آخر الأخبار
The news is by your side.

“إلى روح المعلم جون قرنق دي مابيور؛ في ذكراه، و في كل المواسم”

في عدارييل : كائن لا يرى بالعين المجردة!

“إلى روح المعلم جون قرنق دي مابيور؛ في ذكراه، و في كل المواسم”.

بقلم: منجد باخوس

(1)

تنقلني الرياح الجنوبية إلى كل الأدغال ..
يا رياح الجنوب،
يا عدارييل يا عدار،

في عدارييل:

إنتهت الحرب الطويلة، كنتُ أنا آخر الجنود الذين نجوا، آخر من رأى الجثامين الميتة تقوم من فراش الموت..تأكل من ثمار المانجو الجنوبي..تحتسي الخمر..تطلب قُبلة .. ثم تفر نحو المقابر. أنا في عدارييل: رأيتُ البنات الطويلات يبكين حول مائدة من الأصابع المشوية.. مغطاة بكفن مبتل بالماء، رأيتُ رؤوس تركض كالبرق لتلحق بأجسادها، رأيتُ الأرض تأكل لحم الأبقار و تتجشأ، رأيتُ الفؤوس تعلو في الأقاصي ، رأيتُ السكاكين تدخن قرب إمرأة على وشك الموت، رأيتُ المسيح..رأيت المسيح بنصف جسد عاري يتدلى من شجرة مطلية بالكربون..يبكي و يعاقر كأساً عظيماً من دموع الرسل،في عدارييل:

 

رأيتُ الأمعاء الخاوية تأكل لحم بشري، رأيتُ الألوان كلها في الدم، رأيتُ النوم يفر من عيون مقتلعة و مبعثرة على الأرض الحمراء، رأيتُ الجياد تطلب الإغاثة من ملاك الموت، وفي عدارييل: كان صديقي يحتسي مياه البالوعات في مقام القهوة، رأيتُ الفزع يختبئ تحت جبل من جثث تطفو على الماء، و في عدارييل: رأيتُ الرسل و الأنبياء يرقصون تحت شجرة محترقة، رأيت الجنود يأكلون بعضهم..ثم يطيرون في الهواء كالنايلون، رأيت الفيلة تنسل من بيوت النمل و من شباك العنكبوت، رأيت الشجر يصرخ، أنا في عدارييل: رأيتُ صديقي يركض بقوة نحو المدافع فيما كان يقصد قارب النجاة الإلهي، رأيت في عدارييل؛ بعد أن إنتهت الحرب الطويلة: أتيم سايمون يمتطي دراجة نارية و يقرأ الشعر للمشاة و يوزع مناشير شعرية في فناء الشوارع السرية، يقرأ:
” ولَه الساسة الضالعين****
في انحسارك،
يا صديق
أحمل صليبك،
و احتفي،
أو دع جحيمك يقتفي أثر الهروب،
إشتري شمساً خافتة،
و ادرك ظلك..
قبل المساومة..”

(2)

في عدارييل:
سقط غول الحرب ميتاً..ثم دُفن دون صلاة للجنازة.
بعد نهاية الحرب الأخيرة، قررتُ العودة للبيت، تركتُ ذاكرتي معلقة بين فروع أشجار عدارييل و عُدت. على مشارف المدينة الكبيرة وقفتُ على تلة عالية و حدقتُ طويلاً في المدى، كانت المدينة الكبيرة تتململ تحت أقدام أشعة شمسية حارة، رياح حفيفة محملة بالغبار تصطك بالبيوت الطينية الخاوية و تعبر، ثمة روائح كريهة تنبعث من الأذقة الطويلة بمداخل الأحياء الطرفية التي غالباً لا تعرها الحكومة إنتباهاً، شعرتُ برغبة قوية في الطيران، تذكرتُ هذه الممرات الضيقة الطويلة، تذكرتُ ذلك اليوم البعيد الحزين الذي عبرناها و نحنُ مكدسين كالقاذورات،بملابسنا العسكرية الرثة؛ على العربة الكبيرة متجهين إلى عدارييل، تنهال علي ذاكرتي بالصور، الروائح، أصوات الجنود المليئة باليأس، وجوه الموتى المحتملين، و الحقائب الكئيبة المليئة بصور تذكارية للأمهات، البنات، الحبيبات، الوطن، المشاغبات، الجوابات..و صرخات الأمهات الطويلة التي حولناها لدماء جافة و كتبنا بها كلمات للذكرى على الأوراق و الملابس الداخلية.

