آخر الأخبار
The news is by your side.

وزير المالية الأسبق و الخبير الإقتصادى الدولي د. بشير عمر يرد على أخطر القضايا الإقتصادية.

سودان بوست

حاورته عبير المجمر (سويكت) 

الخبير  الإقتصادي الدولي د. بشير عمر يقدم وصفات علاجية و حلول للأزمة الإقتصادية السونامية. 
نسبة للأزمة الإقتصادية السونامية و الغير المسبوقه التي هددت السودان و السودانيين، و بما أن التدهور الإقتصادي أحد أسباب الأزمة الأخلاقية والإجتماعية التي تهدد المجتمع في المقام الأول كان لابد أن يلعب الإعلام دوره في المساهمة في إيجاد حلول تخاطب جذور الأزمة و الضائقة المعيشية للشعب السوداني من شظف العيش و مصاعب و متاعب لا عدد لها، و في مثل هذه المواقف الوطنية الحرجه، يكون الوطن في أمس الحاجة لنجدة أبنائه من عمالقة خبراء الإقتصاد السوداني و بالفعل الدكتور بشير عمر الوزير الأسبق لمالية السودان و الطاقة التعدين في حقبة الديمقراطية الثالثةو الخبير الاقتصادي وطنيته و إنسانيته جعلته لا يتردد في تزويد الوطن بذخيرته العلمية و المهنية لتنوير المواطن و المساهمة بوصفات و حلول ناجعة تعمل على بتر الورم الخبيث و معالجة جسم الإقتصاد السوداني حتى يتمكن من إسترداد صحته و عافيته.
و الآن إلى مضابط الحوار :

أولاً دعنا نرحب بكم الدكتور بشير عمر. 

