آخر الأخبار
The news is by your side.

بوسريف: نيرودا ودرويش والنواب ومطر شعرهم انتهى ولم يعد يقرأ

لكم شعركم ولنا شعرنا

لكم شعركم ولنا شعرنا

بقلم: محمد بنميلود

وأنا نازل عبر الصفحة الرئيسية للفيسبوك هذا اليوم وجدت كثيرا من الردود لكتاب ومثقفين مغاربة على مقال كتبه الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف. ردود شديدة اللهجة في أغلبها. دفعني هذا الأمر إلى البحث عن مقاله الذي وجدته بصعوبة لأن بوسريف ليس صديقا لصفحتي ولست صديقا لصفحته. قرأت المقال وبحثت أكثر عن ردود أخرى كتبها آخرون لتكتمل أمامي الصورة.

ما لاحظته هو أن الحسابات الشخصية كثيرا ما تتحين هفوة أحدهم لتجد سببا مبررا للهجوم عليه وهذا طبعا لم ولن يخدم الثقافة ولا الشعر في شيء اليوم ولا غدا ولا أمسا. حسابات نعرفها جميعا لا علاقة لها بالثقافة وهي لا تخصني هنا.

انطباعي عن المقال لم يكن سلبيا البتة ببساطة لأني أومن بحرية الرأي والتعبير والتنظير والنقد حتى وإن كان هلوسات. ما يكتبه شخص يظل رأيا خاصا به دون غيره. الصدور الضيقة كانت دائما أسوأ من النقد الرديء ومن الشعر الرديء. لعل ثقافة الإجماع الفقهي تسيطر أيضا على ثقافتنا ومثقفينا للأسف، فإما أن تكون معنا أو أن نكون ضدك. بل لم أجد في أغلب ما كتبه بوسريف غضاضة. خصوصا فيما يتعلق بالانتقال من الشفاهي في القصيدة إلى الكتابي ومن الخطابة إلى الوعي بالعالم وبضرورة قطع الشعر مع التعريف التقليدي للشعر لاستبداله بتعريفات حديثة تلائم عصرنا بتراكماته الرهيبة وتعقيده وكثافته. أليس الشعر أداة معرفية أساسية لاكتناه الذات والعالم ولاقتراح بدائل فكرية إنسانية عميقة تفيد في واقعنا؟ في بناء أرواحنا وفي سعينا الحثيث إلى التحرر والحرية؟ إلى الخلاص ربما؟ كيف تكون المعرفة معرفة إذن إن لم تنتصر للفلسفة والعلوم والمعارف والفنون وتمتح منها؟

لكن.

من هو بوسريف في مملكة الشعر والنقد؟ إنه كغيره من شعراء ونقاد وكتاب لا يزيد عنهم بشيء. أن يعطي رأيه في شعر أحمد مطر أو في مظفر النواب أو درويش أو السياب أو غيرهم فذلك لا يتجاوز أن يكون رأيه المتواضع وسط آلاف الآراء المختلفة. تقديس الأسماء في كل حال أسوأ من تدنيسها (أقصد هنا تقديس أحمد مطر أو محمود درويش أو مظفر النواب). هؤلاء الشعراء الذين تحدث عنهم بوسريف لا يحتاجون عرّابين للدفاع عنهم، كدفاع المؤمنين الرديئين عن الآلهة، فتجاربهم الشعرية تدافع عنهم (بواقعية وليس بمثالية) أمام التاريخ وليس داخل الفيسبوك حتى وإن اختلفنا مع بعضها أو نفرت ذائقة بعضنا من بعضها الآخر.

أليس من حق بوسريف الكتابة والتعبير عن آرائه؟ هل السلوك الثقافي الجيد أمام شيء كهذا هو إرسال جيش الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثقافي في اتجاهه لاغتياله؟

ما حز في نفسي هو أن أغلب ما قرأته من ردود لا يعدو أن يكون ردة فعل عاطفية كسولة. عوض نقاشه ودحض ما ذهب إليه وتقويمه وتصحيح أخطائه إن كانت أخطاء حسب تصور كل واحد.

على سبيل المثال وبعيدا عن القذف والشتم والتجريح بدت لي أخطاؤه (حسب نظري) واضحة للغاية كطرائد لا تجيد التخفي. هذه الأخطاء بذلك تجعلني أشك في تأثيره النقدي من أساسه، وبالتالي كيف سيستفزني رأي شخص أحترمه كشخص لكن مشروعه النقدي إن استحق صفة المشروع لا يعني لي شيئا أمام وعيي المغاير بالشعر. دون أن يكون هذا انتقاصا منه، بل ما أومن به هو تعدد الرؤى واختلافها وتضادها وتصارعها أيضا دون أن يكون ذلك عيبا أو إقصاء.

