آخر الأخبار
The news is by your side.

متى تفتح القنوات للنهر وللبشر ومتى تهدأ ثورة النيل ؟

متى تفتح القنوات للنهر وللبشر ومتى تهدأ ثورة النيل ؟

بقلم: الطيب صالح

الذين حضروا ايام الإنجليز من المخضرمين امثالى يذكرون أن فى المديرية الشمالية كانوا يشقون قنوات على ضفتى النيل على طول إمتداده فى ذلك الإقليم كان لذلك فائدتان حين يفيض النيل يفتحون تلك القنوات فيسيل النيل على الضفتين فتمتص الأرض الظمأى فائض الماء من النهر فلايحدث الخراب والدمار الذى يحدثه إذا لم يجد متنفسا وقد كان ذلك فى ظنى الهدف الاهم من فتح تلك القنوات؛

الفائدة الثانية هى أن ماء الفيضان يصل الى أماكن لا يصلها عادة فتكون زراعات ومراعى أغنام وغابات طلح وسيال وعشر وغير ذلك كان يثبت الأرض الرملية ويقى من رياح السموم ويبسط الظل على عدوتى النيل

وكان فى بلدنا غابة كبيرة من اشجار الطلح يسقيها النيل من تلك القنوات من عام الى عام وقد نمت وإزدهرت لأن الحكومة كانت تمنع منعا باتا قطع اى شجرة إلا بإذن خاص فى حالات نادرة ؛

من تلك الحالات النادرة قطع شجر طلحة العرس فقد كان من طقوسهم فى الاعراس أنهم يمشون الى الغابة فى زفة عظيمة فيقطعون شجرة طلح ويعودون بها الى د ار العروس؛

أذكر وأنا صبى فى الاربعينات عرسا كانت له شنة ورنة من تلك الأعراس التى يؤرخ بها وتظل اصداؤها تترددزمنا طويلا

كان العريس إسماعيل صبير من اهلنا ناس كرمكول وكان اخا وحيدا بين عدة اخوات وكانت العروس إبنة المرحوم عبدالله عباس الذى كان يومئذ من كبار موظفى الجمارك كان من اوائل خريجى كلية غردون من اهلنا إضافة الى ان اخت العريس زينب صبير عملت لأخيها سيرة لم يحدث مثلها من قبل ولا بعد كانت شابة وضيئة متزوجة لا اظن أن سنها كانت تزيد على خمسة وعشرون عاما أذكر لونها العسلى وثغرها البراق ووقفتها النبيلة وصوتها العجيب الذى تعجز الكلمات عن وصفه بدت لى تحت ضوء المصابيح ولابد إنها ظهرت كذلك لأهل البلد كلهم كأنها طيف ملائكى حل علينا من كوكب آخر

سرنا معها كالمسحورين يحدونا صوتها الاسطورى من دار العروس فى كرمكول شاقين البلد من الغرب الى الشرق حتى وصلنا الغابة عند دبة الفقراء ظلت تغنى كانها ترتجل حتى قطعنا الطلحة وعدنا الى كرمكول ربما اكثر من ثلاث ساعات وربما اربع وصوتها يزداد عمقا ومدى وجازبية والصور والمعانى تصل الى وجداننا منها مثل رفيف أجنحة القطا

جيد لى أنا جيد لى بى ذاتو

يا نمر الخلا الفارد جناحاتو

حين صرت اكبر سنا واكثر إدراكا فهمت أن زينب بت صبير صنعت فنا عظيما فى تلك الليلة خلقت اسطورة لاخيها فإذا هو أجمل وأكرم وأشجع وأغنى وادخلت البلد قاطبة فى نسيج عالمها الإسطورى فإذا بلدنا نعرفها زيادة وإذا نحن جميعا كما نعرف انفسنا وأكثر كذلك يصنع الفن العظيم ؛

إنما الحياة كانت بالفعل حلوة فى تلك الايام حلوة حلاوة من لايعرف طعمها إلا من ذاقها فماذا كانت عندنا يومئذ ولم يعد عندنا اليوم؛

لم يمهل القدر زينب بت صبير بعد اشهر معدودات من تلك الليلة المشهورة وأختطفها الموت فجأة دون علة واضحة رحمها الله كانت حقيقة طيفا ألم بالبلد ثم عاد من حيث اتى؛

لاتوجد اليوم اعراس كالعرس الذى غنت فيه زينب فى أى من قرى شمال السودان فقد فرقت القرى من اهليها الذي تفرقوا أيدى سبأ إختفت الغابات على الضفتين وهاجرت القمارى بشجوها؛

النيل الرحيم الودود عادة ظل فى العهود الاخيرة يطمس المعالم ويمحو الآثار كأنه يريد أن يقول شيئا كانه ضاق بحبسه بين الضفتين فمتى تفتح القنوات للنهر وللبشر ومتى تهدأ ثورة النيل ومتى تعود القمارى بشجوها.

#فيضانات_السودان

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.