آخر الأخبار
The news is by your side.

دبلوماسية الغرف المغلقة

دبلوماسية الغرف المغلقة

بقلم: أ.د. التجاني عبد القادر حامد

(ملحوظة: نشرت هذا المقال عام 2006 بمناسبة زيارة المبعوث الأمريكى الذى حمل معه قرارا بنهاية نظام الرئيس الأسبق جعفر النميرى، عليه الرحمة.

أعيد نشر المقال بمناسبة عودة المبعوث الأمريكى (جيفرى فيلتمان) الى الخرطوم، واجتماعه “على طاولة واحدة” مع الرؤوس الثلاثة الحاكمة فى السودان).

. كنت ذات مرة (أوائل التسعينات) في طريقي الى كلية “وادي سيدنا” العسكرية شمال مدينة ام درمان للمشاركة في ندوة عامة. كنت أجلس في السيارة الى جانب أحد المدعوين للحديث، وهو من العسكريين المتقاعدين ذوي الاهتمام الفكري الذين زاملوا الرئيس السابق جعفر النميري في الكلية الحربية (وربما في مدرسة حنتوب الثانوية أيضأ) وحينما صار جعفر النميري رئيسا للجمهورية كان يستعين بصديقه هذا-اداريا في أقاليم الشدة تارة، وسياسيا في الاتحاد الاشتراكي تارة أخرى؛ مما يعنى أن أواصر الصداقة ظلت بينهما قوية في كل الأحوال. انتهزت الفرصة وسألته عن الأيام الأخيرة في عهد الرئيس النميري، قلت له: ما الذي أصاب الرئيس في تلك الأيام وجعله يقوم بانقلاب ضد نفسه وضد قوانين الشريعة وضد حلفائه من الإسلاميين؟ قال محدثي: ناداني الرئيس ذات مرة في وقت متأخر من الليل، وجدته وحده مهموما، ثقيل الحركة، تخرج الكلمات من فمه بصعوبة، ولما سألته عما ألم به قال لي: لقد كان معي مبعوث الإدارة الأمريكية قبل قليل، وصمت. ولما طال الصمت، قلت له: إن شاء الله خير، قال: والله أنا جبت الشريعة دي، وكنت فاكر أنو هذا هو أحسن حل لمشاكل البلد، ولكنها فتحت على مشاكل جديدة ما كنت واضع ليها حساب، ثم صمت مرة أخرى، ولكنه أردف قائلا: أنا الآن أصبحت ذي التور المخروقته مكسورة، وكلما يحاول يقوم يضربوه على رأسه. و”المخروقة” (بتسكين الخاء وفتح القاف) تعنى في العامية السودانية عظمة الحوض، والتي إذا انكسرت فان الثور (أو أي حيوان آخر) يترنح ولكنه لا يستطيع بالطبع أن يقف على رجليه. إنها صورة بسيطة مأخوذة من عالم الحيوان، ولكنها على بساطتها وحيوانيتها تحتوى على قدر كبير من الصدق وتصلح أن تكون أداة تحليلية نفسر من خلالها بعض وسائل الاكراه في السياسة الدولية، اذ أنها تصور نمط العلاقة غير المتكافئة بين مبعوث الدولة العظمى والدولة الصغيرة “المارقة” حينما يلتقيان وحدهما في غرفة مغلقة، أنها تشبه تماما علاقة الجزار بالثور في المجتمعات القديمة، يُضرب الثور أولا في عظمة الحوض ليفقد القدرة على الحركة، وليترنح يمنة ويسرى، ثم يُضرب ثانيا في منطقة الرأس ليفقد القدرة على الرؤية والتفكير، فيسهل القضاء عليه بعد ذلك. قال العسكري العجوز: أدركت حينها أن الرئيس يمر بحالة انهيار نفسى خطير، فحاولت أن أشجعه بسرد المواعظ وضرب الأمثال ولكنى لم أفلح، وسافر سفرته الأخيرة الى الولايات المتحدة، وهى السفرة التي هوت به من موقع رئاسة الجمهورية الى موقع لاجئ سياسي مغمور في القاهرة، أشعث أغبر ذي طمرين.