ما هي هذه الأخطاء؟

= سؤالي لبوسريف مثلا هو: لماذا ذكرت مطر والنواب ودرويش ونيرودا فقط؟ ما هو المعيار النقدي أو المنهج أو الآلية التي تم بها اختيار هذه الأسماء دون غيرها أو دون إضافة عشرات الأسماء إليها؟ لا شك أنه المنهج العشوائي. خصوصا أن هذه الأسماء تختلف فيما بينها اختلافا كاملا ولا تجتمع حسب تصور بوسريف سوى في كتابة الشعارات السياسية. يبدو جليا أن هذا محض انطباع ذاتي مؤطر بالتعميم والاختزال بعيد كل البعد عن رصانة النقد. النقد الذي يفترض انفتاحا واستيعابا لكل التجارب قديمها وجديدها بعيدا عن أي تطرف أو تقوقع حلزوني ضيق أو إقصاء. تطرف أقبله من شاعر وليس من ناقد.

= ما يطرحه بوسريف من بدائل متجاوز للغاية فقد سبقه إليه كثيرون، وقراءته لا تفيد شيئا في إنتاج الشعر، لكن العلم به أفضل من جهله. ثم وهذا هو ما يحز في النفس أنه نقد لا يتجاوز أن يكون “عربيا”، علما أن الشعر عالمي وما تنتجه حركية الشعر اليوم في العالم مغاير وكثير وشديد التباين غير خاضع لنظرية مدرسية أو أخرى. إننا اليوم في حاجة ماسة إلى الخروج من هذا الخندق: العربي، في الشعر والفن إلى العالم بأسره بإنتاجاته العديدة ولغاته المختلفة وطروحاته المغايرة. بل كيف يقول بوسريف هكذا وبكل سهولة: الشعر العربي. هل سليم بركات الذي استشهد به مثلا يكتب شعرا عربيا؟ وهل سليم بركات عربي؟ وهل محمد خير الدين مثلا الذي كتب بالفرنسية كاتب فرنسي؟ إذا كان بوسريف يحب تدقيق المصطلحات النقدية كما جاء في مقاله فتوصيفه لأي شعر مكتوب بالعربية بالعربي هو توصيف قومي أيديولوجي سياسي لا يختلف في شيء عن قصائد أحمد مطر. أليس الأفضل أن نقول: الشعر المكتوب بالعربية؟

ثم ألم يحن الوقت لإعادة النظر في هذه النظريات التي يعتقد بوسريف أنها حداثية رغم أنه رفقة آخرين ينظّرون لنفس الشيء منذ سنوات طويلة. تقدم الشعر إلى الأمام بينما ظلوا وضلوا مخلصين لتنظيرات قديمة لم تستطع اللحاق به ولا تتبعه ولا استكناه أسراره المخاتلة.

= يريد بوسريف القطع مع الخرافة والأسطورة والغيبيات والخطابة والشفاهي والحكائي.. لكنه لا يريد القطع مع الانتماء إلى الثقافة العربية. أليست الثقافة العربية في أغلبها شيئا آخر غير ذلك؟ يرفض بوسريف الهايكو المكتوب بالعربية بحجة أنه يشبه الهايكو الياباني أو أنه يعيد نسخه. يطلب استبداله بالبيت الشعري العربي التقليدي الواحد. حفاظا بذلك على الانتماء العربي. يا لسخرية النقد. بالأحرى يا لنقد السخرية. ما الفرق في نظر بوسريف بين الثقافة اليابانية والثقافة العربية في علاقتهما بالمغرب الأقصى الشقيق؟ بالأحرى في علاقتهما بالشعر؟ هل عاش المغاربة ثقافة قريش وشعاب مكة لنطلب منهم تقليد البيت الشعري العربي وليس الياباني؟ ثم وهذا هو بيت القصيد: لعل بوسريف لا يعلم أن انتشار ظاهرة كتابة الهايكو الياباني هي ظاهرة عالمية وليس مغربية فقط أو مغاربية أو عربية. هناك هايكو فرنسي وإسباني وسويدي وأمريكي إلخ.. الأمر الذي يعني أن بناء قصيدة الهايكو قابل لذلك الانتقال الكوني دون تأشيرة إلا حين يرفض السلفيون ذلك. عكس ذلك: هل سمعتم يوما عن لغة أخرى تكتُب بتأثير من البيت الشعري العربي؟ هل بنية الشعر العربي التقليدي قابلة لأن تصير عالمية؟ هل شعر المتنبي مثلا أصبح عالميا؟ أترك الجواب هنا لبوسريف.