عندما كنتم وزيراً للمالية نجحتم فى الحفاظ على قيمة الجنيه السودانى أمام الدولار ، كيف تمكنتم من ذلك ؟
إدراكاً منا بأن سعر صرف العملة الوطنية (الجنيه السودانى) أمام العملات الأجنبية (الدولار) ، يحدده الطلب العالمى على عملتنا الوطنية . وأن هذا الطلب بدوره تحدده الرغبة فى استيراد منتجاتنا الوطنية خاصة تلك التى نمتلك فى إنتاجها ميزة نسبية كالفول السودانى والسمسم والكركدى والصمغ العربى والثروة الحيوانية والقطن والذهب ونحوها . وعلماً أن الصادر من هذه السلع تتحكم فيه الإنتاجية وحجم الإنتاج ومستوى الجودة وتنافسية سعر البيع الذى تؤثر فيه تكلفة الإنتاج .
ولأن دورة الإنتاج الزراعى هى عام واحد يضاف إليه ستة أشهر للتسويق والبيع . فلقد قمنا منذ أول يوم وعبر لجان متعددة التخصصات ، شملت القطاع الخاص وإتحادات المنتجين والمصدرين ، بعمل مسوحات ودراسات عاجلة للوقوف على وضع الإنتاج الزراعى وتحديد المعوقات التى تواجهه من تمويل وتوفر مدخلات الإنتاج ونقل وشحن وتخزين وتحديد لأسعار التركيز التى تعود بالفائدة مباشرة للمنتج (الصغير) بدلاً من أن تلتهمها شراهة السماسرة والوسطاء.
وبناءً على ذلك ، أصدرنا سلسلة مدروسة من القرارات التى تخاطب تلك المعوقات ، وتدرء آثارها السلبية . ووضعنا جداول زمنية لمتابعة تنفيذ تلك القرارات . كما إننا – على مستوى مجلس الوزراء – قمنا بانشاء مؤسسة “وزراء القطاع الإقتصادى” التى كانت تجتمع أسبوعياً تحت رئاسة وزير المالية والتخطيط الإقتصادى . ومن تحتها أنشأنا أيضاً مؤسسة “وكلاء وزارات القطاع الإقتصادى” التى كانت بدورها تجتمع أسبوعياُ برئاسة وكيل أول وزارة المالية والتخطيط الإقتصادى من أجل تفعيل وتنفيذ قرارات الوزراء . فانتظمت البلاد كلها حركة دؤوبة من النشاط والحيوية لإنجاح المواسم الزراعية إنتاجاً ، وإزالة العقبات والمعوقات من وجهها تصديراً ، وترشيد حصيلة الصادر عملة أجنبية لصالح الدورة القادمة من الإنتاج ، ولاستيراد الضروريات من الغذاء والدواء ومستلزمات التعليم والخدمات الأخرى .
من ناحية ثانية ، ولما كانت وزارة المالية هى صاحبة الولاية على المال العام بموجب قانونها ، فقد قمنا بقفل كل الحسابات التى كانت مفتوحة بأسماء بعض الوزراء آنذاك ، أو بأسماء بعض المؤسسات ، وأدخلنا كل المبالغ تحت مظلة وزارة المالية إحكاماً لتطبيق النظم المالية والشفافية ، وقفلاً للأبواب التى يمكن عبرها أن يجد النقد المحلى طريقه إلى سوق الدولار غير الرسمى مما يؤثر سلباً على سعر صرف العملة الوطنية .
وتم التحرك فى ذات الوقت لتسوية ديون السودان الخارجية التى كانت تكبّل حركة ميزان المدفوعات ، والمتمثلة فى ديون الحكومات وديون المؤسسات المالية الدولية والإقليمية ، وديون نادى باريس . وكان التحدى الأكبر هو حصر هذه الديون فى المقام الأول ، والحصول على بيانات دقيقة وصحيحة من وجهة النظر السودانية وليس فقط من وجهة نظر تلك الجهات . واحتاج ذلك إلى مجهود شاق ومضنى حتى تم التوصل إلى الأرقام الصحيحة . وبالرغم من أننا لم نستطع على سداد كامل الديون ، إلا أننا توصلنا إلى تفاهمات مع صندوق النقد الدولى والبنك الدولى خف بموجبها الضغط على ميزان المدفوعات وعلى سعر صرف العملة الوطنية . ومن النتائج الجيدة لتحسن سعر صرف العملة أنه انعكس إيجاباً فى شكل تحسن فى معدل التضخم المستورد مما أدى إلى خفض تكاليف الإستيراد وزيادة تنافسية منتجاتنا فى السوق العالمى .
من ناحية أخرى ، فقد قمنا ، بالتنسيق مع بنك السودان المركزى ، باصدار إجراءات مراقبة الصرف وتنظيم مبيعات ومشتريات العملة الصعبة للتحكم فى خروج رؤوس الأموال ولكن بدون الإضرار بحق المستثمرين الأجانب فى تحويل أرباحهم أو رؤوس أموالهم إلى الخارج وفق الميزات التى منحها لهم قانون تشجيع الإستثمار . وفى السياق نفسه أحكمنا الحلقات حول التلاعب بالدولار ، فصار بنك السودان المركزى هو العين الساهرة على ضرورة ترشيد عمليات النقد الأجنبى ، وصار استيراد المدخلات من أجل زيادة الإنتاج والتصدير يحتل المرتبة الأولى فى اهتمامات الدولة ، يليه استيراد الضروريات ، وتم تحجيم استيراد السلع الكمالية وسلع المجتمع المرفه ، مراعاة لمتطلبات النمو الإقتصادى ، وتحقيقاً للعدالة الإجتماعية . 
ويتوجب على أن أذكر فى ختام إجابتى على هذا السؤال ، أنه ، وبالرغم من أن وزارة المالية والتخطيط الإقتصادى وبنك السودان المركزى كانا ، وما زالا ، هما اللاعبان الرئيسيان فى التحكم فى سعر صرف العملة الوطنية وذلك عن طريق السياسات التى يصدرانها والإجراءات التى يتخذانها ، إلا أن المسألة الإقتصادية كانت هى الشغل الشاغل لمجلس الوزراء بأكمله . وأن الوزراء كانوا يعملون كفريق واحد يكمل بعضهم بعضاً ، تماماً كالحال فى كرة القدم : فليس المهم كثيراً من هو الذى سجل الهدف ، ولكن المهم جداً أن يفوز الفريق الذى ، فى هذه الحالة ، هو الوطن .

