آخر الأخبار
The news is by your side.

التَّكلُّس اليساروي: البيئة الطاردة للمثقفين (17) … بقلم: النور حمد

التَّكلُّس اليساروي: البيئة الطاردة للمثقفين (17) … بقلم: النور حمد

ما أحاول القيام به هنا ليس موجهًا ضد نهج الحزب الشيوعي واليسار العروبي حصرا. ولا يتجه إلى أن يقول إن هذه التنظيمات لم يكن لها دور وأنها كانت باطلاً مطلقا. إذ ما من شك أبدًا، أن اليسار السوداني لعب، عبر طيفه العريض، دورً رائدًا في الحياة السياسية والفكرية والثقافية في السودان. ولسوف يرد ذكر ذلك، لاحقًا. فالغرض وراء هذا الاسترجاع لتاريخ التزمت العلموي اليساروي هو أن تنفتح أذهان الأجيال الجديدة على حقيقة السِّيَر السياسية السودانية. ومثلما ظللتُ أفضح تنظيم الإسلاميين، وبلا هوادة، عبر مئات المقالات وعشرات المقابلات التلفزيونية والندوات والمحاضرات، فإنني أفعل ذات الشيء بسيرة الحزب الشيوعي المسربلة برداءٍ زائفٍ من الطهر والقداسة. إن أكثر ما يصيب الوعي العام في مقتل، خاصة أوساط الشباب، لهو هذه الحركية السياسية الفيزيائية، الناشطية الصرفة، التي تفتقر إلى الأفق المعرفي.

الحركية السياسية، التعبوية، التحشيدية، هي ما ساق بها الدكتور حسن الترابي شباب الإسلاميين إلى التطرف والعنف وإلى محارق الحروب. فما لبثت حركته أن أكلت نفسها بنفسها، وضاع جهده الضخم أدراج الرياح. ومثلما لفظ تنظيم الشيوعيين المفكرين والمبدعين، كذلك لفظ تنظيم الإسلامويين، المعتدلين الخارجين عن سلطة الأخ الأكبر big brother، كما في الرمزية التي ابتدعها جورج أورويل في روايته 1984. ويسير قبيلٌ من الجمهوريين العقائديين، الآن، على ذات النسق الشيوعي في شيطنة الآخر، كما جرى من شيطنةٍ نابيةٍ للعالِم الجليل، الدكتور عبد الله أحمد النعيم، على صفحات المواقع الإلكترونية. فالذي يجمع هذه النزعات الثلاث هو التكلُّس العقيدي والاعتقاد المطلق من قبل أصحابها، في صحة ما يرون، واعتقادهم أن هناك قصدًا شريرًا مبيتًا يقف وراء ما يقوله مخالفوهم. وهذه “بارانويا” ووسواس معروف، لا يسلم منه عقائديٌّ مُتكلِّسٌ، قط.

تنبه عبد الخالق محجوب مبكرًا إلى علاقة حزبه بالمثقفين والمبدعين، فكتب عنها، لكن ذلك لم يغير شيئا. فالنهج اللينيني الذي سيطر باستمرار على تصورات الحزب للأمور لا تغيِّره مثل تلك التنبيهات الاستدراكية العابرة. فالمثقف والشاعر والفنان التشكيلي وكل مبدع لا يسهل صبهم في القوالب الجاهزة. ولهذا السبب هرب المبدعون من الاتحاد السوفييتي، ذرافات ووحدانا، إلى الغرب. ورغم أن الحزب الشيوعي السوداني كان أكثر تحررًا في نظرته للفن والأدب من نظيره السوفييتي، إلا أن المفكرين والمثقفين والمبدعين ظلوا يبتعدون عنه، لِعلل متأصلة فيه. فالمظلة الفضفاضة التي يضعها الحزب على دائرة من يسميهم “الديموقراطيين” تضعهم في عداد “المغفلين النافعين”. ولربما يكون الانشقاق المُزلزل الذي جرى للحزب عقب انقلاب مايو، وأفقد الحزب اتزانه، وجعل قيادته التاريخية تجنح إلى سلاح الانقلاب قد مثَّل، هو الآخر، عنصرًا طاردًا للمثقفين.

الغريب أن الشيوعيين السودانيين حين يغادرون الحزب لا يبتعدون عنه وحسب، وإنما يذهبون إلى النقيض. وهذه ظاهرة تحتاج الدراسةَ البحثيةَ المدققة. ولا أريد أن أذكر أسماء من خرجوا منه وارتموا في حضن الإسلاميين، فهم معروفون. أما من لم يرتموا في حضن الإسلاميين فقد احتفظوا بالود مع رفاق الأمس. ولكنهم، احتفظوا لأنفسهم بمسافةٍ كافيةٍ عما يجري في الحزب من تنظير أو حراك. ولكن كلما تقدم الزمن كلما اتسعت تلك المسافة، الأمر الذي أصاب الحزب بالعقم الفكري والإبداعي. فغرق أكثر وأكثر في الحركية التعبوية، الفاقدة للأفق الجيواستراتيجي والزاد المعرفيٍّ والثقافي. فانتهى الزخم الثقافي الضخم الذي أحدثه الحزب في عقدي الستينات والسبعينات إلى مجرد “كورالٍ” ينيص في المناسبات. (يتواصل).

التيار

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.