آخر الأخبار
The news is by your side.

الجيل اليساري الذي ” اخترع ” الشعب

الجيل اليساري الذي ” اخترع ” الشعب

بقلم: عبد الله علي إبراهيم

(في كلمتي أمس ندبت نكد حظنا من انقلاب 19يوليو 1971 لذهابه بصفوة الجيل اليساري للأربعينات قتلاً شائناً، أو بالانقسام على الحزب. وهو جيل الفتوح وأعنى به من فتح جبهات العمل الجماهيري بالنقابة والاتحاد والنادي وغيرها وسط العمال والمزارعين وسائر الكادحين. وكانوا في ميعة الصبا زعيمهم لم يفت يتجاوز العشرين عاماً بكثير. ولم يتأخر أحد منهم حين سألهم الحزب الخروج للفتوح).

وطيب خاطري كثيراً أن سمعت، وأنا أبحث عن كلمة عن ديننا لهم، لخطابات من اعتصام شباب أم درمان جنوب. وقلت سيرطب قبر رفاقي أن المعنى الذي سهدوا من أجله طلع كالزنابق في لغة هذا الجيل ورؤيته. لقد أحسنوا للوطن إحساناً كبيراً

وقع جيل صفوة الأربعينات من المتعلمين اليساريين بالذات بـ “قد قفة” التأرخة للفكر السوداني حين أهملنا ذكر مساهمته المخصوصة وأدمجناه جبرةً بصفوة الثلاثينات، أو تخلصنا منه عجالى إلى تعبيرات جيل الستينات الفصيحة. وجيل صفوة الأربعينات عندي أخطر وأهم. فهو الذي “اخترع” الشعب في حين برعت صفوة الثلاثينات والستينات في خطاب الهوية تمضغه في حلقاتها الذكية المثقفة. فقد جعلت صفوة الأربعينات همها تحويل أهل السودان من رعايا للنظار في القبائل والمشائخ في الطرق إلى مواطنين في مجتمع حضري مدني قوامه النقابة والاتحاد والنادي الرياضي الثقافي والزاوية.. إلخ.

نبهني إلى خطر جيل الأربعينات اليساري كتاب الأستاذ كامل محجوب المعنون “تلك الأيام”. وكان كامل قد تفرغ في عام 1952 للعمل الشيوعي بين مزارعي الجزيرة حتى أنشأ بينهم، بفضل طليعة شعبية من المزارعين من أمثال المرحوم الأمين محمد الأمين، اتحاد المزارعين المعروف. وكانت الإدارة الاستعمارية قد بخلت به وماطلت في الاعتراف به حتى اضطرها حزم حركة المزارعين وثباتها. ولم يكن خروج كامل بثقافته لتثوير غِمار الناس في 1952 هو خروجه الأول. فلم يبدأ كامل ماركسياً. فقد بدأ إسلامياً في حلقة سرية كرهت نضال “أفندية الخريجين” الصفوي وقررت أن تمد جسورها للشعب الحق من مزارعين ورعاة. فاستأجرت هذه الجماعة الإسلامية ساقية في منطقة جنوب كوستي في عام 1942 لتكون حلقة الوصل بين المتعلم والشعب. وقد تفرغ كامل للعمل في الساقية وهو بالكاد تخرج من المدرسة الوسطى. وكان للساقية حمار يركبه أهلها المتعلمون إلى سوق كوستي يبيعون حصادهم من الطماطم والبصل، ويشترون حاجاتهم من سكر وشاي. وكان أهل المنطقة من الرعاة يستغربون لأولاد المدن الذين رضوا العيش بينهم على شظف ومكابدة.

لم تصمد “يوتوبيا” كامل ورفاقه الإسلاميين. فقد كان دخلهم من الساقية محدوداً. ولم يكن عون الأصدقاء في كوستي وأم درمان، على سخائهم به، بكافٍ، فتلاشت هذه البؤرة الثورية غير أنها تجددت عند كامل في طوره الماركسي الذي بدأ بالتحاقه بالحركة السودانية للتحرر الوطني الشيوعية عام 1946 حتى تفرع بالحزب الشيوعي عام 1952. وقد بعثه الحزب ليكمل على نهج الماركسية المهمة التي بدأها عام 1942 وهو في عداد الإسلاميين. وقد نجحت مهمة كامل هذه المرة نجاحاً منقطع النظير. وهكذا ظلت ساقية كامل مدورة بغض النظر عن تداوله بين العقائد السياسية.