حسنا في رأيكم ماهى الأسباب التى أدت إلى كارثة الجنيه السودانى ؟
فى إعتقادى أن كارثة الجنيه السودانى بدأت أول ما بدأت فى السنوات الأولى لتولى الحكومة الحالية لحكم البلاد ، وتحديداً عندما أعلن أحد وزراء المالية قرار تحرير سعر صرف الجنيه السودانى أمام العملات الأجنبية (الدولار) . ودعونا نسارع بالقول أن سياسة التحرير والإنفتاح على السوق العالمى يمكن أن تكون سياسة صحيحة إذا توفرت لها الشروط اللازمة ، كما سنبين أدناه . فتحرير سعر صرف العملة والإنفتاح على السوق العالمى يُؤَمل فيه أن يؤدى إلى نتائج إيجابية عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتى :-
_زيادة الصادرات ومن ثم زيادة حصيلة النقد الأجنبى من الصادرات .
_زيادة تدفقات الإستثمار الخارجى .

_زيادة تحويلات السودانيين العاملين بالخارج عبر النظام المصرفى .
_تنازل العملاء عن الدولار لصالح البنوك المحلية .
ولكن الشروط اللازمة لكيما تتحقق هذه الإيجابيات لم تكن متوفرة عندما أعلن وزير المالية حينها رفع القيود عن سعر صرف الجنيه وترك الحبل على الغارب للسوق ليقرر السعر حسب مقتضيات العرض والطلب . فإنتاج سلع الصادر كان فى أسوأ حالاته من حيث الوفرة ومن حيث الجودة ومن حيث تكلفة الإنتاج الذى أثقلت كاهله الضرائب والرسوم وتكاليف التمويل الباهظة ومعضلات النقل والشحن والتخزين . وبالتالى لم ينعكس ذلك فى شكل زيادة ملحوظة فى حجم الصادرات كما كان متوقعاً لها .
ولم تتخذ سياسات مصاحبة جادة أو ترتيبات مقنعة لجذب المستثمرين الأجانب . ولعل أكثر ما أضر بعملية الإستثمار الأجنبى هو الفساد الإدارى الذى ضرب بأطنابه فى كل مرافق الدولة . وصار المستثمر الأجنبى ، خاصة المستثمرين الخليجيين يعتقدون أن الأصل فى عملية الإستثمار فى السودان هو دفع الرشاوى والمبالغ المالية الكبيرة لإرضاء المتنفذين وخطب ودهم بدلاً من الصرف على العملية الإستثمارية ذاتها لتعود عليهم وعلى أهل السودان بالنفع والخير .فتبخر بذلك أمل التدفقات من هذا الباب . أما السودانيون العاملون بالخارج فقد كان يقف بينهم وبين التعامل مع الحكومة جدار سميك من الشك والريبة وعدم الثقة . فلم يطرأ تحسن يذكر فى هذه التحويلات . كما لم تتم عمليات بيع تذكر للدولار من قبل رجال الأعمال لصالح البنوك المحلية
أما السبب الثانى الذى زاد من تفاقم الكارثة ، فهو الإستمرار طيلة هذه السنوات فى توجيه جل موارد الخزينة العامة بعيداً عن مساندة عملية الإنتاج فى قطاعات الإقتصاد المختلفة . فالمتمحص لارقام الميزانيات يجد أن غالبية هذه الموارد (ما يساوى 77% فى المتوسط) يذهب للصرف على المؤسسات الأمنية والصرف على الحروب . وكان الأجدر أن توجه هذه الموارد لدعم الإنتاج وتحسين مستوى الأجور واستيراد ضروريات المعيشة للمواطنين وتوفير الخدمات الهامة مثل الصحة والتعليم والكهرباء ومياه الشرب النظيفة .
وأدى ذلك إلى تراجع أرقام الانتاج فى أغلب المحاصيل ، وانهارت الصادرات إنهياراً مريعاً ، وزادت ديون السودان من 10 مليار دولار عام 1989م إلى 56 مليار هذا العام . وقاد كل ذلك إلى عجز دائم فى الميزان التجارى وخلل مزمن فى ميزان المدفوعات .
وبينما كان من المفروض أن تحرير سعر الصرف سوف يؤدى إلى انخفاض سعر الدولار أمام الجنيه السودانى ، فقد إنهارت قيمة العملة الوطنية بشكل أزعج حتى المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولى والبنك الدولى . وكان نتيجة كل ذلك أن قفزت أسعار السلع بشكل جنونى وارتفع معدل التضخم إلى مستويات لم يشهدها الإقتصاد السودانى على طول تاريخه القديم والحديث . وارتفعت تكاليف المعيشة وأصبحت الرواتب غير قادرة على تلبية إحتياجات الأسر بالنسبة للموظفين.
المسألة الثالثة هى الفشل فى التعامل مع القروض الخارجية . فقد اتجهت الدولة إلى الاقتراض من الخارج بقوة . وكان يمكن لهذه المبالغ الكبيرة أن تترك أثراً إيجابياً على قيمة الجنيه السودانى وعلى معدل التضخم ومستوى معيشة الناس بل على عملية النمو والتنمية بكلياتها لو أنه أحسن التعامل مع تلك القروض . ولكن للأسف الشديد أن كل تلك القروض صاحبها كثير من عدم الشفافية وعدم الإفصاح ، وأن ناتجها على الأرض بقى متواضعاً للغاية .
أما رابعة الأثافى ، إذا جاز التعبير ، والتى أدت إلى أن تظل الكارثة متقدة كل هذا الوقت الطويل ، فهو التدخل السياسى على كل المستويات فى المسائل الفنية الإقتصادية والمالية ، وعدم كفاءة الإدارة الإقتصادية ، وتوهان الدرب بين وزارة المالية والبنك المركزى .

