آخر الأخبار
The news is by your side.

«لؤلؤة الدانوب»… أصوات متعدّدة مشنوقة على مشجب وقت الفراغ … بقلم طلال مرتضى

سودان بوست: البناء اللبنانية

لعلّ الفكرة ليست وليدة لحظتها، ثمة خطوط عريضة تم الاشتغال عليها بعناية من باب أهمية الحالة والهدف الذي يرمي إليه معطاه، لهذا كانت فكرة «التجسير» هي الأنجع لاستكمال تعالق الحضارات وربطها معاً لتبدو كهالة كونية متصلة منفصلة، متصلة بكامل ممكناتها الحواسية ومنفصلة بفاعلية الجغرافية كفرض عين.

من هنا انطلقت فكرة بناء «لؤلؤة الدانوب» كجسر أولي معمار اتصال بين امتدادات الأمكنة، يخفف عباءة وحدة الكون والإنسان معاً، بدءاً من عملية الربط، حيث إن الشعراء الذين رصدوا له حبر أرواحهم من انتماءات متباينة ولكن جلهم موحّدون بجواز سفر أخضر النيات نمساوي ، لا حدود لسلطته الإنسانية، لهذا تكاتفت الأيدي من هنا لتصل إلى القصي من الأرض، وقت رهن جنود مجهولون أوقاتهم وجهودهم لإيقاد شعلة الشعر..

التجربة الأدبية «لؤلؤة الدانوب»، التي اشتغلت على ترجمتها الدكتورة السودانية النمساوية إشراقة مصطفى حامد، كان جلياً لي رصدها للتفاصيل الدقيقة، وهي محاولة جل ما يرضخ لها المترجمون في تأويل النصوص، وهو التباين الذي كنا نتلمسه بين نص ترجم مرتين، ففي كل مرة يقدم رؤية وثقافة المترجم، لكنها الحكاية قد اختلفت هنا، حيث الصور بدت مشغولة بحس أديب لا مترجم، ويتجلى كل هذا من رصد الانفعالات والهدوء وتواتر الحالة النفسية بين نص وتالٍ وبين مرجعية ثقافة كل شاعر وتعالقه مع ثقافته الأساس مع الثقافة المكتسبة.

أفتاب حسين… في محاكاته الحسية مع والده، يذهب بقارئه نحو ارتباكات الحواس وتبدل أدوارها، وتلك أهوج وأسمى ثورات الروح أي الشاعر، ففي نصه المُهدى لوالده، ولجياشة ورهف حسه، غير عنده موازين حواس الشعر لينزاح نحو ارتكاب المخالفة، وهي لم تكن مدروسة أو مقرّرة سالفة، بل هي فورة المشاعر وفيضها:

«كلَّما تذكرتُكَ غَمَرَ الندى حدَقاتِي

وكلَّما ذكرتُ اسمَكَ

يخفِقُ قلبِي حتى الصمت

وكلَّما فكَّرتُ فِيكَ يهزِمُني صوتي

ولو تحدثَ آخَرُ عنك

أُحسُّ بالَّضيَاع».

ماركو آنتون… يقبض قارئ آنتون على الحبل السري لنصوصه منذ أول قراءة، لدرجة التيقن بأنها كتبت في نص وحيد وفي ما بعد تم تقطيعه من دون أن يفقد وهج تواتره، فقد ترك آنتون بين كل نص وتالٍ خيط رفيع، وهو ما نطلق عليه بالمثل العربي «شعرة معاوية»، حيث رهن كل شيء تحت سطوة الأسئلة التي تترافد تباعاً وقت يسود الانتظار سيداً للحالة:

«من أيِّ منفذٍ تلِجُ كي

ويداكَ مصلُوبتانِ على جدارِ

الانتِظار».

وفي مقامٍ ثانٍ يذهب دون مواربة لوضع نقاط الحكاية فوق الحروف، لفك أكواد سر الزمن المخبوءة طي مقاله: «اليومَ كَما الأمس

تُوحّدُنا قُبلةٌ أمامَ البحرِ الذي فرَّقَنا».

