آخر الأخبار
The news is by your side.

بناءات الأنا في شعر نورس الجابري… بقلم: بشّار ساجت

تربّع المدح والفخر والهجاء والرثاء على هرم موضوعات الشعر العربي القديم، لأنّ هذه الموضوعات تأتي بدافع الاعتزاز والتعالي بالنفس أو الأنا بشقيها: أنا الفرد وأنا الجماعة؛ مما دفع دارسي الأدب إلى دراسة هذه الظاهرة وتحليلها، وبيان أبعاد الأنا وأنواعها، وتأثيرها في تكوين الشعر و النصّ الأدبي على مستوى العموم.

ولا أعني بالأنا ضمير المتكلم فقط، بل كلَّ ما يعبّر عن الذات وفعالياتها وبأيّ لفظ كان، سواء بضمير المتكلم أو تاء الفاعل أو غيرها من ضروب إثبات الذات وأساليبه. فالذات وتفاعلاتها هي المحور الأساس في إنتاج النص الإبداعي، وهي المحرك لسلوك الانسان والموجه لأنفعالاته. وقد قسّم عالم النفس الشهير فرويد الذاتَ الإنسانية، وصنّفها في قوالب ثلاث: الأول ويسمه ب( الهو)، وهو يمثل الجانب الغريزي عند الانسان الذي لا يعرف غير اللذة وإشباعها. الثاني (الأنا) والأنا تمثل الجانب التعقلي عند الأنسان الذي يضبط إيقاع السلوك في حدود الوسطية. أما الثالث (الأنا العليا) وهو الجانب الأكثر صرامة في ممارسة الوعظ ومراعاة رأي الجماعة.

ويظهر من تقسيم فرويد أنّ الذات الإنسانية تتشكل وفق ثلاث أنيات مختلفة حتى تظهر بالشكل اللائق والعقلاني، ولكلّ جانب من هذه الجوانب الثلاث دورٌ في تكوين الذات، وبالتالي يبرز دوره في تكوين نتاجها الأدبي والسلوكي. وما يعنينا في الشعر هو كيفية بناء الأنا والدلالات التي تحملها هذه الأنية دون غيرها. فليس كلّ الأنيات ممتدحة مقبولة، وليست كلّها مذمومة مرفوضة. فالأنية التي نقبلها هي ما جاءت تحمل أبعاداً أخلاقية تتلائم مع القيم الإنسانية العليا، مبتعدةً عن انزلاقات الهو وانحرافاتها، فقد نرى بعض الشعراء يقع أسيراً تحت تأثير (الهو)؛ لتكون بناءات الأنا عنده ذات طابع نرجسي ضيق، لا يرى غير نفسة وإشباع شبقها فقط. فهذا أبو نوّاس وشعره، خيرُ مثالٍ على الذات النرجسية الشرهة، إذ يقول:

دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراءُ وداوني بالتي كانت هي الداءُ

صفراء لا تنزل الاحزان ساحتها لو مسها حجرٌ مسته سرّاءُ

فهو يتمرد على العرف والدين ليُشبع غريزته، ويعلن رفضه لتقبل النصح أو الملامة. ويدور في فلك الهو، يرفض أن يغادره، بل يذهب أبعد من ذلك ليمتدح الخمرة ويجعل سلطتها تقتحم عالم الجمادات. ومن بناءات الأنا المنزلقة في شراك الهو ما قاله جرير في إحدى نقائضه التي يهجو بها الراعي النميريّ لوقوفه مع الفرزدق، إذ يقول:

فغضّ الطرف إنّك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا

فهو لا يرى غير ذاته وأناه العليا، بل ولا يقيم وزناً لغيرهما. فيمارسُ التحقير والاستعلاء في أبشع صوره، حين يصنّف الناس الى شريف ووضيع، والمقياس عنده النسب لا غير. ويبدو لي أنّ الشعر أو الأدب عموماً يجب أن يكون ذا بعدٍ اجتماعي أو تربويّ، فالشاعر والكاتب يجب أن يكون كالطبيب، يفتش عن أوجاع زمانه، يشخصها، يأشرها بدقة، ثمّ يصنع لها من ابداعه ترياقاً حلوَ المذاق، وهل يوجد أحلى من الأدب ذوقاً وعذوبة، ومن المثالين المتقدمين أنطلق لبناءات الأنا عند الشاعرة الرقيقة نورس الجابري.

