سورة يوسف تأملات ونتائج
سورة يوسف تأملات ونتائج
بقلم: بدر الدين العتَّاق
بينما أنا أُقَلِّب في صفحات من القرآن الكريم عن سورة يوسف؛ وجدت أنَّها لا ترتكز على مجموعة من التوجيهات والتشريعات والأحكام كما جرت العادة لكثير من الأنبياء وما إلى ذلك؛ لكني وجدتها ترتكز على أمرين مهمين للغاية متعلقين بذات شخص يوسف النبي هما : ممارسة ومعايشة الصبر والأناة في كل حياته حركة وسكوناً منذ ميلاده ؛ أو قل للتدقيق : منذ رؤيته التي رءاها وقصَّها على أبيه يعقوب وحتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ( حوالي سبع وخمسين عاماً لا أكثر ) ؛ والأمر الثاني هو الدقة الدقيقة والحكمة المحكمة والضبط النافذ في حسن التصرف لكل سيرة ومسيرة حياته .
إذاً؛ يوسف النبي؛ يُمَثِّل مرتكزاً حياتياً جوهرياً في ذاته قدوة واقتداء لمن جاء بعده من البشر متى ما أمعن النظر وأطال التفكير وتأمل سيرته ومسيرته وأسقطها على عصره؛ ذلك لأنَّ عنصري الصبر والأناة ودقة التصرف التي لا تخطئ مرماها هما ديدن المشروع الناجح لإدارة الأسرة والمجتمع وإدارة الدولة من بعد.
تأمُّلات ونتائج
دعني أُلَخصها في الآتي من القرآن الكريم فقط كما وردت بالسورة :
١ / ليس ليوسف قوم معينون يدعوهم إلى عبادة الله والتوحيد؛ وإن كان بعامة هذه بالبداهة معروفة لكن ليس له قوم ينسبون إليه .
٢ / تجسيد مقام الرؤيا عين الحقيقة في شخصه ؛ وهو تمهيد الطريق لطريقة الوحي الإلهي على الناس وبالتحديد الأنبياء منهم؛ راجع آخر سورة الشورى.
٣ / ليثبت ذلكم الفهم في الأذهان من البند السابق؛ نراجع ما ورد في سورة الأنفال من رؤيا النبي محمد لأحداث وحيثيات معركة بدر ؛ إذ تجسَّدت الرؤيا النبوية عين الحقيقة والتقى الجمعان إلى آخر الخبر.
٤ / قضية الرِق والرقيق؛ والثمن الزهيد الذي اشتراه عزيز مصر به من مالكه مالك بن زَعْر ؛ ذات القضية مطروحة على مر التاريخ للمعالجة وبالتحديد في قارة أفريقيا واتخذت في عصرنا الحالي مسمىً آخراً وهو الكفالة في دول الخليج وفي دول أميركا باللوتري تحت اسم حقوق المواطنة وفي دول أوروبا تحت اسم الهجرة غير الشرعية وفي قارة آسيا تحت اسم العمالة الوافدة أو العمالة المنزلية؛ وفي دولة كوريا الشمالية مثلاً اسم القهر والكبت والدكتاتورية للشعب؛ والشعوب الواقعة تحت الحكم الدكتاتوري من كل العالم تحت اسم الحكم الشمولي والعصا لمن عصا والطاعة قهراً واذلالاً واستكانة لقوة الحاكم الباطش الفاتك وهكذا .
تُمَثِّل هذه القضية محوراً أساسياً في الأفكار التحررية لكل دول العالم ومن ثَمَّ الثورات التحررية من بطش الحُكَّام والتنكيل بالمعارضين السياسيين ولنا مثلاً حياً في دولة السودان وكثرة الحركات المسلحة التي تقاوم الأنظمة والقوانين المقيدة للحريات باسم الهامش والتنمية المستدامة واستغلال النفوذ للموارد البشرية والطبيعية لمنطقة ما على حساب مناطق مختلفة وليست ثورة التحرير لجنوب أفريقيا ببعيدة عن الأذهان.
تطرح هذه الفقرة من السورة أهمية كبيرة في كيفية التعايش السلمي والتقسيم العادل للثروة والسلطة في ظل القانون والدستور الذي يحمي الأقليات من هيمنة الاكثريات سواء بالسلاح أو بالقوانين أو بالأفكار ويجعل الجميع سواسية تحت مظلة العدالة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وهلم جرا .