وأيضاً في موضع تالٍ:

«سنعودُ لنَكونَ معاً

حتى لو في الصلوات

بالأمسِ، اليومَ وللأبَد».

وهنا أرتب سؤالي من جديد، أليس هو الزمن والانتظار… الطريق الأسرع للفراغ والضياع الروحي؟

كلوديا تالر… ذهبت للبحث عن «الذات»، بعد أن وقعت في فخ الفراغ لتكتشف بأنها تدور في الحلقة المفرغة ذاتها من رتابة الحياة، فدوال الحكاية ذاتها على الرغم من اختلاف ترميزاتها وإشاراتها، فدال الوقت الزمن لا ينفك من الحضور بقوة كحامل أصيل لحبرها:

«يبدو أنّ جراحَ الحبّ الأولِ تندمِل

ينمو عليها حبٌّ وراءَ حُبّ

طبقةً فوقَ طبقة

وتأتي أيامٌ لا يرف فيها جرحٌ جديد

وتمضي الأيّام

يوماً وراءَ يوم

لتعرِف أنّ جرحَ الحبّ الأول أبداً لن يندمِل».

الفراغ الذي نرسمه تصاوير مدهشة تتفجّر كقنابل ضوئية في المتخيّل والتي سرعان ما تذهب بنا نحو الركود والنكوص في ضياع الوقت، كما مر بتجربة كورنيليا ترافنشاك…

«على الهواءِ الطَّلقِ رذاذُ البَحر

أمنحُ يدي يدَك

وحيدٌ،

أتسكَّعُ في الضباب».

ليعاود شاعر آخر وشاعرة أخرى كرة الدخول إلى الدائرة ذاتها، وكأنهم تعاهدوا لقسمة زاد وملح قصائدهم بماهية الوقت الزمن ، لكن البعض ذهب في التجريب من باب الزمن والفراغ العالي الحنين ليدوّن صيرورة روحه بتخفّف، وحدها عزلة الروح من تخلق حنيناً يذيب هالات الصخر، وهوما افتتحت به دوريز كيلومشتاين مفاز هجسها على الورق:

«أفكارٌ غرِيبة

تنقلِبُ على الرُّوح

وتغسل الرَّملَ المُقدَّس

ولا شيءَ يبقى سوى الحَنين

غيومٌ داكنةٌ تُنبِئُ بالمطر

بعيداً يحلِّق طائرُ السنَوْنَوْ

والروحُ حَزينة،

وأنا».

لتعترف مواطنتها دوريتا نورينبرغ، هي الأخرى بسطوته عليها، ولكن على لسان الغير العاقل بقولها:

«هامسةٌ تحكي الأشجار

عن سيلِ الزمنِ الجارف

جهاتٌ خضراءَ،

الرياحُ متنوعةُ الدفء،

ضاحكةٌ

من حزنِ مطرِها السراب».

وحده هارلد كوليغر، قرّر رسم الزمن من منظار العتمة، فالعتمة عزلة سليطة ولربما استطاع كسر لعنتها من خلال خيط ضوء السؤال، إلى متى بقوله:

«ما زلتُ أكتُب

لكنِّي لا أعرفُ مِن أجلِ ماذا

أرى باباً صغيراً في هذهِ الزِّنزَانة

من ثُقبِ هذهِ العَتمة

إلى متَى

تظلُّ هذهِ الورقةُ فارغة».

لم تستطع هيلغا نيوماير، التواري وراء ستارة التصاوير الجميلة. فالكلمات تدلّ مفاتيح حضورها إلى الخط ذاته الذي ارتكبه الشركاء في لؤلؤة الدانوب، فالسؤال الأول كشف ستر الفراغ منذ المطلع، كذلك السكون هو فراغ والبرد هو التفلت من غير وجهة بلهج سؤالها:

«هل وجدتَ ملاذاً؟

التلُّ ساكن

الألسن تلمع

على الحديدِ البارِد

على السورِ».