 دكتور بشير عمر كخبير إقتصادي كيف تنظرون إلي الأوضاع الإقتصادية في السودان؟
لا أظن أنه يختلف اثنان في أن الأوضاع الإقتصادية في السودان حالياً قد بلغت درجة كبيرة من التدهور و التدني سواء علي مستوي أداء الإقتصاد الكلي و مؤشرات السلامة الإقتصادية ، أو علي مستوي المعيشة بالنسبة للمواطن العادي . فالإقتصاد السوداني يعاني حالياً من اختلالات هيكلية خطيرة تتمثل في العجز في موازنة الحكومة و الميزان التجاري و الحساب الجاري لميزان المدفوعات و زيادة معدل الديون الخارجية كرقم مطلق أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي . و عدم التوازن بين القطاعات المنتجة و القطاعات الخدمية لصالح القطاعات المنتجة . و تراجع قيمة الصادرات مما أدي إلي إنهيار قيمة العملة الوطنية و إلي ارتفاع معدلات التضخم ، و انعكس كل ذلك شظفا و معاناة في المعيشة و في حياة الناس اليومية .
 أما ما هي الحلول و المعالجات المحتملة ، فهذا ما سنحاول الإشارة إليه لاحقاً في معرض هذا الحوار الصحفي .

 من جانب آخر دكتور روشتات البنك الدولي و صندوق النقد الدولي كيف يمكن الإستغناء عنهما و تجاوزهما  كما فعل الدكتور مهاتير في ماليزيا؟
 بالأحري قبل الإجابة علي السؤال ، دعوني أصحح مفهوما خاطئاً ظل مترسخاً في أذهان كثير من الناس و هو أن هاتين المؤسستين – البنك الدولي و صندوق النقد الدولي – تأتيان إلي الدول تحملان” روشتة ” أو ” وصفة ” جاهزة لعلاج أمراض و أوجاع اقتصاد تلك الدولة و أنهم – أي موظفي هاتين المؤسستين – هم الأكثر خبرة و الأكثر دراية و معرفة بخبايا و تفاصيل أمراض ذلك الإقتصاد ، و أنه ما علي الدولة المعنية إلا الإذعان و أخذ الجرعات العلاجية ، التي عادة ما تكون شديدة المرارة ، بدون أدني أسئلة أو نقاش ، حتي لو أدت وصفة العلاج إلي الموت السريع أو التدريجي للمريض ، أو ابقائه علي سرير العلاج لفترات طويلة . هذا الإعتقاد جله غير صحيح . كون أن لهما ” وصفة ” فهذا صحيح ، و لكنها تتغير و تتبدل بظروف الزمان و المكان ، و بقدر الإحصاءات و المعلومات التي جمعوها هم عن الوضع الإقتصادي للدولة . ففي تجربتي معهم كوزير للمالية ، وجدت أن بعثة الصندوق ، مثلاً ، ما أن تطأ أقدامهم أرض الخرطوم ، حتي ينطلقوا صوب الوزارات و المؤسسات الحكومية و شبه الحكومية و يبدأون في جمع المعلومات و الإحصاءات ، أو قل تحديثها ، من مسؤولي و موظفي تلك الجهات ، و أحياناً من صغار الموظفين، و بديهي أن تكون الإحصاءات و البيانات المعطاة ناقصة أو متضاربة مع البيانات الرسمية للدولة، و تستعمل البعثة حصولها علي هذه الإحصاءات كأداة للضغط لقبول برنامجها . 
في الفترة التي توليت فيها أعباء وزارة المالية ، قمت بوقف إجتماعات البعثة بكل من هب و دب و حصرنا مصادر الإحصاءات و البيانات الإقتصادية و المالية في جهات ثلاث : هي وزارة المالية و التخطيط الإقتصادي ، بنك السودان المركزي ، و الجهاز القومي للإحصاء . و لكننا كنا ندري في ذات الوقت أن إجراءً مثل هذا يمكن أن يفهم منه أنه محاولة لطبخ الأرقام وتعمية الحقائق ،  و كثير من الحكومات تفعل ذلك ، و لكنه لا يفوت علي خبرة و تدريب موظفي المؤسستين، فقمنا من جانينا بدعم قدرات الجهات الثلاث لتحسين جمع و ترتيب و تبويب المعلومات ، و اصرينا علي إعمال الشفافية و الإفصاح المالي بأعلي درجاته درءاً لمثل هذا الإتهام، و تأتي المسألة الأخيرة و هي مرحلة التفاوض، و هذه المرحلة تتطلب أن يكون بين يدي الحكومة برنامج تطرحه علي الطاولة سماته كالآتي : 