على أن حالة الرئيس النميري لم تكن حالة وحيدة شاذة، إذ أن هناك رؤساء كثر أدخلوا في الغرف المغلقة ومورست عليهم سياسة “تكسير المخروقة”، ولكن قليلا منهم من كان له صدق النميري. ويمكن الإشارة في هذا الصدد الى ما ذكره الرئيس الباكستاني برويز مشرف في مقابلة تلفزيونية مع شبكة سي.بى.اس. من أن الولايات المتحدة هددت بقصف بلاده إذا لم تتعاون مع الحرب الأمريكية ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان، وذلك في أعقاب هجمات سبتمبر عام 2001، وذكر أن التهديد صدر عن طريق ريتشارد ارميتاج مساعد وزير الخارجية الأمريكي الذي قال لمدير جهاز المخابرات الباكستانية: استعدوا للقصف…استعدوا للعودة الى العصر الحجري. لقد كنت في الولايات المتحدة وقتها، وأذكر أنى قرأت في صحيفة نيويورك تايمز رواية ثانية أشار فيها مراسل الصحيفة الى اجتماع آخر تم في وزارة الدفاع مع الوفد الباكستاني نفسه، حيث ابتدأ ممثل الوفد حديثه بالقول إن وجود تنظيم القاعدة في افغانستان له خلفيات “تاريخية” قديمة، فقاطعه المندوب الأمريكي قائلا في لهجة صارمة: “إن التاريخ يبدأ من هذه اللحظة، وفى هذه الغرفة”. ولولا أن الرئيس الباكستاني تطوع بنفسه وكشف عن هذا “النمط” من دبلوماسية الغرف المغلقة لتشككت في رواية نيويورك تايمز.

لكن الغريب أن تلك العبارات غير الدبلوماسية (والتي وصفها مشرف فيما بعد بانها وقحة) استطاعت برغم ذلك أن تحقق للإدارة الأمريكية نتائج دبلوماسية باهرة، اذ ارتعدت لها فرائص الحكومة الباكستانية فتخلت بالفعل عن ترددها الأول، وانخرطت بكامل مخابراتها وجيشها خلف الإدارة الأمريكية حتى تم تحطيم طالبان وأفغانستان معا، ولو لم يكن “ارميتاج” يعرف ذلك لما قال ما قال، فهو وفريقه في الخارجية يدركون على الأقل ثلاثة أمور أساسية عن الجهة التي يخاطبونها: يدركون أولا أنهم يخاطبون مدير جهاز المخابرات، وهو موقع لا يستطيع صاحبه أن يعقد مؤتمرا صحفيا يكشف فيه عن شيء مما قيل له، ثم انه جهاز موصول برئيس الدولة، فاذا استطعت أن تخيف رئيس الجهاز فان ذلك الخوف سيصل مضاعفا الى رئيس الدولة، ويدركون ثانيا أنهم يخاطبون نظاما عسكريا منكفئا على نفسه لفقدانه الشرعية التي تشده الى محيطه الشعبي، ونظام مثل هذا لا يستطيع أن يكشف لشعبه حقيقة ما يقال له في الغرف المغلقة، اذ أن قوته، بحسب اعتقاد قياداته، تكمن في تغطية مثل هذه الأمور وصرف الأنظار عنها تماما، وهم (أقصد طاقم الإدارة الامريكية) يدركون ثالثا أنهم يخاطبون نظاما يعتمد عليهم اعتمادا كبيرا في عتاده العسكري ونبضه الاقتصادي. ونظام كهذا عادة ما يكون “سميك الجلد” لا تخدش له الكلمات حياء أو تجرح له كبرياء. والا، فلو كان الاقتصاد الباكستاني يستطيع أن يستغنى عن الدعم الأمريكي لمدة عام واحد، أو كانت الحكومة في باكستان منتخبة موفورة الشرعية، أو كان على رأس الوفد الباكستاني وزير الخارجية أو رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان بدلا عن مدير المخابرات لما استطاع “ارميتاج” أن يستخدم تلك العبارات الغليظة الفظة. ولكن “ارميتاج” وفريقه يعرفون تفاصيل “الخريطة النفسية” للمخاطبين، ويفضلون التعامل مع أمثالهم، ولا يغرنك حديثهم عن الديموقراطية.

