آخر الأخبار
The news is by your side.

كوستي .. ما بين المولد النبوي و ” النباري “

كوستي .. ما بين المولد النبوي و ” النباري “

بقلم: عواطف عبداللطيف

برغم ان الذاكرة تساقط منها الكثير وبات القليل منها بين جوفي هذا الجهاز الذي لا ينبض ولا يحس انه آلة العصر التي مسكت بتلابيب كل شيء .. نعم فبقدر ما ادهشتنا ” الحواسيب ” ذكاءا وسرعة بقدر ما عطلت مكامن النبض والاحساس فينا .. ففي هذا الزمان من لا يجيد التعامل مع الآلة الصماء الذكية فهو بلا منازع ” جاهل ” .. هي تحفظ مستنداتنا واخبارنا وفي ذات الوقت تنقلها باسرع من لمح البصر لكل بقاع الارض فقط بالضغط علي ازرارها .. وبها يمكنك ان تسوح هنا وهناك .. تتسوق .. وتختار عطرك الفواح وارغفتك المبللة بالزبدة والمربي .. ولحاف غطاؤك … واحذيتك .. وتحادث أهلك واحبابك .. ومن تعرفهم ومن لم تلتقيهم .. لكنه فاقد للحيوية ولا نكهة له طالما لا تلاقي وتلامس انساني عالقا بالذاكرة.

في ذلك الزمان الذي أنطوي سريعا وبمدينة كوستي الجميلة الوادعة وبدايات الصبا أرتحلنا اليها من مدينة الحديد والنار عطبرة الثائرة .. نعم هي ذاتها صاحبة السبق في مسارات ثورة ديسمبر ٢٠١٩م المجيدة التي ما ان حاول البعض أغتيال وهجها هبت هذه العطبرة بقطارها الذي سجل كعلامة تجارية ثورية عالمية .. فقطار عطبرة هو العلامة التي لم يسبق العالم أن أتى بها او عرف مكنونها ورمزيتها.

وبمدينةُ كوستي العاصمة النهرية التي ربطت بوثاق المحبة والالفة والتكامل الانساني والتجاري بين شقي الوطن شماله وجنوبه وقبل ان تذبح هذه العلاقة الانسيابية بفصل جنوب السودان ..
في ذلك الزمان يبدو ان طفولتنا لم تكن تعرف دهاليز السياسة ومكرها ومعتركاتها التي تفتت الاوطان وتقطع اوصالها.

بذات قطار عطبرة وصلنا لمدينة كوستي تدافع كثير من الصبايا والصبيان لافراغ اغراضنا من عربة القطار لمنزلنا الجديد بحي السكة حديد والذي تحفه ” القطاطي ” تلك المساكن التي أبدع في تصميمها الانجليز واللذين غادروا السودان منذ ما يقارب الخمسة وستون عاما ويزيد ولم توضع بعدها طوبة علي طوبة لأجل الكادحين الطبقة العاملة … ملح الارض ..عمال الدرايسة والنقل النهري والسكك الحديدية.

نصحو وصياح الديكة التي لم يكن يخلوا منها بيت ومعز ودجاج وقطط .. نتناول شاي مقنن من ايادي أمي المبروكة بت كانور او من جارتنا نفيسة او فاطمة ونركض لخلف منازلنا منطقة خضراء علي امتداد البصر موزعة لاحواض بامية وعجوز وملوخية وطماطم وبطيخ وشمام .. نقطف من هذه وتلك ومزارعي هذه ” النباري ” التي لا اعرف دلالت تسميتها ومغزاه فغالبيتهم كانوا ” صعايدة ” وهم في طريقهم لاسواق كوستي العامرة … يلوحون لنا باياديهم من على حميرهم وقفاف ملئية بالخضر بألا نخرب الخضار كتصريح لاخذ المتاح.

فنكتفي بقطف ” عجورة ” او حزمة جرجير او شمامة .. وكأسراب طيور النورس بعد ان تملا بطونها نعود لرحلة الذهاب للمدارس فتبديل الملابس وحمل ” خرتاية ” الكتب سهلة هينة .. وما بجوف الكتب من انشودة كفيلة عقولنا البريئة ونفوسنا الصافيه حفظها ترتيلا مموسقا ونحن نطوي المسافات ما بين بيوتنا ومدارسنا بنشوى وعنفوان طفولي.

عمي صديق ذلك الدنقلاوي القح يستقبلنا بحوش قطيته وفي معيتنا امهاتنا وكل نساء الحي فنغوص بين جوالات الفول نقشره ونأكل بعضه وكان ذلك أولي بشريات هلال ربيع الاول وقرب مولد المصطفي عليه افضل السلام .. وما ان يبدأ عمي صديق صناعة قوالب حلوة المولد السمسمية والفولية وعرائس يبدع في تزيينها وأحصنة بحوافز رمز للقوة إلا ويغلق الابواب دوننا … فنتعلق علي نوافذ القطية ومن خلال سلك النملي نستنشق روائح حلوة المولد ونكتفي بأمتاع النظر والتمني ان يكون لنا نصيب في عروسة بزي مزركش وإن غلى ثمنها .. وما ان تنصب خيام المولد نتجول زرافات وزرافات وسط الدكاكين وخيام المديح … نعم كنا شركاء في صناعة الحلوة الشهية حتى ولو بتقشير فولها وغربلة سمسمها .. وسعيدة الحظ من يشتري لها ابوها عروسة تكون ملك للجميع للتمعن والنظر وحتى يحول عليها الحول.. فيصنع عمي صديق اخريات بعمالة رخيصة لتقشير الفول والسمسم تنتهي مهمتها مع بداية صنع حلوة المولد النبوي الشريف .. وتبقي ليلة المولد هي سر الليالي.
 
Awatifderar1@gmail.com

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.