آخر الأخبار
The news is by your side.

إقرار ذمة … بقلم: فتحي عثمان

إقرار ذمة … بقلم: فتحي عثمان

أنا فتحي عثمان أحمد، كاتب هذه السطور، ولدت جاهلاً ، وأعيش جاهلاً، وسأموت، أيضا، وحتما جاهلاً.

الجهل هو القاعدة بينما المعرفة هي الاستثناء. قصة تعليم الله لآدم الأسماء تثبت أن الجهل هو السابق وأن المعرفة هي التالية.

وأقر كذلك أن الكتب التي أقتنيها في مكتبتي والأطنان من الكتب التي أحلم بقراءتها يوما ما، ولن أفعل حتما، هي الدليل الدامغ على جهلي وليس معرفتي. إذ أن كل كتاب منها يفتح لي سردابا ودهليزا يقود إلى مجاهل جهلي وفقري المعرفي.

إقراري بهذا الجهل ابتداء: يجعلني في موقف المجتهد المكابد، فما أقوله ليس إلا اجتهاد لكسر القواعد، ويحتمل الصحة والخطأ لغة ومنطقا وشعورا.

وبهذه الروح أنا لا اكتب استفزازا، ولا تنمرا، ولا استعراضا، بل أكتب لأحارب جهلي والجهل السائد، ويبقى الأمر معركة ليس ضد أفرادا أو فئات بعينها بل ضد جهلي الخاص والجهل المحيط بي.

وهذا استوجب مني هذا الإقرار، الذي أرجو أن يستحضره الجميع في كل ما أقول واكتب، فهذا الإقرار حجة لي وحجة علي. وجهلي وضعفي لم يسمحا لي في الأمس ولا اليوم ولا حتى في الغد بأن أن استعلي أو أتباهى بالباطل. فسواد £الجهل حالك ونور شمعة المعرفة يكاد لا يضئ، وبينهما ستنطفئ جذوة العمر.

 

الثقافة والمثقف.

يعيش الانسان في الثقافة قبل أن يولد؛ فطعام الأم الذي تتناوله ليقويها على مكابدة الحبل هو ثقافة، وعندما يضع الطفل قدميه فإنها يضعها في الثقافة، فعندما يوضع في غربال ويغنى له في مصر، أو عندما يرفع إلى باتجاه الغابة لتباركه أرباب الأحراش في افريقيا، وعندم يهرم ويموت ويدفن عند المسلمين ويحرق عند الهندوس ويحنط عند الفراعنة، كل ذلك لا يتم الإ في سياق ثقافي. والفلكلور و حكمة الشعوب وإنتاج البروش القفف والزنبيل كل ذلك ثقافة و إنتاج ثقافي. كل ذلك لا يهمنا ضمن هذه الكتابات بل يهمنا المثقف.

المثقف هو تلك الذات العارفة والمدركة والمفكرة والتي تعيش من أجل الفكرة وبها ولها، وهي تلك الذات التي تجترح السؤال وتخلق أدوات الإجابة عليه ثم تحرق نفسها بوقود الأدوات المعرفية على طريق كسر قاعدة الجهل للإجابة على سؤال الوجود، والأزمة والوطن والثقافة. ونحسب أن المثقف هو الذي ينشغل بالسؤال الوجودي ويقوى عضلات الذهن للإجابة عليه، ويبني القدرات التكوينية: النقدية والمعرفية والشعورية والتضامنية في مساره الوحيد في الإجابة على الأسئلة، وهو الذي يتحلى بالشجاعة، والذي يقف وحيدا، يتيما مخذولا، لتكون إجابته نور يهتدى به في متاهات الحياة.

 

أن تنشأ في ثقافة هذا إجبار، ان تكون مثقفا فهذا اختيار. وأن تختار هو أن تكون حرا. الانسان بالطبيعة مثقف، أي مسنن كالرمح، ليس باجتهاد منه بل لأنه يعيش في وسط ثقافي ينتج الثقافة. لكن أن يكون صاحب سؤال وأداة ومكابدة وإجابة وموقف فهو يتحول بذلك إلى مثقف. ويجب ألا تصرفنا الأمثلة والاستدلالات والاستشهادات عن قصد الكتابة، فننصرف إلى التركيز على الأمثلة وتضيع منا الفكرة، كالذي ينظر إلى الأصبع عندما يشار له به إلى القمر.

في مرة كتب باحث جاد بحث علمي رصين ومتميز عن الإبل، وعيره المثقفون بأنه “يغرد خارج السرب”، وتهكما أطلقوا عليه لقب “الجمالي” “والأبالي”، لماذا لأنه قدم بحثا علميا في الأبل. الاهتمام الفكري يجب الا يصبح محل تندر. سألت صاحب البحث:
عندما كتبته هل كنت تقصد به موظفين في وزارة الاعلام أو الزراعة أو مكتب الرئيس؟
رد بالنفي: قال الهدف من البحث كان “تناول دراسة الأبعاد الاقتصادية التي توفرها الأبل” وتحسين حياة ملاكها، “لاحظ الهدف النبيل من البحث”
فقلت له: إن الإبل ثروة وفخر وعز وشعر ونظام اجتماعي وثقافي ونظام اقتصادي متكامل ولا تتوقع من مثقف دعي يشاهد الجمال في حدائق الحيوان أن يقيم بحثك.
إذن تنوع الاهتمام وزوايا التناول بهذا الفهم يجب ألا يكون محط تندر وسخرية. والمثقف الحقيقي لا شاغل له سوى الفكرة وانتاجها، أما تطبيقها فذلك شأن آخر. فمن لا يريد قراءة بحث عن الإبل عليه الانصراف إلى الاستمتاع ب أوبرا “بحيرة البجع” ففي تنوع الاهتمامات متسع للجميع.