٥ / وجود يوسف النبي في قصر عزيز مصر بوتيفار ، يمكنني أن أسقطه على قضية أيضاً مستمرة منذ زمان بعيد وإلى يومنا هذا وهي قضية اللجوء الإنساني بينما يمثل لي قصر عزيز مصر الدولة الغنية المانحة لحق اللجوء الإنساني الدولي الآن؛ ويحقق هذا المفهوم اتفاقية جنيف واتفاقية الأمم المتحدة لسنة ١٩٥١ وتعني التمتع بحق الحماية الدولية الخاصة بوضع اللاجئين طبقاً للمادتين ٣١؛ ٣٣ من اتفاقية ١٩٥١.
من ناحية أخرى؛ بعد تحويل البشر من حالة الرق تم تحويلهم لمواطنين شرفاء يتمتعون بالحماية والحصانة الدولية من الدولة المانحة المضيفة بذات الدستور الحاكم للدولة المعنية؛ بمعنى؛ الاستعداد والقابلية لتحول الأفكار وتوجيه الطاقات المتجددة للفرد أو للمجموعات الوافدة على المقيمة حسب ما تقتضيه الحالة ويوفره النظام المجتمعي والمناخ السياسي لبلورة الأفكار والطموحات والطاقات وما إلى ذلك ؛ ويصطلح عليها بالاندماج ثم المشاركة المجتمعية الفاعلة في الوسط المجتمعي الجديد له ما لهم وعليه ما عليهم من حقوق وواجبات والتزامات.
٦ / المناخ العام من الحُرِّيات العامَّة وحقوق الإنسان الذي توفره الجهات المعنية للاجئين أحدث طفرة نوعية في إعادة التقييم على مستوى حديث يتفق ويتوافق مع المرحلة العمرية القائمة مما يعني الإبداع والابتكار النوعي والخلق التجديدي إسهاماً في الحياة العامَّة؛ ولمَّا كان يوسف الصديق بحكم الوقت آنذاك وبحكم أهليته للنبوة بالتوارث في ظل الحالة العامَّة في مصر الوطن الجديد؛ فهو قد خلق وأبدع وابتكر فيما يعرف بالنبوغ وشد الإنتباه لمن حوله بحكم التزامه الأخلاقي والفكري في بيت العزيز وقضاءه حكماً عدلاً بين الفينة والأخرى في قضايا تخص المؤسسة العسكرية ونظام الدولة وعامَّة الناس مما لفت انتباه الملك ورئيس الشرطة المقرب من الملك؛ وبطبيعة الحال هو الاستفادة من القدرات العقلية للوافد الجديد في بلاط الدولة البديلة مما يعني قبوله اجتماعياً من عامة الشعب وسياسياً في بلاط الحكم ورئاسة الدولة وهذا بالتحديد ما أشارت إليه الآية الكريمة ” وكذلك مكنا ليوسف في الأرض – فهو الناطق الرسمي باسم المهمشين والكادحين في الأرض وهو الجهاز التنفيذي لمؤسسات الدولة – ولنعلمه من تأويل الأحاديث ” فهو يمثل مرحلة استباقية لتحويل النظام الملكي إلى نظام جمهوري على أحسن تقدير .
٧ / قضية استغلال الحُرِّيات العامَّة والأماكن الخاصة والوضعية الاستثنائية الأخص لأجهزة الدولة أخلاقياً وسلوكياً؛ مما أشارت إليه السورة؛ واسقاطاً لذلك المفهوم السالب فإنه بشير إلى إلتزام القواعد القانونية اللازمة للبلد أو للجهة المنتفع منها أخلاقياً وسلوكياً فلا يحق له بموجب القانون والعرف المجتمعي والإلتزام الأخلاقي بالتعدي على ما يخصه ولا يعنيه وفي ذلك إشارة لطيفة لمفهوم الحُرِّيات والحقوق الدستورية بأن يسلك السالك فيها الجانب المشرق منها برد الفضل للفاضل في الوضعية التي منحته هذا المكان الأمين.
٨ / الرأي العام للشعب والشارع الملكي في تثبيت القيمة الأخلاقية الواجبة والملزمة من الوافد للمقيم وانعكاسها على حركة الحياة عندهم وبينهم في التقليد والمحاكاة أو النفي والاقلاع عن أفكار مشابهة ، يعني استمرارية الحفاظ على النظام الأساس للحكم فإنَّ أي تغيير سالب لا يقبله الشارع العام فهو مرفوض بطبيعة الحال للمجتمع المدني الضيق إذا تجاوزت العرف فما بالك برئاسة الدولة .
