آخر الأخبار
The news is by your side.

رسالة إلى المنصورة … مرمي الله ما بترفع (1_2)

رسالة إلى المنصورة … مرمي الله ما بترفع (1_2)

بقلم: أمجد هاشم

يقول المَثَل المُتَداوَل من جَرَّب المٌجَرَّب حاقت به الندامة، و المٌجَرَّب فيما يلي سياسات السودان الخارجية هو التَدَثُّر بجُلباب القاهرة الضيق على بلد مثل السودان كان مقدراً له في أدنى التوقعات بعد إستقلاله أن يتحول إلى قوة إقليمية عظمى و لكن معظم سياسييه إلا من رحم ربي أبت أنفسهم إلا أن يتبعوا سياسة خارجية لا تليق بعظمة هذا البلد و لا تشبه إنسانه المعتز بكرامته و إستقلاليته و هو ما يؤكده إصرارهم على أن يحولوا المارد الإفريقي إلى مجرد حديقة خلفية للجار الشمالي و مصطلح الحديقة الخلفية بالإشارة إلى السودان هو مصطلح شائع لدى الساسة و الإعلاميين المصريين و لا يتهيبون من إستخدامه علناً في المحافل العامة.

دائما ما كانت سياسة الحكومات السودانية المتقوقعة خلف ما يسمى بالشقيق الأكبر خصماً على علاقات إستراتيجية أرحب مع دول عظمى كانت مُؤمنة بإمكانيات السودان و حريصة على إتخاذه كحليف إستراتيجي في المنطقة الأمر الذي كان يمكن توظيفه لمصلحة المواطن السوداني و نماءه و إزدهاره و لكن دونية و تبعية القيادات السياسية السودانية للقاهرة على مر الأزمان حالت دون ذلك و ليكن لكِ يا معالي الوزيرة في التاريخ و المسار الذي مرت به العلاقة بين السودان و الولايات المتحدة الأمريكية (صعوداً و هبوطاً) عظة و عبرة.

1/ ثيودور روزفلت… زيارة إستكشافية لا يعلم الكثيرون أن إهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالسودان بدأ مبكراً في أعقاب حملة كتشنر عندما كتب جون ج. لانك قنصل الولايات المتحدة في القاهرة إلي ديفد ج.هيل مساعد وزير الخارجية الأمريكي في اغسطس 1902، قائلاً (تسعى حكومة السودان بشدة الي تطوير الموارد الزراعية في البلاد على أسس أكثر ليبرالية لتشجيع رأس المال و الهجرة، هناك احتياج للأدوات والآليات الزراعية، عليكم القدوم باكراً لتأمين موقعٍ راسخ في أسواق البلاد).

بعدها أنشأ المستثمر الأمريكي لي هنت شركة السودان للزراعة التجريبية في 1904 و تلى ذلك زيارة ثيودور روزفلت (الرئيس الأمريكي السادس و العشرين) للسودان ضمن جولته الإستكشافية في الشرق الأوسط و كانت زيارة غير رسمية طاف فيها عدة مناطق في السودان و دعى الشركات الامريكية بعد عودته لواشنطن إلى الاسراع و الاستثمار في هذا البلد الواعد.

و لكن الظهور الأبرز لأمريكا في المشهد السوداني كان بعد الحرب العالمية الثانية و كانت الولايات المتحدة تتهيأ حينها لوراثة النفوذ البريطاني في المنطقة فدخلت في خط التفاوض بين بريطانيا و مصر على إتفاقية تقرير المصير و كانت داعمة لاستقلال السودان و متحمسة للتعاون مع هذا البلد القارة و عبرت واشنطن عن إهتمامها هذا بإرسال أول مبعوث رسمي أمريكي إلى السودان في 1954 قبل إعلان الإستقلال.

2/ عبدالله خليل و محاولات الخروج من جُلباب القاهرة بينما كان السودان الديمقراطي الليبرالي يتلمس طريقه نحو علاقات خارجية متوازنة في أعقاب الإستقلال كانت مصر التي يحكمها نظام قمعي شمولي في نفس الفترة قد إختطت لنفسها مساراً إشتراكياً جعلها أقرب إلى الاتحاد السوفيتي.