توقفت عند قصة ساقية كامل هذه ملياً وأخذتني أخذاً. تساءلت عن معدن هذا ذلك الحلم المؤرق والشاغل الغلاّب الذي اعتمل في كامل وجيله فأخرج علينا هذا الشعب الذي أصبح حقيقة ماكرة من حقائق السياسة في بلدنا. وتساءلت كيف شقت هذه الفئة القليلة عصا الطاعة على جيل سبقهم في مؤتمر الخريجين، تفرق أفراده أيدي سبأ حين انحل المؤتمر، وقبلوا أن يبلغوا الشعب لا كفاحاً بل عن طريق الطائفتين الرئيسيتين: الختمية والأنصار. وكنت قرأت كلمة لفاروق أحمد إبراهيم في أحد أعداد مجلة “الشيوعي، المجلة النظرية للحزب الشيوعي، يتفكر فيها أيامه تلك أيضاً ووجدت فيها نفس كيمياء الجيل: كسر الصفوية بالشعب. وقرأت نفس المعنى في ذكريات للمعلم المرحوم شورة. وسطع المعني في كلمة أستاذنا عبد الخالق في دفاعه أمام المحكمة العسكرية على عهد حكم الفريق عبود. فقد أمسك بقرون هذه الكيمياء حين فضح العوالم الشجاعة الذكية التي تنقدح في واعية الشباب وممارسته حين يلقى نظرية ثورة مستقيمة مثل الماركسية.

ربما يعرف البعض أن الرفيق المرحوم يوسف عبد المجيد “كمرات” عاد بالساقية الحلم والشوق إلى الشعب حين اختلف مع الحزب الشيوعي عام 1963، وظن بالحزب الرخاوة ونضال المدينة المجلوب بنظرية ونظرية. فبعد تأسيس كمرات والمرحوم الشامي للحزب الشيوعي، القيادة الثورية، مضى كمرات إلى جهة سنار وأنشأ مشروعاً زراعياً انتهزه جسراً إلى فقراء المزارعين والعمال الزراعيين. وتلك قصة أخرى آمل أن يجد من يكتبها.

كلما قرأت عن حيوات أفراد هذا الجيل اليساري الأربعيني تمحنت كيف يوصف هؤلاء الزهاد من طالبي الحق والحقيقة وأنصار المساكين بدارج الشتيمة والتبكيت الذي يكال للصفوة السودانية بواسطة الصفوة السودانية؟ كيف يوصف بالفشل من قطع دراسته، أو ترك وظيفته، ليبني للشعب منارات للوعي ومعالم على طريق “الوجود المغاير” الذي رنا إليه التيجاني يوسف بشير؟ وكيف يوصف بالأنانية من كان مثل كامل محجوب راتبه 50 جنيهاً من عمله كضابط لاتحاد المزارعين يتبرع به كله لحزبه. ولدى سفره لمصر يتبرع له زملاؤه بـ 40 جنيهاً ويفصّـل له زميل آخر بدلة.

ولعل أبلغ دقائق الكتاب تلك اللحظة التي التقى فيها كامل، كضابط لاتحاد مزارعي الجزيرة، بوفد من مزارعي مشروع أم هانيء بالنيل الأبيض الذين جاءوا يطلبون نصح ودعم اتحاد مزارعي الجزيرة في شأن من مظالمهم. وسرعان ما تعرف بعض أعضاء وفد أم هانئ على كامل الذي جاءهم “درفوناً” أجيراً سياسياً بساقية الجماعة الإسلامية. من أين يتسرب الفشل إلى أمثال كامل ممن ظلت ساقيتهم مدورة؟

اعتصام مزارعي الجزيرة يوم 29 ديسمبر 1953 للمطالبة بالاعتراف باتحاد المزارعين بديلاً للجنة المزارعين التي رتبتها سلطات مشروع الجزيرة والإنجليز. وكان كامل محجوب من وراء هذا الحراك التاريخي الذي طلبه صغيراً منذ 194 2.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.