بطريق ثاني؛ يعكس مدى التزام الحكومة بالقانون والدستور المنظم للعلائق المجتمعية من عدمه وهو عين ما نراه اليوم في اللاجئين بعامَّة بدول المهجر.
٩ / قضية فساد الطبقة السياسية الحاكمة في التلفيق بالتهم جزافاً على المعارضين السياسيين أو المعترضين لقرارات الدولة أيَّاً كانوا؛ هي ظاهرة مجتمعية موجودة في جميع أنحاء العالم بالذات لدى الطبقة السياسية؛ ذات الأمر ما حدث ليوسف النبي وهو ما يحدث عادة لأي شخص معارض سياسي أو مقاوم لنظام وقرارات الدولة في كل العالم من التعريض والتهكم وإلصاق التهم حتى يحيله ويحيل أمره إلى عظة لمن حوله ويحاول تكرار ذات الفعلة فهو يطبق القانون خطأ؛ رغم وضوح الحق والحقيقة في ذات القضية؛ ويجب ملاحظة هذا الأمر لأجهزة الدولة ومؤسساتها وبالذات الأجهزة الأمنية والشرطية بالمعالجة وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
١٠ / هناك قضية متعلقة بالبند السابق وهي قضية قلة الحيلة والنفوذ لمواجهة البطش والتنكيل من قبل الحاكمين؛ ومنع أي محاولة للتقاضي العادل؛ وهذه القضية موجودة بين ظهرانينا منذ أمد بعيد وحتى اللحظة ولا أخالها تنفك.
إنَّ استغلال النفوذ لتطبيق القانون على الضعفاء فقط دون العظماء لهو قمين بخلق ثورة شعبية عارمة تقتلع أي نظام ظالم لشعبه وإنَّ قوي الظلام مهما طال ليلها لا بد من فجر للخلاص جديد.
الإعداد للمقاومة والإصلاح
السجن مدرسة من مدارس الحياة؛ من دخله ضعيفاً خرج منه قوياً ذلك للتجارب المختلفة المشارب والمتباينة الأفكار والمتقلبة الأذواق والطبائع من الناس؛ ويمكن قراءة سجن يوسف النبي إسقاطاً على واقع اليوم المعاصر على النحو التالي :
١ / الظرف القاسي المعاش قبل دخول السجن بتطبيق القانون خطأ وإلصاق التهم جزافاً تحديداً للبريء أهون منه داخل السجن؛ ووصفها حالة نفسية سيئة كانت مصاحبة للسجين فكان الحكم عليه بدخول السجن رغم قساوته ووحشيته أهون عليه بمثابة التخلص من عامل نفسي سيئ معلق غير محسوم ” ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ” لاستقرار العامل النفسي ذاته على جادة الأمر سلباً في ظاهر الأمر؛ وهنا تقوية البنية الداخلية للنفس في ظروف صعبة للغاية وهي الإنتقال من حياة طبيعية إلى حياة ذات وضع مغاير جداً لا تألفه النفس السليمة .
الآيات هنا تعني إجراءات التحري والتقاضي لأعلى درجات التقاضي ووزن البينة وترجيحها ما أشبه ومن ثم الحكم النهائي للمتهم .
٢ / هذا الإعداد الجديد لتربية النفس على الشدائد كان بمثابة معرفة حقيقية ومباشرة ومعاشة لمن هم مثله في درجات الخصومة والضعف من عامَّة الشعب المغلوبين على أمرهم ؛ لذلك الإعداد لأي مقاومة أو ثورة شعبية تنتج إنَّما تنتج عن ممارسة ومعرفة عميقة لتغيير القانون والنظام الحاكم في أي مكان؛ وهذا ما حدث ليوسف مع المسجونين؛ وهو ما حدث مثلاً ، لاحقاً عندنا في السودان في ثورة ديسمبر ٢٠١٨ واقتلاع النظام الحاكم في أبريل ٢٠١٩؛ ذات الملامح والشبه؛ وقس عليها لبقية الدول ذات النمط المنموط .
٣ / داخل السجن مع السجناء؛ تعرف يوسف على الجميع وتعرف الجميع عليه بياناً بالعمل؛ وتمت تربيتهم بأخلاق النبوة وتعليمهم بثوابت القيم الإنسانية الرفيعة والمعتقدات السليمة فكانوا نواة لإحداث التغيير المرتقب؛ وآية ذلك؛ هي تجربتهم له في تأويل وتحقيق الرؤى التي يشاهدونها فحملهم على الثقة فيه وحملوه على الثقة بهم؛ وهم فيما بعد تقلدوا مفاصل الدولة بما تعلموه منه وقادوها والشعب على الحق والخير والفضيلة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وما أشبه؛ فنجحت الدولة بالصدق والأمانة والعزيمة والتخطيط الاستراتيجي السليم؛ وفي المقابل غيَّروا القانون الجائر إلى القانون العادل؛ وغيروا الحكم الظالم إلى الحكم الصالح وهكذا.
