثة لتسميم وإرباك الأجواء السياسية ما قبل الإستقلال والدفع بها إلى حافة الهاوية سرعان ما أعلن التراجع عن سياسته المعلنة و قرر الإندماج في النادي السياسي الجديد دون أن يقدم أي نقد ذاتي أو إعتذار تجاه موقفه السابق (وهو ما يشبه تماماً موقف الحزب الشيوعي من قحت و وثيقتها الدستورية الآن) بل قرر المشاركة في إنتخابات 1953 وهي الإنتخابات التي نال فيها الحزب مقعداً واحداً فقط علماً بأنها نُظِّمت بموجب نفس الاتفاقية التي رفضها الشيوعيين وهددوا بمقاومتها وإسقاطها.

(إنحناءة أمام الرياح…)

برغم أن الحزب الشيوعي في تلك الفترة حاول إرسال تطمينات للقوى السياسية الممثلة في برلمان 1953 وإجتهد في التمويه على نواياه المبيتة تجاه الديمقراطية الناشئة بالحديث عن خصوصية الحالة السودانية وعن تبنيه لمسار التطور الاشتراكي الديمقراطي الممرحل والنأي بنفسه عن الحزب الشيوعي السوفييتي وديكتاتورية البروليتاريا ولكن جميع الشواهد والأدلة فيما بعد أثبتت أن رضوخ الشيوعيين كان موقفاً تكتيكياً وأن مشاركتهم في العملية السياسية الديمقراطية بعد الإستقلال (على نهج وستمنستر الليبرالي المناقض جوهرياً لمقاربة الماركسيين الشمولية لنظام الحكم) لم تكن تعدو كونها إنحناءة أمام الرياح وإستراحة محارب هيئت لهم الفرصة للتموضع من جديد وتدشين إستراتيجية جديدة مرتكزة على إختراق الجيش السوداني وبذلك سنَّ الحزب الشيوعي سُنَّة سيئة لم يسبقه عليها أحد وتبعته فيها الأحزاب العقائدية الأخرى فيما بعد كالإسلاميين والبعثيين والقوميين العرب.

(لا حارسنا ولا فارسنا…)

كانت إستراتيجية الشيوعيين المستحدثة طويلة النفس تقوم على تجنيد الضباط الصغار وطلاب الكلية الحربية وتشكيل خلايا سرية داخل القوات المسلحة و ممارسة التخفي والتكتل الحزبي للإستيلاء على الأجسام النقابية المستقلة وإختطاف مؤسسات المجتمع المدني كالاتحاد النسائي مثلاً و تحويلها إلى مجرد واجهات حزبية بغرض إجهاض التجربة الديمقراطية الليبرالية الوليدة في السودان وتخريبها من الداخل إن دعى الداعي عبر مغامرات إنقلابية بدأت مبكراً في العام 1959 بمحاولة محمود حسيب الإنقلابية وتلتها عدة محاولات قادها صغار الضباط من أمثال محي الدين أحمد عبدالله وشنان وكبيدة وعلي حامد و خالد الكد ولم تنتهي السلسلة المشؤومة بإنقلاب مايو 1969 الذي شارك فيه الحزب الشيوعي جزئياً عبر ثلاث ضباط شيوعيين هم هاشم العطا وبابكر النور وفاروق حمدالله بمشاركة ضباط آخرين من تيارات يسارية عقائدية أخرى (الناصريين والقوميين العرب) وهو الإنقلاب الذي شهد و لأول مرة في تاريخ السودان حملات تطهير للخدمة المدنية على أساس سياسي وتصفيات جسدية ومذابح جماعية غير مسبوقة لا تقل عن حملات التمكين والتصفية الكيزانية في بداية التسعينات فالسلوك التمكيني ليس حكرا على الكيزان بل هو سلوك مرتبط بالاحزاب العقائدية التي تراه مشروعاً في إطار أهدافها الايدويلوجية العليا.