(3)

فوق سماء المدينة:
أحلق..أحلق،
أحلق فوق سماء المدينة، خفيفاً..خفيفاً، كطائر..كشيء صغير، كروح مقدسة، و كأغنية أجوب سماء المدينة. رأيتُ المدينة، رائحتها تشبه رائحة مرحاض عام هائل دون أبواب تنظم الدخول، قطيع..قطيع..قطيع من الرؤوس تتصادم، دخان سيء الرائحة يخرج من المدينة، رأيت المساجين يأكلون وجبة الغداء، بنايات عالية في وسط المدينة..تحيط بها بيوت كثيفة من الخشب و الحطب و خبط العشواء، القصابين أراهم..أراهم أيضاً..”يأكل الجزار لحم جسمو ولا يأكل لحم الذبيحة” يبيعون للناس لحوم الابقار الميتة، أنبياء الشيطان الكذبة بلحى كثيفة وسط السوق يتغوطون فوق الكتب السماوية على الأرض..يبيعون للناس أسماء الله الحسنى و يتغامزون سراً فيما بينهم، أراهم أيضاً..أرى الشعراء أيضاً يوزعون الغزلان مجاناً بطرقات المدينة: ” الشعر غزالة تأكل من دماغ الشاعر و تتغذى على حليب اللحظة الهاربة”.. ما ربحت تجارتهم، و أرى خلف الأبواب الموصدة عسكريون يلعبون الورق و يتقاسمون مقر المقابر المجاور بعد أن أحرقوا الهياكل و بقايا الجثث اللينة، و أرى أيضاً فوق سماء المدينة: سرب ملائكة داخل سرادق عزاء يصلون صلاة جماعية لروح المدينة.

(4)

في مدخل البيت:
أمام منزلنا شجرة النيم الكبيرة، طويلة و كثيفة.. تغيرت واجهة المنزل كثيراً، ماتت شجرة المسكيت الصغيرة التي تركتها، جفت البركة المائية التي كنتُ أرسم بحوافها طائرة صغيرة و أفعى، لا أرى حظيرة أمي المنصوبة بفناء بيتنا الأمامي، رأيتُ بمكانها جمجمة تبدوا لعنز فاقد للسند، رأيتُ قرن مخلوق غريب يجلس بيأس على أعمدة الباب الطرفية، و لا أرى جدي العجوز تحت شجرة النيم..لا أراه أيضاً..تغير المنزل ، تغير المنزل كثيراً: أدخل .. أحلق و لا يراني أحد، بدا لي المنزل مهجوراً، سلة مهملات كبيرة تقف مباشرة أمام العتبة، سيتعثر بها أول الداخلين و يسقط فوق كومة براز إن لم يكن حذراً، يبدوا البيت غريباً و صامتاً، يشبه المقابر، لم يكن هكذا نهائياً، لا أسمع صوتُ أمي، لا أسمع قهقهات جدي ولا مشاغبات أطفال الجيران، حتى الجدادات التي كانت تتجول و تمارس الجنس مع الديكة أمام الناس لا أراها، ثمة صوت مكبوت يخرج من غرفة مغلقة..غرفة جديدة البناء لكنها تبدوا كئيبة، أنسرب إلى الغرفة عبر شقوق لا يراها أحد غيري، رايتُ إمرأة غريبة تتلوى أسفل شخص ضخم عاري، إمرأة مذعورة و تشعر باللذة، إقتربت أكثر .. تفرست وجهها الذي تفر منه طيور الشبق النهاري، وجهها غير مألوف لي .. لكنني أعرفها.. كبُرت جداً هذه البنت الصغيرة التي تركتها و إلى ذهبت الحرب..إلى عدارييل..هاهي الآن تأكل جسدها على مائدة الفراش..ربما هذا الرجل الضخم زوجها..أو ربما أصبحت البنت مائدة سخية لعابري السبيل القضيبيين. “تذهب للحرب لحماية الوطن..بينما يرسل الوطن الصعاليك لحماية بيتك بالقضيب”.. شيء في غاية السوء يا رجل!