وحدها هيلموت أ. نيدرلا، كان متصالحاً مع أناه، لهذا رسم توجّسه منذ الفواتح العتبات الأولى للمقال، معيداً ترتيب أوراقه كما رفاق الحرف، فالعتبات العليا لقصائده «العناوين»، تشي بمضامينها المرصودة على مشجب الوقت الزمن كيافطات تحذيرية تارة، وفي أخرى الرضوخ لواقع لا يمكن الركض أمامه، فأتت العناوين منسجمة تماماً مع هواجس الشاعر على الرغم من تباين حركة أصواتها بين الفينة والأخرى رغم أنها تدور في المجرة ذاتها، «فيما مضى»، «الشيخوخة»، «صيف لاحق»، وأخيراً نص «الحنين» الذي أراد فرد أوراقه وتعريتها أمام العيان بقوله:

«الحنين.. في بعِض اللُّغات يعني

العودةَ إلى الأمّ».

ليكون السؤال، تلك العودة هل من تصوير لها غير الفراغ والفراغ، وهما في الحكاية معادل بعضهما البعض كوجهين لعملة واحدة، عملة «الزمن»، بعد أن فك أزرار القول بالشكوى:

«هل كان غريباً هذا الفِراق

لتنعتِقَ من الحنينِ ولو إلى حِين»؟

ثم وفي مقام تالٍ يتم تدوير حكاية الوقت بطريقة مختلفة، من الخامة الأولية ذاتها التي استعملها باقي الشعراء، على لسان كارل لوبميرسكي، هذه المرة بسؤاله:

«أخبرِيني كيفَ يكونُ عِرفاني

للساعاتِ التِي مَضت،

التي قرَّبتْني منَ الموت

دونَ أن أراكِ

أو.. تعالِ إذن».

عندما يتنكّب الحب ثياب السفر، ثمة فراغ روحي سيعلو فضاء طرف ما في الحكاية، هذه المرة وقع من غير دراية على كاهل كورت ف. سفاتيك ليتركه تائه الجهات:

«غرِيبٌ

في بيتِكَ

في غرفَتِكَ الصغيرَة

معَ الستائرِ الكثِيفةِ المُسدَلة

رغمَ الكتُبِ التِي تُواسيك

وَفواحِ الشايِ الطازَج

على الكوبِ الصينِيّ

غرِيبٌ

لأنَّ الحبَّ بالأمسِ رحَل».

ولأنه الحب ذاته بكل فواتح وإشارات خطوطه، كفاية أمتلاء، يذهب بنا مارك كلينك نحوالاعتراف:

«لا يمكنُني إعطاءُ ما لا أملِك

ولكن يمكنُكِ خَلاصي

بخروجِ روحي منَ الرِّمال المتحرِّكة».

كيف لهذا الامتلاء التحوّل من حالة الاستجرار إلى حالة العطاء، وكل شيء مرتهن لسلطة الزمن الذي يدير دفة الحياة حسبما يريد هو. الانتظار قاتل مأجور بيد الوقت، غالباً ما ننعتق به ومعه عله يسكن من هوج العاصفة التي رسمتها ناهد باغهيري قولدشميت من باب معرفتها بالنتيجة الأولية لما نحن به بقولها:

«حينما هبّتِ العاصفة

تكسرتِ الأغصان

ومنجلُ الريح الحادُّ بعثر عشَّ الطائر».

مثل الشاعر بيتر باول فيبلينغر الذي سلم قياده راضياً بعد الوقوف بتجلٍّ أمام سطوة الموت الذي يرسم بطريقته هو هالة الفراغ والفراغ هنا زمن محسوس، التي يريدها وحسب مشيئته:

«البومُ ينعِقُ في الرِّيح

وجدتُ في حضنِكِ طفلاً ميّتاً

الآنَ لا أحتاجُ إلى الأساطِير

الطفلُ مات

والمهدُ فارِغ».