التحول الدراماتيكي في المشهد ظهر عندما طمِع الشيوعيين في كعكة السلطة وحاولوا الإستحواذ عليها بمفردهم بمعزل عن شركاءهم اليساريين (والطمع كما يقال ودر ما جمع) فدبروا لإنقلاب تصحيحي قاده الضباط الثلاثة المحسوبين على الحزب الشيوعي في مجلس قيادة مايو وقد نجحوا في الإستيلاء على السلطة لثلاثة أيام فقط قبل أن يعود جعفر النميري محمولاً على أكتاف الجماهير مرة أخرى ومنذ ذلك الحين سيطر على الحزب هوس التخفي والتأمين تحت الأرض وتملكته فوبيا الظهور العلني.

(فوبيا الظهور العلني و هوس التخفي…)

إن حالة الفوبيا التي لازمت الماركسيين بعد أحداث السبعينات المؤلمة التي قضى فيها النميري تماماً على قيادات الصف الأول من الشيوعيين قطعت الطريق على إستراتيجية عبدالخالق محجوب وعطلت الحزب الشيوعي الذي عولت عليه الأحزاب الشيوعية الأخرى في المنطقة كثيرا فقد كان مصنفا الأقوى في أفريقيا ولكن يبدو أن القيادات الوسيطة لم تكن مؤهلة بالقدرالكافي للقيام بمهام مرحلة جديدة لم يكونوا مستعدين لها فركنوا إلى حالة من البيات الشتوي سميت جزافا بالعمل السري ولم تبارحهم تلك الحالة إلا في بداية الألفينات عندما تفاجأ محمد إبراهيم نقد (سكرتير الحزب الشيوعي) وهو في مخبأه بصلاح قوش مدير المخابرات ومعه لفيف من الصحفيين يطرقون باب شقته ومن ثم يتجاذبون معه أطراف الحديث قبل أن يغادروا بعد أن إلتقطوا معه عدد من الصور التذكارية وقد ساهمت هذه الزيارة في تحطيم أسطورة (الشيوعيين والعمل السري) التي سادت في الأوساط السياسية لعقود من الزمن وقاصمة الظهر كانت حادثة الفلاشة الشهيرة التي وقعت في يد جهاز الأمن عن طريق أحد المسؤولين التنظيميين في الحزب وتسرب ما تحتويه من معلومات حساسة حول بيانات العضوية وهو ما يثير أسئلة حول حجم الإختراق الذي قد يكون تعرض له الحزب بسبب هذه التسريبات خصوصا في ظل حالة التشابك في الخيوط والتقاطعات ما بين تيار (تسقط تالت) النشط داخل الحزب الشيوعي تحت دعاوى أن الثورة لسة نية وما بين فلول الدولة العميقة التي تريد ان تنحدر بالفترة الإنتقالية إلى حالة من الفوضى والعبثية التي تسمح بعودة النظام القديم من الباب الخلفي في سيناريو أشبه ما يكون بسيناريو حركة تمرد المصرية التي سلمت الثورة على طبق من ذهب للعسكرتاريا عن جهل أو خوف أو طمع.

(الإستراتيجية القديمة المتجددة… بنحب الليبرالية !!!!!)

لطالما راهن الحزب الشيوعي السوداني في إستراتيجيته القديمة التي وضعها عبدالخالق على التخفي والعمل من خلال الواجهات ولكن الجديد هو إضفاء مسحة براغماتية على هذا التوجه فقد ودّ الحزب أن يتخذ من جميع النقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني على وجه الأرض واجهات حزبية حتى وان كانت تلك النقابات مخصصة لرجال الأعمال والبرجوازيين (أعداءهم الأيديولوجيين!!!) أو مؤسسات مجتمع مدني ممولة من دول مصنفة لدى الشيوعيين تاريخيا كملاذ للإمبريالية العالمية!!