رأيتُ الحائط، حائط الغرفة، رأيتُ صورة تذكارية لجدي يرتدي عمامة كبيرة، أسفل البرواز اللامع: رحمة الله عليك! شعرتُ بالحزن، مات جدي و أنا في عدارييل، تذكرتُ ذلك اليوم و المطر يهطل بغزارة، أطير أنا على الأشجار المغتسلة و أتمشى فوق الحشائش الإستوائية و النباتات، كان المطر ينهمر و أنا أشعر بالحرية في الحركة و التحليق، رأيت على صفحة الماء و البرق يضيء عدارييل: جدي يجلس على الماء و هو ممسكاً بعصاة طويلة، منحني الرأس و هو يدخن بشراهة، يملأ الدنيا بالسعال ، ثم يسقط على الماء بعد أن إستنشق نفساً طويلاً من الغليون الأسود..ينفث دخاناً غزيراً و متقطعاً بنوبات سعال عالية، أرى روحه تقتلع بقوة، تخرج الروح بينما ظل الدخان محبوساً داخل الجثة. في ذلك اليوم..في عدارييل: رأيت على صفحة الماء المنهمر جدي يدفن بالبيت دون كفن.

(5)

في بيتنا:
أحلق في بيتي، أجوب في البيت دون أن يراني أحد.
رأيتُ أمي، يا أمي، طالها الزمن بأصابعه و مزق سلسلتها الفقرية، كبيرة في السن تبدوا أمي، عيناها معصوبتان بالهم و الحمى، يا منافي عدارييل: أمي على وشك الموت، تجلس أمي على مقعد خشبي مادة رجليها بطريقة عشوائية، تغني تغني بأغاني البنات التي قُبرت تحت ركام الماضي المنسي، تذهب أنت للحرب و الحرب تفتك بأمك التي تركتها بالبيت وهي تبتسم، يا أمي يا أمي. شعرت بخفة أكثر، شعرت بالحزن أيضاً، أحدق في أمي العجوز، أصابها الزمن في مقتل، تعطس أمي، تعطس بصوت عالي و راعش، أتقدم نحوها، شعرها إستحال لشبكة متفرقة من الشعر الأبيض، أرى وعاء رأسها الصغير: فلول من القمل و عشيرته الصغيرة، أحدق في وجهها: تجاعيد غائرة و طبقات سميكة من الغبار تسكن الجيوب الجلدية الباهتة، تمد عصاتها و كأنها تبحث عن شيء ضاع على مقربة منها فيما رأسها يستدير في الفراغ العلوي، تقول أمي: “أشتم رائحة إبني.. هل فعلاً مات في عدارييل ..لم يمت .لم يمت في عدارييل”. شعرت برغبة قوية في البكاء..في الصراخ.. شعرت برغبة عظيمة في العودة، حلقت عالياً عالياً.. طرت بعيداً و أنا أصرخ.. يا عدارييل..يا عدار.. عدتُ لأسفل و جلست أمام أمي، أعانقها و أنا أبكي ..لا تشعر أمي بعناقي، يا عدارييل، تواصل أمي أغانيها السرية ، تصمت، تستنشق الهواء و تحرك عصاتها الطويلة، تقول: أشتم رائحة إبني..إنه قريب.. لم يمت في عدارييل، ثم تبدأ في نشيج خافت و جنائزي.
تنادي أمي: سلمى..سلمى..سلمى!

تخرج سلمى من الغرفة المغلقة، يخرج الرجل الضخم بسرعة..يهرول وهو يسحب بنطاله لأعلى، يعبر الباب و يختفي. تجيء سلمى و في عينيها شهوة كثيفة لم تنضج ثمارها، تركتُ سلمى صغيرة في السن، والآن يا عدارييل: تسأل سلمى و هي تخفي عريها: أيوة يا أمي؟! تسأل أمي أين كانت سلمى، تشعر سلمى بالإنزعاج و تقول لأمي: في الصلاة.. فيما كان رجل آخر مستدير، قصير القامة يتسلل إلى الغرفة المغلقة مشيراً لسلمى بعلامة تعني: هل في طريقة؟! تهز سلمى رأسها بالإيجاب فيما كانت أمي تخبرها عن رائحتي التي تتجول في المكان..و تحلف أنني لم أمُت في عدارييل. يا عدار..يذهب المرء للحرب بينما تذهب سلمى للغرفة الملغقة..يا عدارييل..يا عدار.

