آخر الأخبار
The news is by your side.

الإنقـــاذ لا تــزال تعيــش بيننـــا

الإنقـــاذ لا تــزال تعيــش بيننـــا

بقلم: النور حمد

 واهمٌ من يظن أن نظام الإنقاذ قد ذهب مع ذهاب الرؤوس المدبرة التي كانت تديره. فنظام الإنقاذ أسس قواعده على عللٍ في بنية عقلنا الديني الجمعي، الذي قلبته الخديوية منذ مائتي سنة رأسًا على عقب وحولته من عقل صوفي إلى عقل فقهي.

كل ما في الأمر، أننا أصبحنا، منذ دخول الخديوية إلى بلادنا، نتمسح بتراثنا الأخلاقي الأرواحي والصوفي الإسلامي والمسيحي شكلاً، في حين أن بناءنا الأخلاقي اخترقته نزعة نفعية، أساسها حيازة الدنيا باسم الدين. عملت الإنقاذ على التكوين الأخلاقي الروحاني الذي يجمع السودانيين بمختلف عقائدهم، فأنفقت على مدى ثلاثين عامًا جهدًا كبيرًا وأموالاً طائلة في تحويله، فتشوه وغامت الرؤية أمام ناظريه. وحتى الذين لم يتأثروا منا بالخطاب الإعلامي الإنقاذي، كانوا أصلاً متأثرين بالثقافة الخديوية وفقهها السلطاني وأخلاقياته التي ورثتها الإنقاذ وأقامت عليها أبنيتها.

من الخطأ أن نظن أن تأثير الإنقاذ قاصرٌ على منتسبيها وحدهم. فالتردي الأخلاقي السائد الآن والذي يطالعنا في كل مجريات حياتنا اليومية، ليس قاصرًا على منسوبي الإنقاذ من قيادات ومن قواعد، وإنما هو حالة أشبه ما تكون بالحالة العامة.

فهناك القطاع العريض من السلبيين المكتفين بالفرجة على ما يجري، مع انخراط كلي في ممارسة كل الرذائل في مجريات الحياة اليومية؛ من بيع وشراء وغير ذلك من معاملات طابعها المكر والغش. فهؤلاء إنقاذيون حتى مشاش العظم. كما أن كثيرًا ممن يظنون أنهم ثوار، ممن جعلهم يُتْمُ الثورة الممسكين بمقودها، زاعمين أنهم نقيضٌ حقيقيٌّ للإنقاذ، لا يحملون، في حقيقة الأمر، من هذا الزعم سوى الادعاء.

الإنقاذ تعيش الآن بيننا في كل شيء. فهي لم تأت أصلاً إلا لأن في واقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي ما استدعاها. من يملك حصيلةً متوسطةً من العلوم الإنسانية، وبخاصة العلوم الاجتماعية، يعرف أن الصراع السياسي المرير الجاري الآن لا يعكس في حقيقة الأمر معسكرات متباينة، وإنما يعكس صراعًا داخل معسكر واحد سماته الأساسية التآكل الأخلاقي، والتمركز حول الذات وسيطرة النزعة النفعية.

بدأ هذا التآكل الأخلاقي في سردية التاريخ الإسلامي يوم أن نصرت الغوغاء المتسلحة بالنزعة النفعية، معاوية بن أبي سفيان على علي بن أبي طالب. بل، قال أكابرهم: “الصلاة خلف عليٍّ أقوم والطعام عند معاوية أدسم”. منذ تلك اللحظة الفارقة، تحولت الدعوة الإسلامية الأخلاقية المتعففة المتنسكة، إلى ملكٍ عضوض. وكل فقه جرى إنتاجه منذ تلك اللحظة، وإلى يومنا هذا كان فقًا سلطانيًا، دوره الرئيس هضم حقوق الأكثرية المضللة باسم الدين، لصالح الأقلية الممسكة بمفاصل السلطة والثروة. هذا ما رسخته الإنقاذ وقدمت فيه نموذجًا بشعا.

لو راقبنا مسلك المكون العسكري والأمني في المشهد الحاضر منذ فض الاعتصام وحتى خطاب البرهان الأخير، ولو راقبنا سلوك الحركات المسلحة وتعطيلها لمجريات الثورة لتحجز مقاعدها في السلطة، ولو راقبنا مسلك حزب الأمة وتذبذباته، وكذلك، ازدواجية الموقف لدى الحزب الشيوعي وتهافت البعثيين على الظهور الحزبي، لاتضحت لنا البنية الأخلاقية المهترئة التي تجمع كل هذا الشتات.

ما جرى، في نيرتتي وكادقلي والجنينة وبورتسودان، ومؤخرًا في كسلا يدل على أن الانقاذ هي كل أجهزة الدولة المختلفة، وهي أيضًا هذا الجمهور النزق القابل للشحن من قبل المغرضين، والانجراف بلا وعي في وجهة تسبيب الانفلاتات الأمنية المتسلسلة. كل ما نراه الآن هو الماضي المعلول بلحمه ودمه. فإذا لم تتحول هذه الثورة إلى ثورة ثقافية تستهدف إصلاح البناء العقلي والنفسي ووقف هذا التآكل الأخلاقي الشامل، فإن مشوارنا نحو التعافي سوف يطول، ولسوف تكتنفه تضحيات جسام.

التيار

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.