ولا يخفى على المتابعين أن العديد من كوادر الحزب الشيوعي بعد النكبة الشهيرة في 1971 قد ضل بهم الطريق وإتجهوا إلى التخفي خلف الواجهات الليبرالية وعملوا على تأسيس شبكة علاقات داخلية وخارجية قامت على مدار سنوات طويلة بإختراق المنظمات الدولية المعنية بقضايا الجندر والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات السياسية والأجتماعية وهي قضايا ليبرالية بإمتياز ولعل ما كشفه مؤخرا الشيوعي السابق صلاح البندر المقيم في بريطانيا عن إستحواذ بعض كوادرالحزب على التمويل المخصص للسودان وإعادة توجيهه لغير ما خصص له أكبر دليل على مدى التخبط والإنحراف الذي وصل إليه الحزب العجوز الأمر الذي دفع بالبندر لرفع دعوى قضائية في المحاكم البريطانية ضدهم يتهمهم فيها بإختلاس أموال المنظمات الغربية.

(سكتيها القالت أحَّي…)

إن الحزب الشيوعي السوداني للأسف مثله مثل ملوك البوربون لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً فبعد خمسين عاماً من الغياب القسري يستعيد الحزب هذه الأيام مهاراته القديمة في التآمر والتخفي والتكتل هذه المرة للإلتفاف على لجان المقاومة و الاجسام النقابية المستقلة التي كان لها الدور الأعظم في ثورة ديسمبر المجيدة و ما تسجيلات (الفراكشن) المسربة إلا قمة جبل الجليد.

آن للشيوعيين أن يدركوا أن أساليب العمل السياسي التي إبتدعها عبدالخالق محجوب في خمسينات القرن الماضي لم تعد مجدية فقد عطلت تطور البلاد وهددت إستقرارها وتضرر منها السودان وديمقراطيته الليبرالية الناشئة وحركته النقابية الواعدة كثيراً كما تضرر منها الحزب الشيوعي نفسه أكثر من غيره وخسر بسببها قياداته التاريخية (المدنية والعسكرية على السواء) إبان يوليو 1971 و حينها أقبل بعضهم على بعض يتلاومون ويتباكون (وا حلالي أنا وا حلالي.. أريتو حالك يابا حالي.. الشفيع يا فاطمة حي.. سكتيها القالت أحَّي) والشاعر هنا في هذه البكائية يشير إلى الشفيع أحمد الشيخ في سياق خطاب المظلومية وأدب الكربلائيات الذي إنتشر بين الشيوعيين في تلك الفترة العصيبة، ولمن لا يعلم من الشفيع فهو (راجل فاطنة) عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي و رئيس إتحاد نقابات عمال السودان (الكيان المماثل من حيث الفكرة والممارسة لتيارالإختطاف الحزبي في تجمع المهنيين) والذي كان قد أبرق الضابط الشيوعي هاشم العطا مهنئا على إنقلابه الميمون بصفته النقابية وليس الحزبية في إخلال واضح بمبدأ إستقلالية وديمقراطية الحركة النقابية التي تحولت في عهد الشفيع الى ألعوبة في يد الحزب الشيوعي تعادي من يعاديه وتصالح من يصالحه و تتصدى لمعاركه السياسية بالنيابة عنه حتى وإن كانت هذه المعارك في غير مصلحة منسوبي النقابات من العمال والمهنيين!!!

ويا ليت الشفيع إكتفى بالدعم الشفهي بل خرج مناصراً للإنقلابي هاشم العطا بالمسيرات المؤيدة لما سمي بحركة يوليو التصحيحية وحدث بعدها ما حدث، فهل من متذكر؟؟!!

يتبع

*أزمة الأحزاب العقائدية وعبأ الإيديولوجيا (2_4)

*الإلتزام بقواعد الديمقراطية شرط أساسي لإستدامتها (3_4) *خيار العزل السياسي والنقابي للعقائديين (4_4)

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.