٤ / داخل السجن أيضاً؛ تم التعرف على المعتقد الجديد فكانت دعوة أصولية للتوحيد من آمون الذي يعني تعدد الآلهة إلى الإله الواحد آتون؛ ومن ثَمَّ حاربوا القيم الفاسدة في رجال الدين واستغلالهم عبر مؤسساتهم الدينية – كهنة المعابد وفقهاء السلطان – للشعب ولسياسة الملك والنظام الحاكم؛ وإذا أسقطت هذا المفهوم على العصر الحالي وإلى أن يشاء الله ستجده عند مجامع الفقه الإسلامي والكنيسة المسيحية والكنيست اليهودي وكأنَّهم أوصياء من الله على الناس تسلطاً وتجبراً وانقياداً؛ والأدهى من ذلك هو قيادة الحاكم فعلياً من وراء حجاب الدين بمنح صكوك الغفران والكفران؛ وهذه نقطة جوهرية مستمرة حتى الآن ولنا أن نراجع تجاربنا السياسية في المنطقة العربية وجميع العالم لتجد تحقيقها بلا شك .
٥ / أمر آخر؛ هو تنفيذ العدالة على المجرمين بموجب إثبات الآيات – التحري وإثبات التهم بعد التحقيقات في القضية المعنية – ففي ذلك الحين / بغض النظر عن مفهوما نحن اليوم / كانت هناك عدالة وقانون جنائي أو مدني على المجرمين والقتلة وما أشبه بحكم التعدي ومخالفة القانون؛ فكان التنفيذ؛ ويمكن إسقاطها اليوم على حاضرنا في المعارضة المسلحة أو السياسية من إبادة جماعية مقصودة وتصفية الخصوم جسدياً وما إلى ذلك؛ فكان تطبيق القانون على الجميع حقاً وعدلاً ( صاحبي السجن / يوسف )؛ وبغض النظر عن فهمنا لحيثيات مبادئ القانون والعدالة الاجتماعية والتقاضي سلباً أو إيجاباً؛ فإنَّ ما تم يدخل ضمن منظومة العدالة وتحقيقاً لها؛ كما وجب التنبيه لضرورة تطوير القانون وآلياته ووسائله برفع الوعي في العقول وليس الخيال.
حِنكة إدارة الدولة ودِقَّة التصرف
فيما سبق؛ أشرت إلى مرتكزين مهمين متعلقين بشخصية يوسف النبي؛ هما الصبر الجميل المؤدب بأدب الشريعة وأدب الحقيقة؛ والحكمة الحكيمة في حسن التصرف ونيل المراد وتحقيقه على أكمل وجه؛ وهذا ما حدث في تنسم يوسف للسلطة من طريق شيوع صدقه وتحقيق تأويل الرؤى بين السواد الأعظم من الناس؛ ويمكن تلخيص ذلك في الآتي :
١ / رؤيا الملك؛ هي رؤيا منامية لكنها تحمل في طياتها الكثير من المفاهيم لأسس قيام الدولة الحديثة وكانت بمثابة الضوء الأخضر لتولي يوسف مقاليد الحكم؛ وهي ذات الفهم السابق في الإعداد الجيد للقواعد الشعبية التي ستحكم الدولة فيما بعد / فترة السجن لأصحابه / ومن هذه المفاهيم الرمزية المحضة لرؤيا البقر والسنابل التي لم يستطع كهنة المعبد / رجال الدين عبر السنين / فك رموزها فأحاَلوها للقامة الروحية التي ترتبط ارتباطاً مباشراً مع مفهوم الوحدانية وزمام الكون والوجود في يد الله لا غير.
إذاً؛ هي ذات حدَّين؛ الحد الأول : قيام الدولة بأصولية سلامة المعتقد لا عبر رجال الدين بل عبر المقامات والقامات الروحية للنبي يوسف؛ ويمثلها اليوم الدستور الإنساني لحقوق الإنسان القائم على المعرفة بالله تعالى في العدالة والمساواة وما أشبه من طريق تجديد الفهم عن الله في القرآن – راجع كتابنا تحت الإعداد ” الفكرة الإنسانية العالمية ” لمزيد من التفاصيل – والإذن في الكلام.
