آخر الأخبار
The news is by your side.

أمراض السّياسة السّودانية – الإقْصاء(2)

أمراض السّياسة السّودانية – الإقْصاء(2)

بقلم: أحمد يعقوب

مواصلة لمقالنا السّابق والمعنون بأمراض السّياسة السّودانية ؛وحديثنا عن التّخوين، أقول أن التّخوين يستبطن ويقود إلى الإقصاء مباشرةً، ويبدو الأمر جليّاً في المشهد السّياسي بالبلاد قبل وبعد الثورة.

يُفهم أن الوضع قبل الثّورة ؛ كان في حالة مأساوية وكارثية ، فقد أدخل نظام الإسلام السّياسي البلاد في جُحر ضبٍّ خرب واستتبع ذلك بالإبادة الجماعية وإنفصال جنوب السودان ؛ ناهيك عن الإقصاء المتعمّد لجماعات ثقافية متباينة عن؛ الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية ، وكانت آليات هذا الإقصاء بفرض أيدلوجيا أحادية – اقصائية لمكونات المجتمع السّوداني عبر الأسلمة والتّعريب، بالاضافة الى التّهميش والحروبات التي كانت نتاج مباشر لهذا الإقصاء الذي قاد إلى تشويه القيم وتخريب الشّخصية السودانية، لم يقف الأمر عند هذا الحد بل؛ أُقْصيت كل الأراء التي نادت بإصلاح المُشكل وسُجنت وعُذّبت وشُرّدت.

لم تكن ثقافة الإقصاء حكراً لدى جهاز الدولة فقط بل؛ حتى الأحزاب السّياسية المُعارضة منها والمتحالفة مع النظام كانت؛ تُمارس الإقصاء ضد معارضيها سواء الأحزاب الأخرى أو ضد عضويتها في قضايا وأجندة وطنية وأخرى حزبية متعلقة بالإصلاح والتّطوير ولا تحتمل التّكتيك بل الإصطفاف حول حقائق الواقع.
في كتابه الصادر حديثاً ” نقد السياسة في أمراض الممارسة السياسية ” توقف عبد الإله بلقزيز على ثلاثة أمراض خطيرة تفتك بالعمل السياسي، وهي الشعبوية، والانتهازية، والعنف السياسي، فيما ركز ضمن الأمراض التي تصيب البنى المؤسسية للتنظيمات الحزبية على ثلاثة أعطاب رئيسية هي: المركزية البيرقراطية، التي تمنع التنظيمات من الإبداع والتفكير الحر، والانشقاقات التنظيمية التي تحيل على الظاهرة الانقسامية التي ناقشها “واتربوري” في حقل السياسة، وعدد من الباحثين في حقل الأنثروبولوجيا مثل غيلنر وغيرهم، ثم تعرض لمرض ثالث هو العفوية، أو الارتجال وأخذ مسافة عن الفكر العلمي. هذه الأمراض الثلاثة التي تفتك بمختلف التنظيمات الحزبية، يرى بلقزيز أنها هي التي تحوّل البنى الحزبية إلى كائنات استبدادية نرجسية تضخم الذات وتقصي الآخر، وتقتل الحقيقة حين تلغيها عن الآخرين وتنسبها فقط للذات.
انعكس غياب الدّيمقراطية الداخلية لأحزابنا على تفاقم الأزمة؛ فغياب الدّيمقراطية الداخلية للأحزاب ساهم بشكل مباشر في تدني مستوى الممارسة السياسية بالبلاد، ودفع في اتجاه تعزيز ظاهرة الانشقاقات الحزبية والوطنية على السواء، كما يعد من بين أهم عوامل العزوف السياسي.
ومن نافلة القول أن التّعددية الحزبية هي من أهم شروط الديمقراطية، ولكن هذه الأخيرة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق أحزاب سياسية وفاعلين ديمقراطيين، ولهذا يصح القول بأنه لن تتحقق الديمقراطية في بلادنا بدون أحزاب ديمقراطية.