عندما يغيب المثقف عن السياحة الإرترية تغيب معه، وبأدوات المذكورة أعلاه الإجابات الفكرية العميقة والمؤسسة والمرشدة لأسئلة من طبيعة:

هل الحكم في اسمرا نظام، وإذا كان نظاما فما هي دعائمه، وما هي قيمه، وما هي أدواته وما هي هيكلياته، وما هي استمداداته المادية والمعنوية وأين نقاط قوته وضعفه وكيف يمكن هدمه، وكيف بنى أساسا وما هي الأنظمة التي تشبه، وكيف عاشت في الماضي وفي الحاضر وكيف هدمت. التصدي؟

لهذا السؤال يحدد الأدوار ويحدد الحياة والموت، لأنه سؤال حياة وموت وليس ترفا فكريا. لأن الإجابة تهدي إلى الطريق، لأن الفكرة نور، ولأن المثقف نبي. وهذه الأسئلة والأجوبة والاجتراحات المبتكرة هي التي تحدد اهتمام ودور المثقف الملتزم بقضايا الإنسان.

 

فمن هو المثقف الذي تصدى للإجابة عن سؤال مثل سؤال: لماذا يقاوم كبار السن في ارتريا بينما ينزوي الشباب؟

لماذا قاوم موسى محمد نور الانبا انطونيوس، هل لأن كبار السن يضعون المقاومة كخيار يائس؟
ولأن الموت أصبح على قرب أشبار من الحياة؟

 

فمن هو المثقف الذي تصدى لمثل السؤال وكل الأسئلة المتناسلة منه. والتي تتناول الخوف، والعقوبة والأثر النفسي للاستبداد والخنوع، والهجرة كظاهرة من الظواهر النافرة والمنفرة في ارتريا اليوم؟

من يجيب عن سؤال الثورة في ارتريا اليوم؟
كيف كانت في الماضي هل هناك حاجة لها اليوم؟
لماذا كل ثورة تنتهي بطغيان: الثورة الروسية وستالين، والكوبية وكاسترو، الغانية ونكروما، الارترية واسياس، الفرنسية ونابليون؟

الإجابة التي يتصدى لها المثقف تستلزم، معرفة الموضوع في بعده الخاص، والإنساني، وامتلاك الأدوات والنقد والتحليل والمقارنة والاستدلال والشجاعة والرغبة القاتلة في التنوير. وليس مجرد منشور على صفحات الفيس من خمسة أسطر تكشف عن كساح لغوي وفكري وشعوري. و السؤال هو: هل يفسر غياب النخبة الإرترية المثقفة وهدة التردي الحالي في كافة المجالات؟

الإنتاج الإبداعي الارتري

في ندوة للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن قال أنه استلهم أحدى رواياته من قصة امرأة تقف أمام مدرسة ابتدائية كل يوم عند انصراف التلاميذ. عندما سأل عنها قيل له أنها فقدت أولادها في غارة جوية أثناء حروب دارفور، وهي تحضر كل اليوم لتشاهد الأطفال يخرجون وتتصور أن أبناءها يمكن أن يكونوا في نفس عمر هؤلاء الأطفال. خلد عبد العزيز بركة ساكن، مأساة هذا المرأة في عمل فني رائع. أطفال هذه المرأة تحولوا إلى احصائيات لدى المنظمات المختصة بدراسة الحرب، ولدى علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع السياسة والبيئة، لأنهم موضوع بحث ودراسة وتقصي.

ولكن حتى اليوم نحن لا نعرف كم كيلو غراما من الوجد والعذاب حملته هذه المرأة، وكم لترا من الدموع اسالت وهي تبكي فلذات كبدها، لا نعرف ولن نعرف، لأن العلم لا يقدم لنا الإجابة، الأدب هو الذي يقدم لنا الإجابة.

لماذا؟ لأننا بشر ولأننا نجهل. ولأن العلم رغم تطوره، لم يخترع أدوات لقياس الفرح، والعار، والأسي والشعور بكافة تنوعاته. الأدب العظيم فقط هو الذي يقدم لنا إجابة.

عندم سئل فرويد عن أعظم الفلاسفة الذين تعلم على يدهم قال؛ تعلمت على يد ديستوفيسكي. وليس ذلك مستغربا لأننا عند تيشخوف وجويس وجبرا إبراهيم نستطيع قياس الأمل الألم والمعاناة.

لذلك ما يقدمه المبدعون الارتريون هو إجابة الشعور، وهي إجابة لا غنى عنها. وليس من الانصاف تجاهل دورهم. لكن عدم وجود نخبة مثقفة يكشفه الإجابات والمرشدة في الخطوب المدلهمة. وحتى الأدباء أنفسهم إذا حار بهم دليل الالتزام أصبح أدبهم متعة زمنية فانية.

فعندما سئل المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ عن أفلامه بأنها ليست ذات رسالة، أجاب:
من أراد الرسالة فليذهب إلى الكنيسة، أنا لا أقدم رسائل، أنا أقدم ترفيه وتسلية. الموقف هو الذي يحدث الفرق الجوهري.

كنوت هامسن الاديب النرويجي الفائز بجائزة نوبل عن روايته “الجوع” حدد موقفه بدعم الشر المطلق في تأييده للنازية. بينما قام تولستوي بتقسيم إقطاعيته على فقراء الفلاحين. الأدب بلا التزام، خاصة في عصرنا الراهن، يجرد الأديب من صفة المثقف بالمفهوم الرسالي.

مناشدة أخيرة:

اختلف معي، حاورني، لكن لا تنشق عنى، ولا تشقني إلى نصفين. زدني، بحق الله، ولا تنقصني.

(كاتب، ودبلوماسي إرتري سابق)

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.