الحد الثاني : إعادة النظر في تقييم وتقويم مؤسسات الدولة من كل المناحي الحياتية لبلوغ رفاهية الشعب واحترام وإعلاء قيمة الإنسان ومنع الفساد بكل وجوهه ورفع مستوى الاقتصاد الوطني والتعليم والصحة والبنى التحتية والخدمات اللوجستية وما إلى ذلك.
إذاً ! ليس استنباطاً من معرفة أحداث بقية السورة لكن باستنباط المفاهيم المواكبة لأسس قيام الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة وإسقاطها على الحالة اليوم ولإعلاء قيمة الحياة على قيمة الموت والقتل والقتال والصراع والنزاع بين جهة وأخرى أو بين فرد وآخر .
٢ / أهم ما تشير إليه في السياق العام للآيات من إدارة الدولة هو منظومة الاقتصاد الوطني – وزارة المالية أو بيت المال أو البنوك المركزية للدولة أو صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي وارتباطه بالاقتصاد العالمي – ومعافاة أي دولة يكمن في استقرارها الإقتصادي عصب الحياة؛ ومتى ما استقر استقر نظام الحكم؛ فهما متصلان ببعض ومن ثم الأمن القومي للدولة؛ هذه قضية من الأهمية بمكان.
٣ / القضية الثانية ههنا تبعاً للسياق الفائت ؛ هي قضية حسن إدارة الموارد البشرية والطبيعية والمياه ومنظومة العمل الاقتصادي الحر للقطاعين العام والخاص لتقوية الاقتصاد المحلي وتفعيل اتفاقات الدولة مع نظيراتها؛ مما يخلق منظومة متكاملة لإدارة الدولة بتحقيق العدالة والتنمية للثروة والسلطة .
لاحظ معي؛ في قضية الاقتصاد تحدد الآيات القرآنية أو الدولة لعصب هذا الإقتصاد وهو الإنتاج الزراعي الذي يدخل مباشرة في حياة الإنسان كدورة حياتية لا غنى ولا فكاك عنها وإلَّا نهاية محتومة للبشر.
الإرتباط المباشر بين الناس وبين الزراعة بكل مشتقاتها المعروفة والجديدة ثم الصناعة والاستثمار والحرف والمهن والتعدين والطاقة ومصادر الطاقة البديلة والموارد البشرية والطبيعية والمياه ومنظومة العمل الاقتصادي وهلم جرا؛ هي عملية حسن التدوير والتصريف للناتج المحلي والاقليمي والعالمي بحيث لا تخلق فجوة غذائية أو عطالة أو تضخم أو بطالة أو توقف لعجلة الإنتاج في أي موقع كان؛ وهذه بالتحديد التي رشَّح يوسف النبي نفسه لإدارتها؛ وقد أفلح أيَّما فلاحة في الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني؛ وهنا أشير لمركزية يوسف في الحكمة الحكيمة ودقَّة التصرف وروعة الأداء للنظام الحكومي والخاص لتقوية الاقتصاد المحلي وشوكة الدولة عبر قيمة الصبر على المكاره في سبيل تحقيق المستحيل وهي تربية وتوفيق من الله له موضع الاقتداء والاحتذاء من الناس مع حسن النية بلا شك.
٤ / تأويل السبع بقرات سمان كن مواسم هطول الأمطار الغزيرة على الأرض الجرز؛ وتأويل السبع سنبلات خضر كن منظومة متكاملة للزراعة والثروة الطبيعية فإذا اختل ميزان الزراعة اختل بطبيعة الحال ميزان الإقتصاد بسوء التصرف وعدم أخذ الأمور بجدية مما يعني خلق الفجوة الغذائية بلا شك وهذا ما لا يحمد عقباه .
٥ / عدم إخلال الموازين في الدورة الزراعية يخلق سِمْتَاً عالياً من هرمونية الإقتصاد القوي للدولة ويوفر ناتجاً محلياً ومخزوناً استراتيجياً للدولة يحفظ به الإستقرار السياسي والأمني بتلازم الحال؛ ولك أن تلاحظ سيرورة هذه الفكرة منذ قديم الزمان وإلى يومنا الحالي.
” ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ” وتعني إعادة الدورة الطبيعية للزراعة والثروة الاقتصادية ارتباطاً بأسباب السماء والأرض من حسن التصرف وذكاء المتصرف وهو هناك يوسف وهنا مؤسسات الدولة الحديثة.
