آخر الأخبار
The news is by your side.

عاد المركز و”كتابات سودانية”  .. وازدهرت روح حيدر في السودان

عاد المركز و”كتابات سودانية”  .. وازدهرت روح حيدر في السودان

بقلم: صلاح شعيب

قبل عامين فرحنا أولا أن د. حيدر إبراهيم علي ضَحِكَ على برزخ الموت، وعاد للحياة بإباء، وشمم. ورغم حِس أصدقائه أنه كان قاب قوسين أو أدنى من الرحيل غير أن المفكر الذي شيت مرحلة من حياته شَيّة من وجودية، مَدّ لسانه ساخراً من الموت. وكثير منا خرج من “موت محقق” على ما في المصطلح من اعوجاج. فكاتب المقال نفسه غرق يوماً ثُمّ أتَت صدره قفزة فوق سطح الماء ثم أبحر بعيداً حتى جلس في القيف اسياناً. وما يزال يتذكر تلك اللحظات ويتساءل: لماذا لم يظفر الموت بذلك الطفل حتى لا يمنحه شقاء الوجود، والذي لا يتبدد بسعادة القراءة الكثيفة لفلسفته؟.
ثم كانت الفرحة الثانية أن عالم الاجتماع المُمَيّز، د. حيدر ابراهيم، قد نال جائزة العويس كمفكر على مستوى “المجتمع العربي”، كونه دلف إلى بستان الاستنارة، وحرث فيه، فَشَذّب غَرْسه حتى جنينا ثماره. وفرحنا أيضاً لمَرّةٍ ثالثة أن د. حيدر عاد للخرطوم سالماً وغانماً في أجواء احتفالية رسمية وشعبية، ولله في خلقه شؤون. إذْ يطوي الاستبداد الكئيب سريعاً في رحمِ
الانتقالية.
وهكذا تتحرم عودة بعض جلادي الخرطوم الذين أغلقوا مركزه – مركز الدراسات السودانية – بعد انتهاء اتفاقية “السلام الشامل”، ويُزَجُ بالمجرمين، والمنتهكين من رواد الإسلام السياسي في السجون، بينما تستقبل الخرطوم ابنها حيدر، وتعلو زغرودة هنا، وأخرى هناك، حين يخطو إلى خارج صالة كبار الزوار.
وفرحنا رابعاً لأن لدى حيدر طاقته المديدة التي لا تتوقف عن بذل الحلم النبيل. فقد نوى استئناف نشاط مركز الدراسات السودانية الذي أسسه مطلع التسعينات بالخرطوم بميلاد جديد كما دلت ديباجة التطوير. وهناك فرحة أخرى تسربلنا فيها بأن تمكن حيدر، ورئيس تحرير المجلة الأستاذ بكري جابر، وطاقم تحرير كتابات سودانية، وكُتّاب مَهرة، وباحثون أشاوس أن يرصدوا الثورة السودانية في مَدِّها وجَزْرِها، وشَدِّها وجَذْبِها، وأخْذِها ورَدِّها، بعدد خاص عانق مناضد المكتبات قبل أيام.
أما فرح حيدر فحسبه أنه عايش غرس استنارته، وجنى ثمن مواقفه الوطنية تقديرا، كمثقف غرامشي نشهد أنه كان أول من أقام الحجة الدراسية على نظام الإسلاميين بعد وصولهم السلطة. إذ دَرَسَه بكتاب عميق الدلالة، وقوي الطرح، وكثيف التحليل.
أتَذَكَّر كتابه الأول هذا الذي وصلنا عن طريق طباعة الرونيو في بدايات الإنقاذ، وفيه غاص عقلانيا في الإسلام السياسي عبر عُدَّة أبواب. وصِرْنا حينذاك نتبادل ذلك السِفر بحذر، وحيطة، وهلع من أن يضبطنا أحد عسس السلطة التي سدرت في قمعها الشديد في تلك الأيام الكالحات.
وأتَذَكَّر أننا كُنّا شباباً نتداول حيثيات الكتاب كأنجيل معارضة وسط شُلتنا المارِقة على السلطة في ميدان أبو جنزير.
وكان الراحل محمد طه محمد أحمد الذي يَسْتَجِم مَرّات في القهوة، يَسْخَر من نقاشنا ثُمّ يَنْزَوي غارقاً في تأمُلاتٍ صامتةٍ.
وعلى مَقْرِبةٍ من جَمّامَةِ أبي جنزير، كانت هناك ثُلّة من الشعراء المحدثين يجتمعون ليَرْثوا زيف المدينة. فالصادق الرضي يستخدم رمزيته ليدس في أيدينا سِراً ديوانه “متاهة السلطان”، بينما ترى أبكر آدم إسماعيل يَسْخَر بدورهِ من تاريخنا السياسي ثم يجد في مهيرة هدفاً يدخل في شباك الجماعة بلا رأفة.
وكان هنالك التشكيليون الجُدد يتوهون في سودانوية أحمد الطيب زين العابدين الذي كان نَجْماً ثقافيّاً مشعا، وذرباً، وحفرياً. وحالهم هكذا يسخرون من رسومات أبو شريعة، ويعنفون سعي رواد “مدرسة الواحد” للانتهازيّة.
في ذلك الجو كانت مقالات حيدر إبراهيم، ورموز المعارضة التي تنشرها الحياة اللندنية، والخرطوم القاهرية، تصلنا بالفاكس فنتبادلها كما يتبادل زوار البحر المخدرات.
لم يكن هناك أي مجال لحيازة تلفون شخصي، أو إيميل، أو فيس بووك، أو يوتيوب، أو تواصل واتساب. ولكنا كنا نلتقى يومياً بالإحساس في زمان محدد في زوايا صحفية، وكلية الفنون، وأبو جنزير، وحفلات عركي، والمركز الفرنسي، ومعهد جوته، ومكتبة البشير الريح، وحفلات لشرحبيل. وفي الليلِ نَنْدَس في أطراف المدينة، بصحبةٍ أو بغير صحبة صديق.
بعد ثلاثين عاماً تحققت فرضيات ذلك الكتاب الناقد لمَسِيْرَةِ الدَجلِ، فذهب رواد الإسلام السياسي إلى مَذْبَلة التاريخ، ونبتت روح حيدر في السودان. لله درك حيدر.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.