ما يحدث داخل المشهد الحزبي بالبلاد يعكس الوضعية الحقيقية لمستوى وطبيعة الممارسة السياسية ، التي تتميز بتغييب الديمقراطية الداخلية وعدم القدرة على تدبير الاختلاف وادارته، وهذا ما تنتج عنه ظاهرة الانشقاقات الحزبية والنماذج مبذولة، ويعزّز ممارسة الإقصاء وصراع الأجنحة داخل نفس الحزب السياسي الأمر؛ الذي يظهر الان في شكل الممارسة السياسية بالبلاد .
في دولة مابعد الثورة أخذ الإقصاء طابعاً ثورياً ، تماشياً مع ما يجري من أحداث؛ يمكن للمراقب أن يُلاحظ حالات التّناحر مابين الأحزاب والكيد السّياسي في حقبة مفصلية من تاريخنا الحديث؛ إقصاءٌ متعمد لكيانات عمّدت الثّورة بدمائها، إقصاء لكل من ينادي باصلاح خلل ما …..الخ .
يبدو كما لوأن هنالك فئة محددة تمتلك الحقيقة المطلقة أو فرد يدعي انه المخلّص ، الامر ذاته ينطبق على شكل الممارسة الداخلية للاحزاب ، حين تصطدم الأجيال الجديدة بالأجيال القديمة خاصة حول الطريقة الرثّة لادارة الأمور الحزبية أو الأراء المختلفة حول قضايا بعينها أو إصلاح المؤسسة الحزبية وتطويرها في عالم متسارع ومغايرمع سيولة المعلومة وتوفرها ، ومسح صغير لأرشيف تاريخنا السياسي الحزبي يبين لنا الإقصاءات التي تمت للكادر الأساسي لصالح انتهازيين جدد ؛فئة طفيلية نفعية تقوم بدور “نافخ البوق” للقادة ضد الحقيقة والواقع؛ فكان أن أبتُلينا بعمل سياسي يحمل في جوهره نظام التّفاهة الأمر الذي انعكس سلباً على الفضاء السّياسي العام ويُرى ذلك الآن في الفترة الانتقالية الحالية التي تديرها الاحزاب المنضوية تحت قوى الحرية والتغييرحين تستأثر فئة معينة بالقرار مدّعية أنها الخلاص. إن النضال من أجل دولة ديمقراطية يبدأ بالأساس بالعمل من أجل بناء أحزاب ديمقراطية تقبل الآراء المختلفة وتتعايش معها ، فلا يمكن بناء ديمقراطية بقوى وتنظيمات غير ديمقراطية.
يأخذ الاقصاء أوجه عديدة؛ فهو يبدأ من مصادرة حق قول الرأي المختلف بإعتباره فاسداً ومهدداً لسياسة ما؛ وعبر سلاح الوصم بالجهل وعدم المعرفة التي يوسم بها الشخص المعين؛ يعمم هذا الاقصاء على كل العضوية او الجمهور ويُتّخذ كوسيلة للتهديد العام ، هذا التّهديد يستبطن الحرمان من الحصول على بعض الامتيازات المعينة كالحصول على فرص للترقي والتطور السياسي أو التدرج في هياكل الحزب المعيّن على المدى البعيد؛ اما في الهنا والآن فإن الاقصاء المتعلق بقول أراء مخالفة ينّفذ حالاً في شكل ابعاد من الانشطة الحزبية المختلفة وتغييب إرادة الجماهير وتزييفها.
ومن بين المؤشرات القوية والدالة على هذه الوضعية غير الطبيعية للممارسة الحزبية والسياسية بالبلاد؛ يُرى تمحور التحالفات الحزبية حول شخص معين وليس حول برنامج محدد، وتهميش الأصوات المعارضة لتوجه المؤسسات التي تتخذ القرار، وعدم احترام الحق في الاختلاف، وتقييد حرية التعبير، وأحيانا قد يصل الأمر إلى حد تجميد عضوية المعارضين لتوجهات القيادة الحزبية، وطرد من يتّهمون بعدم الانضباط لتعليمات وتوجيهات القيادة تحت ذرائع متعددة يتصدرها التخوين (بالطبع)، ولكنها في حقيقتها تعكس الفكر الإقصائي وعدم القدرة على التعايش الفكري والسياسي داخل نفس التنظيم.