شهادة البراءة
آنفاً؛ ذكرت تداعيات الأزمة التي حدثت في بيت عزيز مصر؛ من إلصاق التهم جزافاً وبموجبها تم سجن يوسف النبي؛ الآن وبعد تداعيات الأحداث إسقاطاً على واقع الحال اليوم فيعني هذا عملياً تغيير القوانين والتشريعات التي تركت سابقاً كقضية سياسية إجتماعية على مستوى سيادة الدولة تمس كبار رجالات البلد؛ وإصرار يوسف النبي للحصول على التبرئة لا فضلاً ولا شكوراً بل حقاً وعَنوةً واقتداراً ليمثل قاعدة ذهبية في المقام الأول وهي النزاهة والشفافية الواجبة على القيادات السياسية والأمنية والشرطية وما يتبع؛ التي اخترقها يوسف ويخترقها اليوم المجتمع المدني الحر الديمقراطي بموجب إرساء دعائم قانون الشفافية والنزاهة والمحاسبة والمعاقبة والمراقبة الإدارية على منافذ ومفاصل الدولة وسلطانها الأعلى إسقاطاً على كافة المستويات في الدولة الحديثة من الشعب.
بطبيعة الحال؛ تعني من جملة المعاني إبعاد مفهوم الخيانة العظمى والجريمة المنظمة من المستويين الرئاسي والشعبي حتى يسير الجميع على جادة الطريق والحق والخير والفضيلة.
هنا يحضرني مركزية يوسف الشخصية في الدقة الدقيقة والإحكام النافذ لمراده من طبيعة سلوكه ونيلها بالصبر والمصابرة ما تحيل الواقعة أو الأزمة إلى قانون دستوري وقاعدة ذهبية مما يعني بُعد النظر لباطن الأشياء والأحياء والتي نصطلح عليها اليوم بالتخطيط الإستراتيجي بعيد المدى وحل قضايا حسَّاسة جداً في السلوك المجتمعي على المدى البعيد.
كيفية إدارة الدولة الحديثة
أرسى يوسف النبي دعائم ومفهوم كيفية إدارة الدولة القديمة والقائمة الآن بجملة من القواعد القانونية اللازمة والنظم المؤسسية لبناء الدولة والمجتمع المدني ويمكن تلخيصها في الآتي :
١ / { إنك اليوم لدينا مكين أمين } وهي خاصية التمكين السياسي لأعلى مستويات الحكم في النظام القائم؛ وتعني من جملة ما تعني بناء الدستور الجديد المنظم لحركة الدولة في كل المستويات والمسميات أي برلمان منتخب من الشعب بعد ترشيح وتزكية من أعلى مستوى لأدنى مستوى بالمملكة آنذاك.
بمعنى ثالث؛ وضعيته السلطوية للحكم مكَّنته من معرفة كيفية إتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحياتية وكل المسميات المعروفة وتنفيذها على أرض الواقع في الزمان والمكان المناسبين؛ وهذه من الأهمية بمكان بلا شك.
٢ / { اجعلني على خزائن الأرض }؛ بالنسبة للبند أعلاه؛ رغم كل تلك الصلاحيات الدستورية العليا إلَّا أنها ناقصة؛ وهذا النقص لا في اتخاذ القرارات المناسبة بل في مواطن تنفيذها وإعمالها على حياة الناس؛ وهنا تجد يوسف النبي / مفاصل الدولة الحديثة / تمَكَّن في أمرين اثنين غاية الأهمية؛ هما : خزائن الأرض وطبقات الشعب؛ لذلك كان أول طلب مباشر لرئيس الدولة أو الملك آنذاك هو التمكين عملياً من مفاصل الدولة ومؤسساتها المختلفة حتى يطبق عليها الحق والخير والقانون والعدالة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وهلم جرا؛ فهذا من الذكاء الفطري والتحقيق للطموح لا الشخصي بل لترسيخ مفاهيم كيفية إدارة الدولة مع كل ملفاتها داخلياً وخارجياً؛ ويمكن ملاحظة ذلك بالمرتكز الذاتي للنبي يوسف في الحلم والأناة اللذين يمتاز بهما من غيره من الناس.
٣ / خزائن الأرض؛ ببداهة بسيطة للغاية تعني : الموارد الطبيعية في باطن الأرض من معادن وزراعة ورعي وثروة حيوانية وما إلى ذلك؛ وظاهرها من حجم المياه وتوظيفها للزراعة والري في كل ما يلتمسه البشر آنذاك ومفهوم اليوم لاستغلال الموارد الطبيعية؛ وهذا بعد نظر وتخطيط استراتيجي عميق لأبعد ما يتصوره العقل الحادث آنذاك والعقل الحادث اليوم.