_برنامج للسياسات البديلة .
_دقة الإحصاءات و البيانات الإقتصادية و المالية طرف الحكومة و مستوي جودتها .
_وضوح الأهداف للمدي القصير و المتوسط و البعيد لبرنامج الحكومة البديل و آليات التنفيذ و الجداول الزمنية للتنفيذ .
_خطة حشد الموارد ( المادية و البشرية ) من وجهة نظر الحكومة من أجل تنفيذ الأهداف .
_قوة و تجانس الفريق المفاوض و سلامة الخطة التفاوضية .
ما أردت قوله هنا ، هوأن البنك الدولي و صندوق النقد الدولي ، رغم كل الملاحظات عليهما ، هما مؤسستان دوليتان يملكان موارد مالية هائلة ، و قدرة علي الدعم الفني و أن السودان عضو فيهما ، فاذا كان بالإمكان الإستفادة من تلك الموارد دون الإضرار بعملية النهضة الإقتصادية و الإجتماعية للبلاد ، فلا حرج و لا ضير من ذلك ، اقتداء بحديث الرسول الكريم الذي ضعفه كثيرون و لكنهم استحسنوا معناه: ” الحكمة ضالة المؤمن ، فحيث وجدها فهو أحق بها ” .
نعود الأن إلي السؤال الأصلي، نعم ، يمكن الإستغناء عن و صفات صندوق النقد الدولي ، كما فعل ذلك مهاتير محمد ، و لكن ينبغي الإدراك أن ذلك يحتاج إلي شروط و مواصفات بالغة الدقة و يحتاج إلي جهد جهيد و مثابرة قبل الوصول إلي نقطة الإستغناء عن خدمات الصندوق ، و أن يسبق ذلك سداد كامل مستحقات الصندوق علي الدولة من مواردها الذاتية ، كما فعل ذلك مهاتير محمد و كما فعل رجب طيب أردوغان و كما فعلت كوريا الجنوبية، و من محاسن الصدف ، و من باب الإستزادة من المعرفة ، فقد قمت خلال الأشهر القليلة الماضية بدراسة معمقة للتجربة التنموية لهذه الدول الثلاث ، ووجدت أن أسس العمل للوصول إلي هذه المرحلة كثيرة و معقدة ، و أن هنالك عدة عناصر لا بد من توافرها لتحقيق الإعتماد علي الذات المنشود . و من واقع تجارب الآخرين ، فانه يتحتم توافرالنقاط التالية اذا أريد لهذا الحلم أن يتحقق ، و هي :
_الإستقرار السياسي                                  
-وجود القيادة السياسية المؤهلة و المنحازة لقضايا وطنها والتي تملك الإرادة و القبول من جل ، إن لم نقل من كل ، أفراد الشعب . 
_بناء الإقتصاد علي أساس السوق الحر بعد توفر الشروط التي ورد ذكرها آنفاً .
_وجود عمالة عالية التعليم والتدريب وبأسعار منافسة .
_التوجه الحكومى الصادق على كل المستويات لجعل السودان بيئة جذب للمستثمرين ، وإجتثاث الفساد المالى والإدارى من جذوره وتفانى السودانيين لخدمة المستثمرين .
_تأسيس التكنولوجيا الأفضل وإقامة الصناعة على المعرفة .
_الجودة العالية للمنتجات .
_الموازنة الدقيقة بين سياسات إنعاش الطلب المحلى وسياسات دعم وتشجيع الصادرات .
_إستعمال مهارات التسويق الفعّال لزيادة وتنويع أسواق السلع المنتجة .
_حشد كل خبرات وطاقات السودانيين فى بوتقة الإنتاج بعد إتخاذ سياسات تحقيق العدالة الإجتماعية والإنصاف على المستوى الجهوى والقطاعى والعرقى والإثنى. 

