آخر الأخبار
The news is by your side.

وَنَسَة ساي (الخواف ربى عيالو).. بقلم: أمجد هاشم

وَنَسَة ساي (الخواف ربى عيالو).. بقلم: أمجد هاشم

دائماً ما كان يدور في رأسي سؤال عن أسباب قلة عدد السكان في السودان (40 مليون فقط) بالمقارنة مع الجار الشمالي مصر (100 مليون) و الجار الشرقي إثيوبيا (120 مليون)، و كنت أتساءل هل كانت هذه الفروقات موجودة دائماً على مر التاريخ؟

في الحقيقة لم أجد أرقام يمكن الإعتماد عليها سوى رواية الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في مقالة نشرها إبان زيارته الأولى للسودان في 1951 و ذكر فيها أن سكان السودان الشمالي في حينها كانوا لا يتجاوزون الأربعة ملايين نسمة بحسب وثائق رسمية إضطلع عليها خلال زيارته و هو عدد بسيط جداً في ذلك الوقت بالنسبة لدولة بحجم السودان هي الأكبر من ناحية المساحة و الأوفر من ناحية الموارد بالمقارنة مع جيرانها كما أن متوسط عدد الأفراد في الأسرة السودانية لا يختلف عن المتوسط في مصر و إثيوبيا بل أن معدل النمو السكاني في السودان (2.08) يتفوق على المعدل المصري (1.84) و المعدل العالمي (1.17) و هو ما يجعل فرضية إنخفاض معدلات الخصوبة مستبعداً.

و لكن مؤخراً زال إستغرابي بعد قراءتي لتفاصيل معركة كرري التي دارت رحاها في صبيحة أحد الأيام في نهاية 1898 و أوردها ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في كتابه (حرب النهر) الذي دوَّن فيه ذكرياته عن المعركة عندما رافق حملة الجنرال كتشنر كمراسل حربي قبل أن يعود لبريطانيا و يتدرج بعدها إلى رئاسة حزب المحافظين، سجل تشرشل في مذكراته إستبسال الأنصار المسلحين بالرماح و السيوف في مواجهة المدافع الرشاشة و الأسلحة النارية الحديثة!!!!

فمات الدراويش (سُمبُلَة) ساي كده بالآلاف في مشهد سريالي هو أقرب إلى مشاهد إنتحار الكاميكازي في الحرب العالمية الثانية.

من عاشوا في تلك الفترة يتذكرون أن الرجال في السودان تحولوا بعد كرري و ما سبقها و تلاها من مواجهات عسكرية غير متكافئة إلى عملة نادرة و غير متوفرة بسبب العدد المهول لضحايا الموت المجاني و من هنا جاءت العبارة المأثورة و المتداولة حتى الآن (الرجال ماتوا في كرري)، ربما كان سبب الكثافة السكانية العالية للأحباش و المصريين هو إتباعهم بعكسنا نحن السودانيين لدرب السلامة في مواجهة الغزاة و المستعمرين بل و مرافقتهم و العناية بهم و إرشادهم إلى الطريق أحياناً في غزواتهم التوسعية (الحالة المصرية) أو التعاون معهم في الحالة الإثيوبية و هو ما يعزز و يدعم مقولة (الخواف ربى عيالو).

جَدّي عبد الماجد ود حاج أحمد القنديلابي (الأنصاري الملتزم بتعاليم الطائفة حتى وفاته) كان أحد الناجين من هذه المَقتَلَة بعد أن تلقى طلقة إنجليزية إخترقت فكه الأيمن و من حسن حظه و حظنا نحن أحفاده المنتظرين في علم الغيب وجدت الرصاصة طريقها للخروج عبر فمه، بحسب الرواية التي سمعتها عَثَرَ عليه النسوة فاقداً للوعي بالقرب من مجرى النيل بعد يومين من إنتهاء المعركة، لقد شَكَّلت نجاة عبدالماجد القنديلابي من الموت و هو في مقتبل شبابه نقطة فارقة في حياته فقد تلبسته روح تواقة إلى الحياة و تملكته الرغبة في التنقل و الإستمتاع بما تبقى من عمره و هو ما إستدعاه إلى تغيير مهنة العِطارة التي توارثها عن أجداده و ظل يمتهنها ما قبل معركة كرري التي إتجه بعدها إلى ما يسمى في عصرنا الحالي بالـ (Career shifting).

فإشترى قارب كبير لنقل البضائع و قضى معظم حياته و حتى وقت قريب من وفاته متنقلاً بين المدن السودانية و كان أينما حلَّ إتخذ له زوجة و نقلها معه في قاربه إلى مُستَقَرِّه في حوش عبد الماجد بحي ود نوباوي العريق في أم درمان حتى بلغ العدد الكلي لزيجاته على مدار عمره المديد إثنا عشر زيجة شملت مختلف مناطق السودان من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب و لم يكتفي بالقُطر السوداني فتزوج أرملة تركية كانت قد فقدت زوجها في أحداث بربر الشهيرة عندما وقعت المدينة في قبضة الأنصار و حينها شاعت عبارة (الحُمرَة الأباها المهدي) بسبب ما نال الأتراك المقيمين في بربر من تقتيل في تلك الأحداث.

أنجب عبدالماجد عدد قياسي غير مسبوق من الأبناء و البنات قيل أنه كان يصعب عليه التمييز بينهم بسبب تقارب أعمارهم، يبدو و الله أعلم أنه كان يباشر عن وعي تنفيذ مشروعه الخاص لإعادة التوازن الديمغرافي بين السودان و جواره الإقليمي و الذي كان قد إختلَّ بسبب حروبات الخليفة عبدالله التعايشي العبثية التي لم تستثني القريب و لا البعيد، فحتى الملكة فكتوريا بجلالة قدرها نالها من ود تورشين ما نالها!!!!…. يتبع

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.