نورس الجابري ينبوع عذب من الابداع، تنسج حرفها بدقة متناهية، تضفي عليه من رقتها وعذوبتها ما يجعله يخامر القلوب، تناجي المعنى وتنتدب الكلمات، لتعجنها معاً بقوالب فريدة. قوالبَ إنثوية طازجة، تجعلنا نرتشف الشعر ثمّ ندمنه. (في حنجرتي طائر منسيّ) هو عنوان الديوان الشعري الذي صدر هذا العام، وكان من اصدارات الاتحاد العام للأدباء. جاء هذا الديوان حافلاً بصور متنوعة من الأنا العذبة، فلا تكاد أن تخلو قصيدة من بناء فريد للأنا الممتدحة، اخترت منها هذه البناءات الجميلة تاركاً غيرها من البناءات لكتابات أخرى؛ البناء الأول في قصيدة رسالة متشظية؛ إذ تقول: مزقتُ نفسي قبلَ القصائد فتناثرتُ كلمةً كلمةً وحرفاً حرفا

فقد وضعت نورس الجابري رسالتها المتشظية في مفتتح الديوان، لتقدم لنا ذاتاً ممزقة، وآنية متوازنة، ترسم حدود عالمها، لتعلن أن الشاعر ينتمي الى عالم غريب، أجزاؤه الكلمات والحروف. يتشكل نصوصاً وقوافيَ تحاكي الألم. أمّا في قصيدة ضجيج فتعلن الشاعرة أنّ ذاتها نافذة كبيرة، تطل على العالم، تجذب تفاعلاته بكلّ هدوئها وصخبها، حين يداعبها الرفق أو حين يعتريها العنف. ثم تحبسها في روح الشاعر المتمردة لتظهرها بهيئة شعر. تقول: حولي تطوف المدينة بأحزانها وترقص المأذن على أوجاعي

البناء الثالث: اخترتُ قصيدة أرقام خاسرة، تقول:

ما زلت معلقة من اطراف ثيابي

أحتضن الغياب بدلا عن كفي

أرقاماً خاسرة

تظهر أنية العاشق. تلك الأنا الرقيقة، التي تتشبث بأيّ انتساب لحبيبها، حتى لو كان غيابه، فهي مستعدة لاحتضان غياب الحبيب، لما فيه من العبق الذي يقتحم القلب ويزيل ألمه. وفي قصيدة خسوف تقدم الجابري بناءاً بريئاً من بناءاتها المتميزة تقول:

جدتي لم تكن ساذجة

حين اخبرتني

الخسوف المخيف ديدان بشعة تنبذ الجمال

تضعنا الشاعرة أمام آنية الطفل، تلك الأنية البريئة التي تنظر للقمر على انه كائن يؤكل، او ربما هو قرص من الخبز. في آخر بناء اخترته، تقدم نورس ملعقة صبرها، إذ تقول في قصيدة ملعقة صبر:

كان عليّ أن أفكر بالطبخ

قبل أن افكر بالحبّ

تضعنا الجابري أمام آنية رقيقة أخرى، إنها آنية المرأة. هذا الكائن الهلامي اللطيف، هذا الكائن المضطهد، وكيف تقبع آنيته تحت نيران الجهل والظلم، في مجتمع لا يؤمن بالحب، بل يؤمن بالمهارات فقط. همه ما تتقنه حواء لا ما تحمله من رقة وجمال. لتقرر لنا أخيراً أنها يجب عليها أن تموت، فموتها حين تقترن بمن يغازل يدها لا قلبها، تقول:

كان عليّ أن أموت….. أن اتزوجك مثلاً

هذه خلاصة أنا الشاعرة، وقبل أن نصل صوب نقطة النهاية ينبغي القول إن الأنا عند الشاعرة نورس الجابري من طراز فريد، تختلف عن الأنا في الإرث الأدبي القديم، إذ لا نستطيع أن ننسبها إلى أحد سواها، حتى يمكن تسميتها بالأنا النورسية.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.