استطاعت فيلوإكونيا، تزويق الحكاية بفاعلية رسم نص يتوسل الرد بتصاوير قريبة وأقرب إلى الحسية، وهي مهارة يذهب برسمها من يمتهنون سلطة الروي، تلوين الوجع بتصاوير زاهية وبراقة وهي محاولة لكسر تسلطه، كلمة كنت في نصها رسمت وبينت فداحة الفراغ:

«في الفجرِ الذي كانَ المحبُوب

كُنتَ هُنا تعزِف لي لحناً طَروباً

وتسيلُ دموعِي على وجهِ العالم المفقُود».

ساريتا جينماني، على شاكلة فيلوإكونيا، رسمت روحها بلون آخر، لكنه سرعان ما تجلى لعين القارئ هالات الكذبة الكبيرة «الحياة» التي بقيت هي الأخرى مصلوبة على مشجب الزمن المتبدّل:

«وطني تخلَّى عني

هل صارَ أخرس

أم لم يكن لديهِ ما يقولُه

حينَ عبَتُ البحرَ الهائج بالقاربِ المطّاطيّ

عندما استبدلتُ الحياةَ بصفعة

أتحدثُ عنه

عن كلِّ الماضي

وأشتَمُّ رائحةَ العُزلة

في غرفةٍ آمنةٍ بلا نافذة».

وأنا أعبر أوراق سحر شاكر، لم أتفاجأ بالمطلق، وقت فردت ورقة توتها تحت مجهر الضوء، قصة الحنين، الذي أجادت تصويره بعناية عارف:

«الحنينُ شمسٌ تُشرق

ومتمهِّلة، تحرِق كلَّ شيء

وكلَّ يومٍ أموتُ في شمسِ غِيابك

في جمالِ البِلادِ الخَضراء».

الشاعرة صوفيا راير وصلت سدرة منتهى الحكاية منذ أول رصد، بـ»كنتُ»، ما بعدها يأتي الدوران حول الذات، وهو الرقص العلني في الحلقة المفرغة ذاتها:

«كنتُ بيتَ المُستقبَل المطمور

البيتُ الذي احترق

قبلَ أن يأتيَ إلى العالم».

من يقرأ «لؤلؤة الدانوب» سيتوقف عند مفترق الحكايات كلها. فالشعراء كلهم رتّبوا صور نصوصهم من حدائق منازلهم، فجلّ النصوص عابقة برائحة الزهور والورد ومشبعة بالرذاذ والخضرة، لكن الدخول إلى جوانية كل حالة يلقي القبض على شاعرها متلبساً ثوب الماضي، و»الماضويون» تسمية لمن يعيشون على تواريخ سالفة من قصص الحب والأمجاد والذكريات وكأني بهم قد وصلوا نهاية خط دائرتهم.. قد دأبت بتبيان حضور الوقت «الزمن» كحامل كلي لكل القصائد، مع اختلاف مفرزه وتبيانه بين شاعر وآخر، على عكس المكان الذي بقي افتراضياً بذهنية كل منهم..

لا شك في أنني وقفت أمام تجربة ناضجة، ولكنني في الوقت ذاته تساءلت بيني وبيني عن اختفاء خطوط الأمل الذهاب إلى رسم تصاوير ترسم خيوط ضوء لمستقبل ليس بهذه القتامة، كان يمكن لهم جميعاً استثمار ممكنات الطبيعة التي رصدوها في نصوصهم، القمر، الشمس، الهواء، الرذاذ، الماء وغيرها من الدلالات العميقة التي تترك خيطاً ذا بريق وومض في الروح.

ومن باب أن المترجم خائن، ولكوني قارئاً أولياً لمنجز المترجمة، ثمّة طفح جلي بدا طافياً على مسام النصوص، تجسّد بحضور سمن أصابع روحها، فمن قرأ عن دراية وكثب ما تكتبه إشراقة يتوقف ملياً في أول سطر الكلام ليسمع هسيس صوتها بين كل نقلة وتالية، ولست أدري هل تلك ضربة تحسب لها أم عليها، وما قصدت هنا ماذا لو ذهبنا إلى إقصاء الأسماء كلها من الديوان، ألا تمر الحكاية مرور الكرام على القارئ العادي من لهج خيط الوقت الذي ربطت به كل القصائد.

كاتب سوري/ فيينا

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.