= تحدث بوسريف في مقاله أيضا عن انتقال الشعراء من الشعر إلى الرواية باختزال وتعميم واستسهال نقدي يصعب علينا احترامه بل يصعب علينا عدم الضحك بعد قراءته. سوى أني فضلت الاحترام وعدم الضحك رغم صعوبة ذلك. يطلب بوسريف من الشاعر أن يظل شاعرا فقط. علما أنه يخبرنا أن القصيدة ليست هي كل الشعر بل ليست سوى شكل واحد من أشكاله. ثم يضيف الكتابة الشعرية التي ينظر لها إلى تعريفات الشعر وبعد ذلك مباشرة يغلق القوس ويغلق الباب وهو عابس. هو نفسه الذي يدعو إلى جر الفنون الأخرى إلى الشعر لإغنائه منظرا بذلك لإلغاء الحدود بين الأجناس. هو نفسه يسقط في مغالطة نفسه ومناقضتها بسرعة الشهب وفي نفس الحوار برفض ذهاب الشاعر في اتجاه الرواية أو المسرح أو السينما. أليست السينما شعرا يكتب بالصورة والصوت؟ هل أصبح بوسريف سلفيا بسرعة البرق وتقليديا محددا لنا الشعر في الكلمات فوق الأوراق فقط دون أشكال تعبيرية أخرى؟ ثم: هل الرواية حتى في التزامها “بقوانين الرواية” ليست شعرا؟ لا أتحدث هنا عن اللغة الشعرية بل عن الشعر ك: “روح”. أليست رواية مائة سنة من العزلة على سبيل المثال لا الحصر شعرا محضا؟

= ما يذهب إليه بوسريف دون تراجع وبإيمان قوي ومتعصب يفوق إيمان العجزة هو أن كل شعر سياسي ليس بشعر. الشعر في نظره هو حفر مستمر في الذات لمعرفتها ومعرفة أعماقها وأسرارها. إنه أداة حفر وجودية عميقة ومنعزلة لا أداة سياسية شعاراتية سطحية. كلام جميل لا أناقضه. سوى أني أطرح هنا سؤالا ساذجا؟ أليس الجسد وجودا؟ أليست معرفة الواقع معرفة وجودية أيضا؟ أم أن بوسريف ينظّر لشعر التصوف دون أن يعي ذلك؟ أليست السياسة جزءا من وجودنا؟ حين يحاول بوسريف إخراج الشعر من معمعة الواقع ودفاع الشعر عن الروح وعن الجسد يتقوقع بعيدا عن الواقع وعن الفعل في الواقع تاركا المجال بذلك للسياسيين أن يفعلوا في البشر ما يريدون.

هل يعتبر شيء كهذا لا سياسيا؟ طبعا لا. إنه يشبه عدم التصويت الذي يعتبر صوتا في السياسة ويغير نتائج الانتخابات. إن صمت المثقفين خيانة دون شك. ليست خيانة للشعب. بل خيانة للشعر وللفن وللثقافة وللمعرفة وللإنسان. هل الإنسان عند بوسريف أقل قيمة وقداسة من الشعر؟ هل الشعر مقدس؟ أليس الشعر مجرد أداة في يد الإنسان؟ أم أننا مازلنا نضخ تلك النظرة الدينية الباطنية الغنوصية الميتافيزيقية في الشعر؟ كيف يُنهب المغرب أمام مثقف كبوسريف بينما يظل هو منشغلا بالأطاريح العميقة الغامضة وغير الملموسة للشعر وللوجود؟ لعل الخوف من عصا المخزن هو ما أوحى إلى مثقفين كثر بتنظيرات هلامية وزئبقية واستمنائية للشعر تحاول فصل الفن عن الواقع. هل ستصل هذه التنظيرات البوسريفية مثلا إلى الإحاطة بشعر شاعرة عالمية عظيمة اسمها

شيمبورسكا؟ أشك في ذلك. هذه النبية التي تقول: القصائد غير السياسية إنها سياسية أيضا.

لكن حين تكون موظفا عند نظام مستفيدا من منصب أو امتياز أتفهم الأمر ولا أطالب أحدا بالتضحية بمنصبه أو بأسرته أو بمعيشته من أجل الشعر والإنسان، ببساطة شديدة لأني أقدس حياة الفرد أكثر من تقديسي للشعر. سوى أني أفهم بالتوازي مع ذلك أن الشعر كما النقد كما باقي الفنون لا يمكن أبدا أن تكون حقيقية وعميقة وإنسانية بشكل كوني في بلادنا في ظل الخوف والاستبداد والفساد الثقافي والجهل الذي يأخذ شكل ثقافة..

أخيرا: أليس من حقنا أن نقول لكم: لكم شعركم ولنا شعرنا؟

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.