الأميرآلاي عبدالله خليل رئيس وزراء السودان في الديمقراطية الأولى (يوليو 1956- نوفمبر 1958) كان مدركاً بخلفيته الإستقلالية أن الإنعتاق من التبعية الخارجية لمصر و الإنفتاح على العالم لم يكن فقط ضرورياً لتحقيق نهضة السودان الإقتصادية التي يستحقها و لكنه كان مهماً أيضاً لحماية الديمقراطية الهشة في السودان و تأمينها من شرور دولة عبدالناصر البوليسية شمالاً، لذلك كان الأميرآلاي حريصاً على توطيد علاقة السودان مع الولايات المتحدة الأمريكية و هي العدو التقليدي الأول للإتحاد السوفيتي الحليف الإستراتيجي لمصر في ذلك الوقت.

بناءً على ذلك دخل عبدالله خليل في مفاوضات مع الجانب الأمريكي حول حزمة من المساعدات الإقتصادية و الفنية للسودان و لكن جمال عبدالناصر من ناحيته لم يقف مكتوف الأيدي أمام النزعة الإستقلالية لعبدالله خليل فقام بتحريض الأحزاب الموالية لمصر و الأحزاب اليسارية الأجهر صوتاً في ذلك الوقت على مناكفة الحكومة و المزايدة عليها و تحريك المظاهرات في الشارع لتعطيل مشروع المعونة الأمريكية التي كان بمقدورها وضع الإقتصاد السوداني على المسار الصحيح تنموياً، فالاقتصاد السوداني في نهاية الخمسينات كان يعاني بسبب الإنخفاض العالمي في أسعار القطن و الذي كان يعتمد عليه السودان حينها كمصدر أوحد للعملات الصعبة و قد راهن عبدالله خليل على المساعدات المالية و الفنية الامريكية في أن تُحدِث طفرة إنتاجية في قطاعات أخرى تُسهم في تنويع الصادرات السودانية و تقليل مخاطر الإعتماد الكلي على القطن.

كما أنه كان يخطط بحسب وثائق الخارجية الأمريكية للإستعانة بالولايات المتحدة في تحديث شبكة الإتصالات و المواصلات و ربط جميع المدن السودانية بشبكة من الطرق و السكك الحديدية، و لكن بينما الأميرآلاي يسعى لتحقيق هذه النقلة النوعية و الإختراق المهم في الإقتصاد السوداني بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية جاءته الطعنة من الخلف فقد نجحت الأحزاب الموالية لمصر و أحزاب اليسار الراديكالي في تهييج الشارع حديث العهد بالإستقلال ضد الحكومة تحت دعاوى أن مشروع المعونة الأمريكية ما هو إلا إستعمار جديد و أداة من أدوات الإمبريالية العالمية لتركيع الشعوب الأمر الذي ضيَّع على السودان فرصة أن يتحول إلى سنغافورة أفريقيا و هو يمتلك الموارد و الثروات الكفيلة بتحقيق ذلك في حال توفرت التقانة و التمويل الأمريكي.

للأسف فشل الأميرآلاي في تمرير مسودة الإتفاق السوداني-الأمريكي في البرلمان، مما أدى لتأزيم المشكلة الإقتصادية بسبب إنهيار الإحتياطي النقدي من العملات الأجنبية مما أصاب الكثيرين باليأس من العملية الديمقراطية نتيجةً لإنسداد أي أفق للحل السياسي، فقد تكتل المتمصرين مع اليساريين في جبهة واحدة إستفادت من التدفق الغزير للمال الإنتخابي المصري الفاسد فأصبح إسقاط الحكومة برلمانياً مسألة وقت ليس إلا خصوصاً بعد التقارب بين علي عبدالرحمن زعيم حزب الشعب الديمقراطي و إسماعيل الأزهري زعيم الحزب الإتحادي الوطني بوساطة و حضور جمال عبدالناصر شخصياً لتحقيق هدف واحد هو إسقاط عبدالله خليل و تشكيل حكومة جديدة معادية للولايات المتحدة و رافضة للمعونة الأمريكية.