(6)

في عدارييل:
حلمتُ بأمي مرتين… مرتين في عدارييل: حلمتُ هكذا:
“طسط فخاري كبير مليء بالماء على تلة ترابية بمكان غريب، تخرج أمي عارية من الطسط و هي تحمل بيديها كتاب ضخم مبتل بالماء، ثدييها الممتلئان يتدليان، ثمة نمل كثيف يسير بشكل دائري حول الطسط الفخاري، و على مقربة من التلة الترابية يستلقي جثمان لشخص مجهول، فيما أنا جالس تحت حائط آيل للسقوط أنظر.. دون أن أستطيع مبارحة مكاني، تتقدم أمي نحو الجثمان المجهول، تضع الكتاب المبتل على صدر الميت، تطوي الجثمان بقطعة قماش بيضاء مرقطة بالدم، ثم تحمل الجثمان الملفوف و ترم به داخل حفرة مظلمة و تبدأ في الدفن، حينما تدفع أمي بالتراب أشعر بنفسي مقيد بالسلاسل و شيء ضخم ، رطب برائحة الورق المبتل يجلس على صدري ، و كتل ترابية غزيرة تتدافع من أعلى.. فأدرك أن الشخص الميت داخل الحفرة فعلاً هو أنا.. أشعر بأمي تدفع التراب بسرعة تشي برغبة واضحة في إنهاء عملية الدفن”.

(7)

في بيتنا:
أحلق في البيت دون أن تراني أمي..وسلمى أيضاً لا تراني.
تطلب الأم من سلمى أن تناولها صورتي المعلقة على الحائط، تمشي سلمى و أحلق خلفها، تدلف لغرفة أخرى صغيرة أقرب لكوخ..كانت غرفتي ..غرفتي ..إنسربت بسرعة فيما سلمى تحاول إغلاق الباب، تبدوا غرفتي فوضوية، لا أحد يدخل هنا، موحشة هذه الغرفة، روائح غريبة تنبعث منها، رائحة ملابس قديمة و براز الفئران، رأيتُ غرفتي: ملابسي القديمة معلقة على حمالات حديدية مكسية بالصدأ، سريري الوحيد عليه وسادة مقيدة بخيوط العناكب، تحت السرير حذائي الوحيد يقف تحت قاذورات و هو ينتظر شخص لن يعود أبداً، على رف حديدي تجلس كتبي التي تركتها و هي تتثاءب خلف ركام من الغبار و صفق الشجر اليابس، ثم رأيت صورتي الكبيرة معلقة على حائط الغرفة و في عيناي نظرة حزينة تحدقان في فراغ كثيف و كأنني أحدق بخشوع في إله الموت .. وهو يتمرن على طعني بحربة الموت التي لا تخطئ في إصابتها أبداً.
تُنزل سلمى الصورة، تزيح عنها الغبار، تحدق بالصورة..ثم تخرج بسرعة..و تغلق الباب. تأخذ أمي الصورة الكبيرة-في الحقيقة لا ترى أمي الآن ، تضغط على عينيها و كأنها تحاول تحريك الدم الجاف بأعصاب عينيها اليابستين..لكنها تفشل في كل مرة..تحتضن أمي الصورة ثم تجهش بالبكاء و هي تهمهم: لم يمت إبني ..لم يمت في عدارييل..يا عدار.
تغير البيت كثيراً، تحول في الحقيقة إلى كتلة طينية صماء من البؤس البشري، إختفت الحمامات من البيت، ماتت شجرة المسكيت، تحولت حظيرة أمي لملعب نموذجي لصعاليك الكلاب الضالة، جفت بركة الماء التي أحب، سلمى تدخل الغرفة المغلقة مع رجال كثر غريبي الهيئة، مات جدي و هو يدخن، أمي أصيبت بالوهن و هي مقعدة في مكانها غارقة في الظلام و العزاء النفسي، أبي ايضاً يدخل فجأة و هو مقوس الظهر..يرمي على الأرض حقيبة رثة مليئة بالعملات المعدنية..أبي أيضاً ضربه التاريخ في مقتل..يتسول أبي في طرقات المدينة و في مساجدها و هو يجمع من فتات المصلين و داعري المدينة الكبيرة.. تغير البيت، تغير البيت كثيراً.. لا شيء يشي بالحياة.. إختفى أطفال الجيران.. و اختفيت أنت في عدارييل ..فيما بيتك يسقط سقوطاً مريعاً في العدم.