بمعنى؛ حسن توظيف واستغلال النفوذ والسلطة ومقاليد الحكم إيجابياً في تحسين بناء الدولة بما ينفع الشعب والشعوب المجاورة بما يسمَّى فائض الإنتاج للتصدير وتقوية شوكة الدولة داخلياً وخارجياً وبالتحديد المؤسسة العسكرية إذ قاتل الهكسوس في تخوم مصر الشمالية والشرقية دفاعاً عن الدولة .
٤ / طبقات الشعب؛ وهي أيضاً حسن استغلال نفوذ السلطة الحاكمة في بناء المجتمع المدني والإدارة الأهلية بما يُعرف بحسن توظيف الموارد البشرية وطاقاتها نحو البناء والتنمية المستدامة؛ وهذا ما فعله يوسف بالضبط؛ ويسقط الآن بذات الكيفية للمجتمع الدولي مع تقدير اختلاف الزمان والمكان بتثبيت قاعدة البناء والتنمية في القانون الدولي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في أي مكان كان.
٥ / { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأُ منها حيث يشاء؛ نصيب برحمتنا من نشاء؛ ولا نضيع أجر المحسنين }؛ هي التقلُّب في المناصب القيادية والدستورية والخدمية وغيرها ، التي تمتَّع وتمكَّن فيها يوسف النبي من الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني وما أشبه؛ هو عينه الذي تفعله أو يحب أن تفعله مؤسسات الدولة الحديثة؛ وسماها بـــــ ” الإحسان” وهي التقلب في المناصب القيادية والدستورية بما يخدم مصالح المواطنين والدولة أيضاً بلا تطفيف ولا تنكيل ، على الصراط المستقيم كما ترى.
نجح يوسف بما لا يدع مجالاً للشك في حسن إدارة الدولة وتوظيف وتسخير إمكانياتها وطاقاتها بأبسط الصور بكل الإمكانيات المتاحة مما جعلها قبلة للناس ومنبعاً للخير تتسابق عليها شعوب العالم ودول الجوار ومنها شعب أرض كنعان بالعراق مسقط رأسه وأهله بها.
دواعي اللجوء وحقوق المواطنة
إنَّ مجيء إخوة يوسف ولجؤهم إلى مصر كانت بسبب القحط الذي ضرب أرض كنعان وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ولم يجدوا بُدَّاً من اللجوء لإحدى دول الجوار أو قل : للدولة الغنية الأقرب آنذاك وكانت مصر.
لنسقِط الواقع المعاش آنذاك قبل أربعة آلاف سنة على واقعنا اليوم في القرن الحادي والعشرين ولنرى الناموس الكوني الإلهي والسنن الطبيعية لأهل الأرض كيف تسير على النحو التالي :
١ / الوضع آنذاك في أرض كنعان وبلاد الشام والعراق والشرق الأوسط هي أسباب طبيعية لا تتعلق بزمان أو مكان معينين لأنَّها سنة كونية نافذة وسارية؛ ولنا أن نراجع ما ورد في سورة الحشر / راجع كتابنا ” الزمن في الإسلام – تأويل جملة آي القرآن ” تحت الإعداد تأويل سورة الحشر لمزيد من الشرح / من التدفقات البشرية لأراضي الجوار لأسباب طبيعية وكوارث بيئية للتأكد من سيرورة طبيعة سير الأشياء على الأحياء للحفاظ على الحياة وأمن واستقرار المواطنين.
٢ / أحد الأسباب التي تؤدي إلى اللجوء والنزوح وبالتحديد هنا اللجوء الإنساني هي العوامل الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية وما إلى ذلك؛ وأبرزها اثنين : عدم وجود الأمن والأمان والاستقرار في المنطقة بسبب الحروب أيَّاً كان نوعها ؛ والسبب الثاني : الفقر والبطالة والعجز عن الإنتاج وتعطيل أسباب العمل والنمو الاقتصادي والاجتماعي في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها دولة ما؛ فالتحرك الطبيعي للحفاظ على الحياة هو البحث عن مصادر تسد رمق الجوع ورهق الحرب أو الوبائيات أو الكوارث الطبيعية وما أشبه؛ فكان من الطبيعي بعد وصول نبأ تطور بلاد مصر وسمعة عزيزها العظيمة أن تكون الوجهة إلى هناك.