الأمر الذي إضطر الأميرآلاي في النهاية إلى تسليم السلطة لقيادة الجيش مؤقتاً بحسب إتفاقه مع الجنرال عبود قائد الجيش على خلفية معلومات إستخباراتية تحدثت عن تخطيط إنقلابي يقوده مجموعة من الضباط الصغار الذين إستهوتهم تجربة الضباط الأحرار في مصر، عبود من ناحيته تنصل عن إتفاقه مع الأميرالاي و إستفرد بالسلطة و بذلك إنتهت الحياة السياسية لعبدالله خليل، واحد من أعظم الساسة السودانيين في العصر الحديث و أكثرهم براعة في (لعبة الأمم) و هي لعبة لا يجيدها للأسف غالب الساسة السودانيين إما بسبب إحساس يلازمهم بالدونية تجاه الدول الأخرى أو بسبب ولاءاتهم المزدوجة.

3/ مشروع الشراكة الإستراتيجية (عبود-كينيدي) الفريق عبود من ناحيته استرسل في سياسة عبدالله خليل القائمة على تعزيز التقارب و توطيد العلاقات مع امريكا، و الذاكرة السودانية لن تنسى الإستقبال الإسطوري غير المسبوق الذي لقيه عبود في زيارته الأولى للولايات المتحدة عندما أرسلت الإدارة الأمريكية طائرتها الرئاسية إلى الخرطوم لتقل الرئيس السوداني إلى واشنطن و حينها إستقبله جون كينيدي بنفسه في سلم الطائرة و صحبه في استعراض لحرس الشرف و في جولة بعربة مفتوحة وسط هتافات و ترحيب الشعب الأمريكي في جانبي الطريق من المطار و حتى البيت الأبيض على غير عادة الرؤساء الأمريكيين في إستقبال ضيوفهم من الرؤساء الآخرين.

كما نظَّم الرئيس الأمريكي للرئيس عبود زيارة إلى مدن نيويورك و لوس أنجلوس و سان فرانسيسكو و شيكاغو للإطلاع على تكنولوجيا التصنيع الزراعي و أحدث التقانات الأمريكية المستخدمة لزيادة الانتاجية الكمية و النوعية للمحاصيل كما تم إطلاعه على التقدم الأمريكي في إنشاءات البنية التحتية للطرق و الجسور و سجل عبود زيارة ميدانية إلى مصانع التركترات الزراعية، و خاطب كينيدي الوفد السوداني في حفل كبير أقيم لإستقبالهم قائلا (إن أمريكا تنظر إلى السودان كدولة حديثة الإستقلال و لكنها دولة ذات إرث حضاري و ربما تكون من الناحية الواقعية أقدم وعاء بشري عرفه العالم).

كما لبى كينيدي و طاقم حكومته الدعوة إلى الحفل الذي أقامته البعثة الديبلوماسية السودانية في مقر سفارتها بواشنطن على شرف عبود و أبدى الرئيس الأمريكي في هذا الإحتفال رغبته الأكيدة في إتخاذ السودان كصديق حميم و حليف إستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة.

و لكن للمرة الثانية أفشل الجار الشمالي هذه الشراكة بين السودان و أمريكا، فالتوجه المصري الرسمي كان دائماً ما ينحو إلى تحجيم علاقات الخرطوم الخارجية تحت دعاوى الحفاظ على الأمن القومي المصري إزاء أي ضرر قد يناله من الحديقة الخلفية و ذلك وفقاً للتفسير المصري الذاتي لمفهوم الأمن القومي و دون مراعاة المصلحة الوطنية السودانية، فالأمن القومي المصري في الستينات كان يعني منع السودان من توطيد علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية عبر تحشيد السياسيين السودانيين (المتمصرين) لإجهاض هذه العلاقة و هو ما أدى إلى أن تُسقِط أمريكا السودان من سلم أولوياتها في المنطقة و أن تعيد النظر في خططها لإتخاذه كحليف إستراتيجي و التوجه بدلاً عنه صوب إثيوبيا هيلاسيلاسي.

فالدول الكبرى لا تتعاطى مع الدول التابعة إلا عبر وسطاء إقليميين و قدر السودان كان أن لا يرى سياسييه في حقبة ما بعد الإستقلال أنفسهم إلا في دور التبعية و الإنقياد إلى شمال وادي النيل، فعلاً مرمي الله ما بترفع.

يتبع السودان بين مطرقة المتمصرين و سندان اليساريين منصور خالد … وزير الخارجية الأعظم المزارعة في ميزان المصلحة الوطنية السودانية.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.