(8)

فوق سماء المدينة:
تناديني أشجار عدارييل، تناديني حجارتها الصغيرة، أعانق أمي دون أن تشعر، أترك ورائي البيت و أحلق صوبك يا عدارييل، و فوق سماء المدينة..بنايات تعلو، روائح المدينة الكبيرة السيئة، بشر..بشر..و ضجيج عوادم السيارات، أعبر الفلوات الجوية للمدينة، في طريقي إليك يا عدارييل.. من سموات المدينة الكبيرة أرى الكنائس، البيوت السرية، الدواب المتعبة، عمال المصانع الموسميين، طلاب الجامعات الملوثة بسموم العقل القاتلة، أرى المساجين خلف القضبان يركلهم العساكر، أرى مسجد المدينة الكبير يتقاطر إليه المصلين.. رأيت هشام آدم يعتلي المنبر و يفتي للناس، رأيت هشام آدم يخطب في الناس:
من كان يعبد الطيب صالح فإنه قد مات..و من كان يعبد الأدب فإن الأدب حي لا يموت، يأيها الناس إننا في زمان إختلط فيه الحابل بالنابل و كثرت فيه الروايات الكاسدة.. أنتم تعلمون –يرحمكم الله- فقد ظهرت علامات الساعة الكبرى، فقد خرج علينا المسيح الدجال، يأيها الناس: قال سيدنا دوكنز: إن الألوهية هي بالأساس مفهوم ذاتي، منبعه عظام ما بعد الحداثة و دمه أصابع الروح. يأيها الناس: إني أعظكم لعلكم تفلحون. يا عباد الله: خذوا حذركم..عسى أن تهتدوا إلى السمين من الأدب ، فقد ذكر في الأثر: إن لفي الأدب فتنة، و أن الفتنة أشد من القتل.

(9)

فوق سماء المدينة:
رأيتُهم فوق سماء المدينة، رأيتهم يغازلون البنات في الأذقة، رأيتهم يشربون أشياء تجعلهم يسقطون من فرط النشوة، رأيتُ عبدالعزيز بركة ساكن يركض في ذقاق ضيق فيما يطارده رتل من البوليس، رأيته يركض و هو حافي القدمين، رايتُ الجنقو يخرجون من حقول السمسم و يخفون عبدو بركة تحت كومة من القصب اليابس، رأيتهم..فوق سماء المدينة: رأيتُ ساحة أتني التاريخية خالية من المثقفين المجانين..مليئة بالكلاب التي تنبح لشاعر يقرأ القصائد للمقاعد الخاوية، و في طريقي إلى عدارييل، فوق سماء المدينة: رأيتُ مأمون التلب يقرأ قصيدة ملغزة: أحابيل العدم التي تتدلى من لعاب الوقت !..ففر البنات اللائي كن ينوين الجلوس. و فوق سماء المدينة: رأيتُ لفافات الكراهية تتصاعد لأعلى حتى أزكمت أنوف الملائكة.. فتركت خلفي كل شيء و حلقتُ إلى عدارييل..يا عدارييل..ففي مياه عدارييل رُبطت روحي.

(10)

أعرج عروجاً نبوياً على بساط الماء الصافي، أقف على جسد النهر ولا أنزلق، أحلق كالطائر الملكي ولا أحط على شيء، أحط على سفوح الأشجار العالية ولا تصاب الطيور بالفزع، أغني في فلوات الغابات ولا يسمع لي صدى، أدخل البيوت دون أثر، أعانق البنات دون رائحة، أدخل الغُرف المغلقة، حمالات الثدي، تحت جلد الأفاعي، جيوب المسؤولين المليئة بالبراز الحرام، أنا الشيء الذي لا يعرفه الظل، أنا الناجي الوحيد من محرقة عدارييل، أنا الوحيد..الأحد، الذي يدخل الحجرات السرية في المدينة الكبيرة، أنا الذي يتجول في فناء البيت دون أن يراه أحد..أنا الذي نجا..
أنا الوحيد الذي نجا من عدارييل..
يا عدارييل..يا عدار..
أنا كائن لا تراه العين..ولا البصيرة في صلصالها البشري، أنا الذي نجا في عدارييل، أنا الذي نجا ..أنا كنتُ أول الموتى في عدارييل..يا عدارييل ..يا عدار.

_________
**** بين الأقواس مجتزأ من نص شعري للشاعر أتيم سايمون.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.