البوني وجرح الجزيرة النازف.. محمود خالد عبدالله
البوني وجرح الجزيرة النازف
بقلم محمود خالد عبدالله
حين يتحدث الدكتور عبداللطيف البوني عن قريته اللعوتة شمال الجزيرة، لا يتحدث كصحفي متمرّسٍ فحسب، بل كابنٍ لهذه الأرض التي لم تكن تعرف من العالم سوى هدوء الحقول وطمأنينة الضفاف. حديثه عن ويلات الحرب التي طالت قريته مؤخرًا ليس إلا نافذةً نطلّ منها على وجهٍ جديدٍ وقاسٍ لهذه البقعة التي لطالما كانت رمزًا للسلام وموئلًا للتعايش الجميل.
لكن جرح اللعوتة لم يكن استثناءً، فالجزيرة بكامل قراها وأريافها من شمالها إلى جنوبها ذاقت من كأس الحرب ما يكفي لكسر القلب وإيلام الضمير. ومع ذلك، لا نقارن الألم بالألم، ولا نقيس النزيف بالمسافة؛ فجراح الجزيرة كلها جرحٌ واحدٌ ينزف في صدر السودان المصغّر.
الجزيرة، هذه الرقعة الخصيبة الممتدة على ضفاف النيل الأزرق، لم تكن يومًا سوى صورةٍ بديعةٍ للأمن المجتمعي والتعايش السلمي الحقيقي — لا شعارًا يرفع في المؤتمرات، بل واقعًا يمشي على الأرض بين قراها ومدنها. هنا عاش الناس متحابين، يشقّون الأرض بمحراثٍ واحد، ويسقون سنابلهم من نهرٍ واحد، ويغنون في حصادٍ جماعيٍ واحد. لم تحتضن أرض الجزيرة بندقيةً إلا في حراسة الزرع والماشية من وحشٍ عابر، ولم يرتفع صوت الرصاص فيها إلا في أعراس الفرح حين يطلقون النار في السماء لتزغرد الحياة أكثر.
لقد كانت الجزيرة ولا تزال ملهمةً لكل السودان: نموذجًا حيًّا لثقافةٍ زراعيةٍ نقية، وأرضًا خضراءَ منحت هذا البلد ما يكفي من القمح والقطن والفول وأعظم من ذلك — منحت إنسانًا بسيطًا، متسامحًا، كريمًا في عطائه، وأمينًا في خصومته.
إن ما أصاب الجزيرة اليوم يجرح قلب كل سودانيٍ صادق؛ فهو لا يطال الحقول وحدها، بل يهزّ ثقة المجتمع بنفسه ويختبر قدرة هذا الوطن على حماية نفسه من الداخل. ومع ذلك، سيظل أهل الجزيرة، كما عهدناهم، يرممون بيوتهم باليد ذاتها التي تحرث الأرض، ويزرعون الأمل في تربتهم كما يزرعون القمح والذرة، ويعيدون قصيدة السلام إلى مسيد القرية ونفير الحصاد.
الجزيرة كانت وستبقى مرقدًا للخير، ومعزوفةً للسلام، وصورةً تختصر السودان كما ينبغي أن يكون.