ثم قلت في نفسي إذا كانت باكستان ذات الثقل النووي والموقع الاستراتيجي والصداقة الحميمة مع الولايات المتحدة تُهدد بالنفي الى العصور الحجرية، فتخاف مثل ذلك الخوف، فكيف يكون حالنا نحن الدول الصغيرة الفقيرة التي لم تزل بحسب اعتقادهم تعيش في أحضان العصر الحجري ذاته، بماذا يا ترى يهددون وزراءنا ومديري مخابراتنا حينما يلتقون بهم في الغرف المغلقة؟ انني بالطبع لم أشهد مثل هذه الاجتماعات “التاريخية” ولا أتمنى ذلك، ولكن دعني أفسح المجال للسيد محمد ابراهيم كامل، وزير خارجية مصر الأسبق الذي رافق الرئيس السادات في مفاوضات كامب ديفيد ثم استقال بسببها يروى لنا بعض مشاهداته (نشرت مذكراته عام 2002) يتحدث محمد ابراهيم كامل عن مخاوفه فما يتعلق باللقاءات “المغلقة” بين الرئيس السادات ووايزمان وزير الدفاع الإسرائيلي، فيقول: “كنت أشعر بخطورة كبيرة في أن يكون للعدو الإسرائيلي منفذ مباشر الى ما يدور في فكر الرئيس وما يعتمل في أعماق نفسه، وما أخطر من أن يكون متاحا لوزير الحرب الإسرائيلي أن يقابل الرئيس المصري ويختلى به في عقر داره، في جو من الألفة والود تظلهما مظلة الصداقة، ويدور حديثهما تحت شعار تحقيق السلام والأمن، فيقضى معه الساعات الطوال يسأل ويجيب ويحكى ويسمع ويضحك ويغضب، ويحاور ويداور ويراقب ويسجل، ثم يعود فيغذى الكومبيوتر الإسرائيلي بكل ما رأى وسمع”. أي أن السيد وزير الخارجية الأسبق كان يتخوف من عملية “اختراق” اسرائيلية ليس على مستوى العمليات العسكرية ولكن على مستوى الأفكار والتصورات، وكأنك تظن أن هذه الحالة تمثل خروجا على نظرية “الثور والجزار” التي استنبطناها من الحالة النميرية، اذ لم تر هنا “مخروقة” تكسر أو رأسا يضرب، ولكنك تعلم أنه ليس من الضروري في كل الأحوال أن تكسر المخروقة وأن يضرب الرأس، اذ أن بعض “الثيران” تسعى بأرجلها الى الأهداف التي يحددها الجزار، وترقص على الأنغام التي يعزفها لها. ومع مرور الوقت وتوالى الأحداث، يقول السيد محمد ابراهيم كامل، ومع الملاحظة والتجربة وصلت الى يقين بأن حصيلة السلسلة الطويلة من اللقاءات الثنائية التي كان السادات طرفا فيها، كانت من أخطر العوامل التي أدت الى تآكل مركز السادات وتدهوره، حتى أنه عندما عبر بوابة كامب ديفيد كان مفلسا عاريا مكبلا لا يملك حراكا بسبب ما انفلت به لسانه داخل الغرف المغلقة من تنازلات وتجاوزات وتعهدات الواحد بعد الآخر، وفى لقاء وراء لقاء حتى كتف نفسه وبدد ما كان معه من أرصده، وكانت النتيجة أنه لم يجد أمامه مفرا من التوقيع على اشهار افلاس مبادرته” وهذا يعنى باختصار أن هناك نوعا من الرؤساء (أو وزراء الاقتصاد أو مديري الاستخبارات) يمثلون مناجم من الذهب للدول الكبرى، تسيطر على الواحد منهم فتتم لها السيطرة على شعب بأكمله.

وكأنك تقول لي ثانية: وما الغضاضة في أن يجتمع رئيسان اجتماعا مغلقا؟ أو يجتمع مدير المخابرات مع وزير الدفاع؟ أليس هناك من الأمور ما هو في غاية الحساسية والخطورة بحيث لا يمكن التحدث فيه الا على انفراد؟ وأقول نعم، ولكن ينبغي في مثل هذه الحالات أن يكون المدير أو الوزير أو الرئيس حافظا حاذقا أمينا، يدون ما سمع وما قال وينقله الى معاونيه ومستشاريه، حتى يطابقوا بين ما قيل في الغرفة المغلقة مع ما هو مرصود في السجلات الموثقة أو مثبت في الواقع المشهود، فيتم فرز ما هو حقيقة عما هو مجرد انطباع، وما هو تهديد خفى عما هو مزاح سخيف، وما هو وعد صادق عما هو مجرد مجاملة، وبهذا يكون الوزير أو الرئيس جزءا من “فريق” وطني مهني يعمل بصورة مؤسسية، فاذا ما داخله خوف أو خيانة أمكن استكشاف ذلك وازيح عن الموقع قبل فوات الأوان، وبدون هذا ستتحول الوزارة أو الرئاسة الى “ضيعة”، وستكون الأمة كلها مرهونة بانطباعات الرئيس ومدير مخابراته، أو بتخوفات أحدهما الشخصية وارتباطاته غير المرئية وأوهامه وجنونه.