على سبيل الاستعارة ؛فإن استبعاد الدولة للمواطنين يعني إقصائهم عن حقوقهم في قطاعات مختلفة، وأخطر ما في الأمر أن منطق الاستبعاد يعني اختزال القيمة الوجودية للمواطنين كفاعلين وذوات بشرية لها حقوق وإمتيازات بما في ذلك الهيبة والكرامة، ولذلك يبدو المقصيون عن المشهد كما لو أنهم يؤدون واجبات دون أن يكون لهم حقوق، وهذا كله يعني أن الاستبعاد يقود ضمناً إلى الحرمان.
هذا الحرمان المتولد عن الاقصاء يُنتج مشاعر الاستياء، والحقد، والكراهية، والعداء داخل الأفراد أو التيارات المخالفة لتوجهات أحزابها وتعد هذه الميول بمثابة القاعدة الحافزية للثورة، وبشكل خاص بعد أن تتكثف، ويلعب الزمن دوراً بالغ الأهمية في تفاعله مع العلاقة الاستبعادية والاقصائية وتكثيف هذه الميول؛و طالما أن عملية الاستبعاد نابعة من رغبة وإرادة أصحاب المواقع العليا في الدولة أو الحزب المعين، فإن العلاقة الاستبعادية بالضرورة فاسدة ولا أخلاقية. ومن هنا، ليس من المستغرب أن تقترن عملية الاستبعاد باستخدام القهر والاستبداد وهذا بدوره يؤدي إلى تكثيف إضافي واحتقان أشد لمشاعر الحرمان وكلما تقادم الزمن ؛ يقود استمرار عملية الاستبعاد والاقصاء إلى تفاعل الحرمان والقهر، مما ينتج مادة نفسية اجتماعية تختزن طاقة هائلة للثوران. ولذلك تنفجر الثورات الاجتماعية دون تخطيط ولا تنظيم، إنما بتلقائية، وعفوية، وانفعالية، واستثارة أساسها، تفاعلات تاريخية وحدث مثير ،وهو ماحدث بالتفاصيل في بلادنا في ظل الثورة التي نعيشها الان وبالطبع ينطبق التفصيل على احزابنا السياسية؛ فأحزاب كثيرة انشقت على نفسها والتاريخ مبذول .
إن نقد أحزاب اليسار وأحزاب الحركة الوطنية هو أمر يعني (المثقف) إلى حد كبير كما يقول المفكر( بلقزيز)؛ وأن الحاجة تدعو إلى التفكير في أوضاع أحزابنا الداخلية وفي أدائها السياسي، وما تعانيه من معضلات مزمنة لاسيما في بنياتها وعلاقاتها التنظيمية الداخلية، ومن غياب الديمقراطية الداخلية وتسلط الأوليغارشيا ، وما ينتج عن ذلك كله من الحيلولة دون تدفق الأفكار والسماح بالارتقاء التنظيمي للأجيال الجديدة داخلها، فضلا عن الحاجة التي تلزم بضرورة مواجهة حالة التكلّس الفكري والسياسي الذي تعانيه هذه الأحزاب، وعجزها عن التّكيف مع متغيرات العصر، وفشلها في إجتراح الأجوبة الضرورية للمعضلات المعاصرة.
أختم هذا المقال بما قاله بيار ابي صعب ” أن تكون مثقفاً معناه أن تتخلى عن امتيازاتك وطمأنينتك كي تشهد للحق ؛ المثقف هو الضمير الحي حين يستقيل الاخرون ولايعود للقيم من يدافع عنها…..”.

يتبع….
……………………..
هوامش:
1. الاستبعاد الاجتماعي والثورات الشعبية: محاولة للفهم في ضوء نموذج معدل لنظرية الحرمان النسبي؛ محمد عبد الكريم الحوراني؛ المجلة الاردنية للعلوم الاجتماعية 2012.

2. نقد السياسة في امراض الممارسة السياسية – عبدالاله بلقزيز المركز الثقافي للكتاب – الطبعة الاولى 2019.

3. راجع مقالة الفيلسوف فرانسيس فوكاياما حول نهاية التاريخ المنشورة في مجلة ناشنونال انترست 1989.

4. أقرأ ؛ إضطرب سياسي: كيف شكلت وسائل التواصل الاجتماعي الحراك الجماعي – هيلين مارجيتس الاستاذة بهارفارد على موقع open democracy مراجعة الاستاذ ستيوارت وير.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.