حسنا دكتور كخبير إقتصادى و صاحب تجربة مهنية ، كيف يمكن للملكة العربية السعودية والسودان التعاون فى مجال الإستثمار والإستفادة من الثروات الكامنة فى مياه البحر الأحمر ؟
يمثل السودان والمملكة العربية السعودية ما يمكن أن يسمى بجدارة “المثال الأنموذج” لما يمكن أن تكون عليه العلاقات الإقتصادية والإستثمارية والتجارية، فبجانب القرب الجغرافى الذى ينعكس إيجاباً على عنصرى الوقت والتكلفة ، والتشابه الثقافى والدينى اللذان يذللان كثيراً من معضلات التواصل والإتصال ، فالبلدان يملكان كل عناصر التكامل الإقتصادى ، خاصة فى المجال الزراعى ومجال إنتاج الغذاء . فالسودان ، كما هو معروف يملك الأرض وموارد مائية وبشرية هائلة ، والمملكة تملك التمويل ، وتملك البترول ومشتقاته وصارت رائدة فى كثيرٍ من مدخلات الإنتاج الزراعى بما فى ذلك الأسمدة والآليات الزراعية وآليات الرى . وبرغم ما أصاب هذا التعبير من تشوه ودمار ، إلا أن السودان بحقٍ وحقيقة قادرٌ على أن يكون “سلة غذاء العالم العربى” ، وسوف نبين كيف يكون ذلك .
ودعونا نأخذ مثالاً لذلك ، وهو إحتياجات المملكة من المواد الغذائية، فبالرغم من أن المملكة تنتج حجماً لا بأس به من غذائها محلياً ، كالتمور والألبان والخضر والفاكهة واللحوم ، إلا أنها ما تزال تستورد 70% من إحتياجاتها الغذائية من الخارج ، خاصة من بلجيكا وهولندا، ووفق إحصاءات ” الهيئة العامة للإحصاء” السعودية ، فإن المملكة استوردت سلعاً غذائية بقيمة 126 مليار ريال (34 مليار دولار) فى العام 2014 م وارتفعت القيمة إلى 130 مليار ريال (35 مليار دولار) فى العام 2017 م، وكان نصيب هولندا وبلجيكا من هذه الفاتورة هو 48 مليار ريال (13 مليار دولار)، والسودان مؤهل لأن يتحمل مسؤولية توفير كل سلع الغذاء للملكة من الخضر بأنواعها والفاكهة بأنواعها واللحوم بأنواعها وزيوت الطعام بأنواعها والقمح والذرة والأعلاف الأخرى و السمسم والفول السودانى والصمغ العربى والكركدى والأطعمة الصحية والأطعمة الطبيعية والحلويات والسكر ونحوها، ولكن دعونا نمتهن الواقعية ونقول إن السودان يمكنه أن يوفر 50% من إحتياجات المملكة من الغذاء . هذا يعنى عائد صادرات للخزينة السودانية يفوق 18 مليار دولار فى العام الواحد، وإذا ما أخذنا فى الحسبان أن حجم السكان فى المملكة ، خاصة شريحة الشباب ، فى إزدياد كبير ، وأن كل عناصر الطلب الأخرى تشهد زيادة كبيرة أيضاً ، فإن الطلب على الغذاء مرشح لأن يشهد نمواً مضطرداً، ولكن لابد من المسارعة بالقول إن المسألة ليست بهذه البساطة ، وليست بهذه السهولة التى صورناها بها بالرغم من أن تحقيقها ممكن، والعبء يقع على الجانب السودانى أكثر منه على الجانب السعودى . ووصولاً لهذه الغاية ، نقترح الآتى : –
_توقيع إتفاقية إستراتيجية للتكامل الإقتصادى بين الجانبين تعطى كامل الحماية والدعم والخصوصية للإستثمار السعودى فى السودان . 
_التوسع فى القوانين المحفزة للإستثمار السعودى فى السودان ، على أن يشمل ذلك الإعفاءات الضريبية وتحرير ملكية أسهم الشركات والضمانات ضد المصادرة والتأميم وضمانات تحويل الأموال وإزالة كافة العوائق الجمركية وغير الجمركية .
_إلتزام السودان بتوفير الغذاء للملكة إلتزاماً يكون على قدر المسؤولية التى يفرضها مثل هذا الإتفاق، وهذا أمر يحتاج إلى أعلى درجات الصدقية والإنضباط والتخطيط العلمى واستنفار كل طاقات الشعب بروية ودراية، كما إنه يتطلب البعد عن الهرجلة والبعد عن إتباع الأسلوب العشوائى أو محاولة إستسهال الأمور الصعبة، فكثيرون من المسؤولين عندنا يعالجون القضايا الهامة والشائكة بالتصريحات على صفحات الجرائد ، ويعتقدون أنهم سينامون وعندما يستيقظون فى الصباح ، سيجدون أن ما صرحوا به اليوم السابق على صفحات الجرائد قد تحقق لا محالة، فكأن يداً خفية هى التى ستقوم بتدبير كل شيئ ، وأنه ماعلى المرء إلا أن يحلم وأن يتمنى ، ولا ضير وإن أفرط فى التمنى .
_فلا إحصاءات ولا بيانات قد جمعت .
_ولا بحوث ولا دراسات قد أُجريت .
_ولا خطط ولا استراتيجيات ولا أهداف قد وُضعت .
_ولا جداول تنفيذ بمواقيتها وآليات عمل قد وُضّحت .
_ولا إجراءات إشراف ومتابعة للتنفيذ قد كُتبت .
_ولا مذكرات تفاهم أو اتفاقيات قد وُقّعت .

