آخر الأخبار
The news is by your side.

التكلُّس اليساروي: من أبادَماك إلى العوز الثقافي (18) … بقلم: النور حمد

التكلُّس اليساروي: من أبادَماك إلى العوز الثقافي (18) … بقلم: النور حمد

أرسل إليَّ أحد الأصدقاء الأعزاء ممن كانوا في الحزب الشيوعي، رسالةً يقول فيها: “إنت يا النور

قايل الخلَّانا، ونحنُ كُثْرٌ، ننجوا بجلودنا، هيِّن؟ إنت اكتشفتها بالبحث والملاحظة والمعايشة من

بُعد، ولكن نحن عشناها بكل تفاصيلها … والحمد لله على نعمة العقل، على كل حال”. والحق أن

كثيرين ممن تعرضوا للتنمر والشيطنة من قبل كهنة الحزب الشيوعي فقدوا عقولهم، أو اهتزت

شخصياتهم، اهتزازًا لم يعودوا بعده أشخاصًا طبيعيين متماسكين. ولقد رددت على رسالته

بأنني عشت طرفًا من تجربة الضغط النفسي عن كثب، وأنا طالبٌ في الثانوية، رغم إني لم أكن

عضوًا في الحزب. لكنني كنت منتسبًا إلى الجبهة الديموقراطية، وكنت عضوًا نشطًا في تنظيم

“طلائع الهدهد”. فقد تعرضت، ومن هم على شاكلتي، للنظرة الدونية من زملائنا الطلاب أعضاء

الحزب، الذين كان يعدون أنفسهم طبقةً أرفع، وكانوا يتصرفون تصرف “الأعرف”. وقد خلقوا بذلك

دائرةً داخليةً، أو ناديًا للامتياز الرفاقي، مع أساتذتنا الشيوعيين، الذين كانوا يرعون أنشطتنا

الثقافية.

كان تنظيم طلائع الهدهد وعاءً ثقافيًا يعمل أعضاؤه تحت مظلتي الجبهة الديموقراطية، ومن

ورائها الحزب الشيوعي، لاستقطاب طلاب الثانويات. وقد كان بعض الطلاب يعلم ذلك، وبعض

آخر لا يعلم ذلك، وبعضٌ ثالث غير مهتم. نبعت فكرة طلائع الهدهد فيما يبدو من تنظيم أبادَماك

الذي أسسه الشيوعيون منذ الديموقراطية الثانية، ووصفوه بأنه: “اتحاد الكتاب والفنانين

التقدميين”. وكان الدكتور عبد الله علي إبراهيم أحد أبرز القائمين على أمره او ربما أبرزهم

جميعا. وقد تمددت الفكرة إلى خلق أفرع مماثلةٍ له في الثانويات. فتأسست “طلائع الهدهد”

في حنتوب الثانوية، و”طلائع القندول” في القضارف الثانوية و”طلائع النخيل” في مروي

الثانوية. ولولا صدام الشيوعيين مع نميري عام 1971، الذي هدم كثيرًا ما شيَّده الحزب

الشيوعي، لكان لذلك النشاط الرائد أن يحدث تغييراتٍ كبيرةً في الوسط الثقافي المدرسي،

وفي مجريات الثقافة في المجال العام. لكن لأن الغرض الحزبي الضيق كان هو المسيطر، ولأن

التنظيم كان ذا طبيعة مغامرة، متعجلة جنحت إلى الانقلاب العسكري، فقد تبخَّرت تلك النهضة.

لقد كان تنظيم أبادماك عملاً مدنيًا متميزًا في الدفع بالثقافة في المجال العام وفي الوسط

التعليمي. لكن، عابه انجراره نحو ثقافة الكتلة الشرقية، وأيضًا انجراره إلى عموم “الكانون”

الثقافي الغربي، حال المثقفين العلمانيين في الدول حديثة الاستقلال، في بدايات النصف

الثاني من القرن العشرين. كان هناك ابتعادًا عن الثقافة الإسلامية وحالةً عميقةً من الاغتراب.

كانت أنشطة فروع أبادَماك المصغرة في الثانويات عملاً متقدمًا فيما يسمى، في مجال التربية،

بـ”الأنشطة اللاصفية” extra curricula activities، وهي أنشطة لا تقل شأنًا عن المنهج

الرسمي. بل ربما تكون أهم منه أحيانًا، خاصةً حين تتصل الأمور بالثقافة العامة وبالوعي

السياسي، وبما يسمى حاليًا “تعليم التمدن” civic education، وكل ما يتصل بتعليم قواعد

المواطنة الصالحة والانخراط في المجتمع العريض.

الامتلاء بثقةٍ زائفةٍ في الذات، والعزوف عن النقد الذاتي الصريح، أضر كثيراً بتجربة الحزب

الشيوعي السوداني. ولو أنهم تمهلوا قليلاً وتأملوا لماذا حصلوا في انتخابات 1965 على 11

مقعدًا، في حين حصل الإسلاميون على 5 مقاعد، ولاحظوا كيف انقلب الوضع بعد ثورة أبريل

1985، فحصلوا في انتخابات 1986، م على 3 مقاعد، في حين حصل الإسلاميون على 51 مقعدًا

لاتضح لهم خطأ طريقهم. تغليب التوجه الحركي التعبوي التحشيدي طرد المثقفين اليساريين

من سوح الحزب، فصعد إلى قمته الحزبيون التنظيميون، وانتهى الأمر إلى هذا العوز الثقافي

الذي يُملأ الفراغ بضجيج الشعارات المستهلكة. (يتواصل).

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.