آخر الأخبار
The news is by your side.

عبد الله وبيت الساحر . . . الشيوعي

عبد الله وبيت الساحر . . . الشيوعي

بقلم: عبد الله علي إبراهيم

شاعت دراسات ما يعلق بالنفس بصورة دائمة من تجارب قاسية مثل خوض حرب أو انفصال الوالدين أو اضطهاد الزوج للزوجة أو العكس. ويسمون هذه العالقات بـ trauma ووجدت من ترجمها ب “الجرح النفسي” وفضلت تعريبها كـ “الرضوض النفسية” مشغولاً بمعني أن هذه العالقات إنما تنجم عن صدمة تترك رضوضاَ في دخيلة المرء.

لاحظت منذ حين طويل أنه يتكرر علي حلم مزعج يراوح عند أيامي التي كنت مختفياً فيها ضمن كادر الحزب الشيوعي سنوات 1973 إلى 1978. ومحور الحلم هو انكشاف موضع اختبائي للأمن وحرجي من المتاعب التي سيجرها هذا الافتضاح على الأسرة التي تفضلت بدسي عن أعينه.

وكانت هذه الخشية على ما سيجره الكشف عن مخبئي على أهل الدار هي أكثر همي في سنواتي تحت الأرض. والسبب في ذلك أنني تقريباً عشت متخفياً “على النفقة الخاصة” بفضل شجاعة ورحمة أصدقاء ومعارف ومن لف لفهم. ولم أحظ بتأمين مؤسسي (أي من إمكانات الحزب وتدبيره إلا نادراً).

وكانت نظرية الحزب من وراء عدم تشوطهم بي أنني كاتب معروف كثير الأصدقاء ممن سيعتنون بي. وترتب على هذا الاختفاء من منازلهم أن أصبحت شديد الدين لمن وفروا لي قواعد الاختفاء وشديد الحرص ألا أفرط في نفسي فأقع في يد الأمن فيتأذى المضيفون من ذلك.

ولم يكن خوفي من أن يسقط مضيفي في يد الأمن بسبب تفريطي نظرياً. فقد طوقت الشرطة الثورة، الحارة 11، حيث كنت أختفي مع أسرة فاضلة، بعد هجمة المعارضة المسلحة على نظام نميري في 1976 المعروفة بحادثة “المرتزقة”. وفتشوا الحارة منزلاً منزلاً. ودخلوا دار مضيفي بالطبع وكنت فيها كما أنا “صلعة ونظارات” بغير لبس.

وأذكر أنني حاولت صرف نظر الأمن أو الشرطة المداهمة عني بـ “الذوبان” في المشهد الأسري من حولي. فقد وجدوني “ألولي” طفلاً حديث الولادة انتزعته على عجل من أبيه وحنوت عليه “حنتوشي يا كنتوشي، وحلاتو يا ناس الله”. ومرت الحادثة المحرجة بسلام سوى من فكاهة ترتبت عليها وفكرة خطرت لي لتحسين صورة اختفائي.

أما الفكاهة فقد جاءت بها أم الصديق الذي آواني. فقد أوقف الأمن في تلك الأيام التاكسي الذي كان يقلها عند كبري أم درمان بحثاً عن سلاح أو “مرتزقة”. وفتشوه عن بكرة أبيه. واضطرب السائق حد الاضطراب لما عثروا على صرة بنقو في ضهرية العربة. ولما رأى شرطة الأمن هلع الرجل قالوا له: “نحن الليلة ما دايرين دا”. وتنفس التكاسي الصعداء.

ولما بلغت الحاجة البيت حكت النادرة لنا. وشعرت بأنها إنما كانت تغمز من قناتي ملمحة إلى تفتيش المنزل وعدم القبض عليّ لأن الأمن في يومه لم يكن يبحث عن البنقو (الشيوعيين) وإنما عن المرتزقة. ضحكت في سري كثيراً لهذه المرأة التي تتنقل بين المجازات ببراعة.

وساقتني هذه التجربة، التي فقدت بها ذلك المنزل كمخبأ إلى الأبد، إلى التفكير في تحسين صورة وجودي في دنيا الاختباء. فلو كنت متنكراً يومها في صورة غير التي كنت عليها لما عانت الأسرة من حرج وجودي بينها وخطره، ولحمدت لي عنايتي بتجنيبهم الأذى بغير حاجة.

وخرجت من التفكير في تغيير صورتي من لبس الجلابية و”التوب وسروال ومركوب” إلى خطتين. أما الأولي فقد أرسلت إلى صديقة بأمريكا فجاءتني بشعر مستعار. ثم زدت على ذلك بتفصيل مناطلين شارلستون الرائجة في السبعينات. وأصبحت غير أنا حتى أن صبية مليحة من بنات الديم رأتني ادخل سيارة صديق معاون فشاغلتني” “يا خنفس يا!” (أم تصورت ذلك يا ربي؟). وقد دخلت بهذه الهيئة المتنكرة على الرفيق نقد فلم يستطرفها أو يستظرفها. وتلك قصة أخرى.

وكان أكثر هدفي من هذا التنكر أن لا يجدني الأمن، متى دهم دار مضيف، عليّ بصورتي التي لا تغباهم: أبو عيون أربعة وبصلعة. ورتبت، إذا طال التفرغ بي، أن اكتسب شخصية أخرى غير تلك التي تخرج إلا متجلببة ليلاً كالخفافيش. بل صممت متى نجحت في مثل هذا التخفي أن أحيا حياة عادية مثل أن أدير دار نشر أو مكتبة أو غيرها مما يليني من مسئوليات حزبية بغير تكدير.

وكنت استلهم، طوال تفكيري في هذا التنكر طويل المدى وتنفيذه، بطل رواية “الخبز والنبيذ” للكاتب الإيطالي إقنازيو سليوني، التي تنكر فيها الكادر الشيوعي المختفي على عهد الفاشية ببلده في زي قسيس. ولا أزال اتحين الفرص لقراءة هذه الرواية الغراء.

أما الإجراء الآخر فهو إنني سعيت بشدة لاكتساب بطاقة شخصية باسم آخر للشخص الذي اتفق لي من التنكر: شعر خنفسي وبدون نظارات. وقد وسطت، لو أذكر، الشاعر الفحل محجوب شريف لنفوذه الواسع، لاستخراج بطاقة لي باسم ما من الاتحاد الاشتراكي. وكان من رأيي أنه ربما نفعت في طارئ تفتيش بصرف النظر عني حتى إلى حين.

فذهبت إلى استوديو وأخذت صورة لي واستخرجوا لي البطاقة عضواً بالاتحاد الاشتراكي العظيم ذلك التنظيم الفرد الذي نذرت نفسي لحربه. وربما لاحظ القارئ قوة تأثير رواية سليوني عليّ. فقد لبس بطله مسوح الرهبان المفترض أنهم نقيضه الثقافي. وأهم من ذلك أن القارئ رأى الآن كيف كانت شروط اختبائي غير المؤسسية، التي تكفل بها أصدقاء وأصدقاء اصدقاء، فرضت على أن لا انقطع عن التفكير في تجنيبهم أذى الأمن ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

وبدا لي أن هذا الحلم المداوم هو رضوض من ذلك الاختفاء الأعوج المعطون في الشفقة على من أحسنوا إلى شخصي بالمأوى حين عز حتى على حزبي حباً وكرامة. وقررت منذ سنة أو نحوها أن أدون ذلك الحلم وتنويعاته بعد كل ليلة يطوف بي ما وسعني. وهذه الحصيلة حتى تاريخه.

ونتابع.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.