فكيف إذن تتحقق الأهداف وتجنى النتائج ؟
إجتثاث الفساد الإدارى والمالى من خارطة التعامل مع المستثمر السعودى ، بل بالأحرى من خارطة المستثمر إطلاقاً ، ووضع أقسى القوانين وإجراءات التنفيذ لمعاقبته .
يقوم الجانب السودانى باتخاذ إجراءات عاجلة وشاملة لزيادة الإنتاجية فى كل السلع المراد تصديرها والإرتقاء بالجودة لمطابقة أفضل المواصفات الفنية العالمية والتحكم فى تكاليف الإنتاج ، استعداداً وصموداً فى وجه المنافسة مع إثنين من أفضل منتجى المواد الغذائية فى العالم هما هولندا وبلجيكا اللتان تحتلان الصدارة فى تصدير الغذاء إلى المملكة .
ويكمّل الإرتقاء بالجودة ، الإرتقاء بصناعة التغليف والتخزين والتبريد والنقل والمناولة وإجراءات الشحن والتخليص فى الموانئ البحرية والجوية والبرية .
النهوض بالبنية التحتية الداخلية كالطرق والمطارات والموانئ والمناطق الحرة والمدن الصناعية .
ويسبق كل هذه النقاط الإرتقاء بالتعليم  والاهتمام بالتعليم الفنى وبالتدريب المستمر (فى هذه الحالة ، فى المجال الزراعى) ، والإهتمام بتدريس اللغات إلى درجة التميز خاصة اللغات الحية كالعربية والإنجليزية والفرنسية والصينية والروسية . 