ولهذا نلاحظ أن معظم الرؤساء والوزراء في بلداننا يغادرون مواقع المسئولية (أو يزاحون عنها) دون أن تكون لأحدهم شجاعة الرئيس النميري فيكشف لأحد أصدقائه عما تلقى من “لكمات” في الظلام، أو شجاعة الرئيس الباكستاني فيترك “مذكرات” خلفه، ليس لأنه لم تكن توجد حوادث تستحق التسجيل طيلة عهودهم المجيدة، ولكن لأن معظمهم يتصرف بحسب العقلية السائدة بين أعضاء العصابات والجماعات السرية التي لا يستمر بقاؤها السياسي الا بطمس الوثائق واتلاف المذكرات ومحو الذاكرة وتشويه التاريخ، مما يوضح لماذا أن كثيرا من المعلومات الأساسية عن الفاعلين السياسيين والحوادث المفصلية التي تؤثر على حاضرنا ومستقبلنا لا نستطيع العثور عليها الا في دار الوثائق البريطانية، أو في وقائع المحاكمات التي تنعقد بعد سقوط النظام السياسي، أو في المذكرات التي يتفضل بنشرها الأجانب. ولقد قرأت في صدر هذه الصحيفة ولما أكمل كتابة هذا المقال خبرا عن اجتماع مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة مع الصادق المهدى والترايى محمد إبراهيم نقد جاء فيه: ” وسط سياج محكم من السرية اجتمع مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الى السودان يان بروك نهار أمس برئيس حزب الأمة الصادق المهدى، والأمين العام للمؤتمر الشعبي الدكتور الترابى والسكرتير العام للحزب الشيوعي محمد ابراهيم نقد”. وبالطبع لا أستطيع أن ألوم أيا من ثلاثتهم على “السياج المحكم من السرية”، فتجاربهم المريرة مع الأجهزة الأمنية أورثتهم شيئا من طباع تلك الأجهزة، لأن المغلوب، كما يقول ابن خلدون، مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وأحواله وعوائده، فليجتمع رئيس أي حزب مع من يشاء، ووفقا لأى درجة من السرية يريد، على أن يدون ما قال وما قيل له في مفكرته ثم يتكرم بنقله بأمانه الى أعضاء حزبه، أما نحن فسننتظر مذكرات السيد برونك والتي لا أشك أنه قد فرغ من مسودتها، والتي لا أشك أنها ستحتوى على فصل عن دارفور يتضمن سردا لما دار في اجتماع الأمس الذى أحيط بسياج من السرية. ولا أقول هذا من فراغ، فقد اعتدت أن أجد كثيرا من المعلومات “والأسرار” عن مفاوضات أبوجا الأولى وأديس أبابا ونيروبي في مذكرات الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر ومساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية كوهين والسفير الأمريكي الأسبق في الخرطوم، كل هؤلاء قد التقوا مع الترابي والبشير والصادق(وربما نقد) “وسط سياج محكم من السرية”، وشربوا الشاي وضحكوا، ولكنهم كانوا أيضا يرهفون السمع ويدققون النظر، يثيرون المخاوف ويحركون المطامع، يعطون الوعود ويلوحون بالعقوبات، ثم اذا غادروا بلادنا وضعوا كل ذلك على الورق، فيذهب بعضه الى مراكز التحليل والقرار وبعضه الى دور النشر، ولن يبقى في دائرة الجهل والظلام الا نحن، المواطنون/الرعية ننتظر اخواننا وسادتنا ومديري أمننا واقتصادنا الذين كانوا في الغرف المغلقة ليقوموا “بتنويرنا” (وانى لأمقت هذا الاصطلاح)، وهيهات، فبعض منهم يتلف عمدا وقائع الجلسات حيثما وجدت، وبعضهم يكره فكرة المذكرات، وبعضهم يعتقد أن ما يدور في الغرف المغلقة ملك خاص به، لن يرويه الا لزوجاته وأحفاده حينما يبلغ مرحلة الخرف ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اليتجاني عبد القادر

أكتوبر 2006

ملحوظة: نشرت هذه المقالة في أكتوبر عام 2006.ولا أدرى ما حدث لرؤسائنا في العشر سنوات التي تلت؛ غير أنى أرى كثيرا منهم يترنح، مما يعنى أن بعضا منهم قد كسرت “مخروقته” بالفعل وبعض ينتظر. ولا قوة الا بالله.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.