٣ / إخوة يوسف ولجؤهم إلى مصر كمثال بمثابة لجوء فئة كبيرة من المواطنين السودانيين إلى مصر وإثيوبيا واريتريا وتشاد وجنوب السودان ويوغندا وبعض دول أفريقيا هرباً من الوضع الأمني المفكك والحرب الأهلية السودانية الآن في السودان ١٥ أبريل ٢٠٢٣ وإلى الآن؛ بذات الأسباب والمسببات والدواعي والدوافع وهي رحلات وتدفقات بشرية طبيعية كما حدث من قبل في دولة راوندا عند الإبادة الجماعية بين الهوتو والتوتسي التي أزهقت أرواح ما يقارب الاثنين مليون إنسان سنة ١٩٩٤ وما هو معلوم بالضرورة؛ وليس إخوة يوسف أول من فعل ذلك لكنهم أثبت في التاريخ البشري من فعل ذلك.
٤ / لاحظ عملية إحداث التغيير الديمغرافي للوطن البديل أو ما يعرف اليوم بـــــ ” التوطين ” لدولة ثانية أو ثالثة من مهجره الأول أو الدولة الأم؛ وتتم عملية التوطين بتدرج وسلاسة عبر القنوات الرسمية للدولة ومنظمات المجتمع المدني والدولي وحقوق الإنسان عبر اتفاقات دول أعضاء مجلس الأمم المتحدة وقانونها المنظم لمثل تلك الهجرات / منظمة الهجرة الدولية مثالاً / لكنها بطبيعة الحال تعني إعادة التركيبة الاجتماعية للدولة الجديدة أو ظهور بعض التعديلات الدستورية العليا في البلاد كما حدث مثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية لتسنم باراك أوباما مقاليد الحكم فيها قبل عُدَّة سنوات وما حدث في بريطانيا من تسنم رئيس وزراءها الهندي الجنسية للوزارة الفاعلة في السلطة وهكذا نماذج فالأمر عادي جداً لمن يتأمل المواقف ويعقد المقارنات.
٥ / آخر الأمر؛ تمَّ إعادة التوطين لإخوة يوسف من أرض كنعان ومعهم جماعة كبيرة من ذات المنطقة إلى بلاد مصر؛ بحجة أخذ يوسف لأخيه بنيامين وضمه إليه ليقبل يعقوب طبيعة الأمر القادم والبقاء في مصر؛ وهذا ما يحدث عادة في عصرنا الحالي بما يسمى بــــ ” لم الشمل ” بأميركا وأوروبا وغيرها مع بعض الفوارق تقديراً لا نوعاً إذ الاختلاف في النوع عند العرفان يمتنع ويقبل اختلاف التقدير فافهم يا هذا .
تحويل الرؤيا المنامية لواقع
عادت الدورة من جديد؛ وأرسى المولى عز وجل في النفس البشرية طلائع العلاقة بينه والناس من طريق المخاطبة لهم بأحد ثلاث طرق :
١ / من طريق الوحي؛ وهو الإلهام المباشر من الله للنفس البشرية لمراده .
٢ / من وراء حجاب؛ وهي الرموز والكنايات والصور وأبرزها حجاب اللغة ومن ثم حجاب الأشياء والأحياء؛ فهو يحدثنا بها في كل آنٍ وحين ومنا من يعقلها ويفهمها ومنا من يجهلها جهلاً شنيعاً.
٣ / أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء؛ وهو التكليف المباشر من الله للرسل والأنبياء ليبلغوا مراد الله عنه لهم من أجل الإصلاح المجتمعي الكوكبي .
خلاصة مستفادة من أحسن القصص
نستخلص من هذا بعموم السورة بعينه ما أراد الله تبيينه للناس بسورة يوسف أنَّها أحسن القصص؛ وبالذات قضية الوحي من طريق الرؤى المنامية أو اليقظة للنبي محمد تحديداً وتمهيداً لمجيئه آخر الزمان؛ لأنَّها قضية مفصلية في شكل العلاقة بين الله والناس تستمر أبد الدهر بلا ريب.
أخذ العظة والعبرة والتأمل من السورة في كونها أرست دعائم إدارة الدولة والمجتمع المدني بدأ من الأسرة الصغيرة إلى المجتمع الدولي بذات النمط المنموط مع أخذ الفارق في الزمان والمكان تقديراً بحكم التطور للناس من طريق الفكر والعمل وبحكم الوقت نفسه من إعمار النفس والأرض وما بينهما من تلاقي .