حسنا و فيما يتعلق بالإستفادة من الثروات الكامنة فى مياه البحر الأحمر؟ 
فى العام 1964 م أنشأ الجانبان “اللجنة الدائمة السعودية – السودانية” ومقرها مدينة جدة ، لتكون معنية بالإستغلال المشترك للثروة الطبيعية والثروة المعدنية الموجودة فى قاع البحر الأحمر. وقد تم إنشاء هذه اللجنة بعد أن دلت الأبحاث الجيولوجية على وجود ترسبات هائلة للذهب والفضة والنحاس والزنك وغيرها فى قاع البحر الأحمر . وفى العام 1974 م ، تمكنت بعثة جيولوجية مختصة على متن السفينة أطلانطس (2) من إكتشاف تفاصيل أكثر ، حيث أعلنت البعثة وجود كنوزٍ من هذه المعادن المشار إليها أعلاه تقدر ب 97 مليون طن قيمتها  قد تفوق 8 تريليون دولار أمريكى، غير أن التكلفة العالية لاستخراج هذه الكنوز أخرت إستخراجها حتى الآن . ولكن ، وفى ضوء الزيادة الكبيرة لأسعار هذه المعادن فى السوق العالمى أخيراً ، بدأ التحرك من جديد لإحياء الفكرة . وفى العام 2016 م أعلن الجانبان السعودى والسودانى إنشاء شركة للتعدين المشترك فى البحر الأحمر وللبدء فى الترتيبات لإستغلال هذه الكنوز المخفية فى قاع البحر ، على أن تبدأ الشركة نشاطها فى العام 2020 م.
غير أن هنالك فرصاً أخرى عديدة للتعاون بين البلدين فى إطار البحر الأحمر . فصيد الأسماك يُعد واحداً من أكثر الأنشطة التى يمكن أن تعود بالنفع المادى للبلدين ، وتطوير السياحة على طوال شواطئ البحر الأحمر ، وتطوير مصائد اللؤلؤ والبحث عن البترول والغاز الطبيعى . هذه المسائل كلها تحتاج إلى تمويل شركات مختصة لإجراء البحوث التطويرية فى هذه المجالات .

تابعونا للحوار بقية 

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.