آخر الأخبار
The news is by your side.

أهمية حوار القوى الدينية

عبدالحليم عباس

حول أهمية الحوار مع القوى الدينية و محدودية اللغة و الفكر الحديث

استمعت الى جزء من محاضرة مزمل فقيري و أ بوبكر آداب و شيخ سلفي آخر ، و الى جزء من خطبة عبدالحي يوسف.

أعتقد أولا أنه من الضروري على كل المعنيين بالشأن العام و قضايا الدين و الحريات مهما كانوا في أقصى النقيض الاستماع و متابعة هؤلاء الناس. السخرية و عدم الالتفات تعني أنك لن تفهم الخصم الذي تواجهه.

أعرف أن الكثيرين لن يضيعوا وقتهم في سماع مزمل فقيري أو عبدالحي يوسف، و يستبعدون إمكانية أي حوار. و لكني أعتقد بضرورة و أهمية ليس فقط متابعة الخطاب الديني المتشدد و الشعبوي في الوقت نفسه و إنما الحوار معه.

يجب أن يتم التكريس لثقافة الحوار الصريح و المتواصل، و أن لا يكون الأمر فقط عبارة عن استقطاب بين أطراف ترفض مجرد الاستماع لبعضها البعض. هذه القضايا في النهاية لابد من الحوار المستمر حولها و المستوى الذي يتم فيه الحوار ليس بالضرورة مستوى الدين.

هُناك أرضية سياسية يعترف بها حتى السلفيين يُمكن أن يتم في اطارها النقاش. الشيخ عبدالحي يوسف في خطبته ذكر أن القضية المهمة ليس لباس المرأة و لا الدين و إنما الصحة و التعليم و معاش الناس، و هو يلتقي هُنا في هذه النقطة مع آراء كثيرين من عامة الشعب و من بعض القوى الحديثة.

الساحة الوحيدة المفتوحة للنقاش حاليا هي الجامعات تقريبا. خارج الجامعات الحوار يكاد يكون منعدما، و تعيش القوى المختلفة في جُزر مختلفة معزولة و تخاطب فئات اجتماعية مختلفة و معزول بعضها عن بعض. و هذا يكرس لانقسام مع غياب تام للتواصل، و اذا جاءت لحظة و حدث تغيير مفاجئ ثورة مثلاً، ستكون هذه مشكلة كبيرة لأن التواصل و الحوار معدوم و تكون امكانية التفاهم صعبة و الوقت لا يسمح بها.

لقد جعلتنا وسائط التواصل بما اتاحته من حرية أن نعتقد بأننا يُمكن أن نطرح أي شيء و نقول أي شيء و سيتكفل المنطق أو منطق “التقدم التاريخي” بهزيمة القوى المحافظة و التقليدية حتى لا أقول الرجعية و المتخلفة. و لكن هذا وهم كبير ، صحيح أننا كأشخاص و كأفراد قد نجد أنفسنا أحرار في أن نقول ما نشاء و ندافع عن أفكارنا و آراءنا و يبدو الأمر كما لو أننا نتقدم على الوعي التقليدي، و لكن هذا مجرد وهم.

فالوعي ليس مجرد بناء فكري يُمكن تفكيكه بواسطة الأفكار فيتفكك و يتغير و يتطور ، و أنا هنا لا أفترض كما قلت سابقا بأن هُناك مهمة مقدسة اسمها “توعية الشعب” يقوم بها مستنيرون، لأسباب كثيرة من ضمنها أن “المستنيرين” أو من يطلقون على أنفسهم هذا الاسم هم جزء لا يتجزأ من عقلية المجتمع الذي يريدون تنويره و تحريره، فهم لم يهبطوا من السماء بالطبع، و بالتالي فإنهم قد يعبرون عن مشكلات المجتمع بشكل أكثر تعقيدا : مشكلة المجتمع في مرحلة تحول و انتقال، كلنا نعرف “مستنيرين” و “مثقفين” و “تقدميين” عبارة عن نُسخة هجينة تجسد أزمة المجتمع بأكثر مما تجسد الوعي، و هذه نقطة معقدة بالطبع و محل اختلاف.

الوعي ليس بناءً فكريا يقوم المستنيرون بالمعنى الذي تكلمت عنه في الفقرة السابقة بتفكيكه و احلال “الوعي الأفضل” محله. الوعي ليس مجرد قناعات يحملها الناس. فهُناك اللغة أولاً و هُناك أنظمة الفكر العميقة غير المعبّر عنها بشكل صريح، و هُناك القناعات التي لا تُوجد في شكل أفكار و حجج و لا حتى في شكل لغوي، و إنما توجد ضمن البناء الاجتماعي في شكل أقرب الى القواعد غير المكتوبة ، أقرب الى برتكولات يعمل وفقها الناس في المجتمع و لكنها ليست مُصاغة في شكل دستور أو وثيقة مكتوبة و لا أقصد بذلك الأعراف و التقاليد و أنما شيء أعمق من ذلك ، فالاعراف و التقاليد قد تكون صريحة حتى لو لم تكن مكتوبة، أنا اتكلم عن شيء غير موجود على مستوى اللغة و الفكر و لكنه موجود و شغال في المجتمع.

هُناك ناس كثيرين لا يستطيعون الكلام و لا الكتابة و لا الدفاع عن أفكارهم و سلوكهم ، و لكن ذلك لا يعني أنهم سيتغيرون قناعاتهم بسهولة، ليس لأنهم دوغمائيون، و إنما لأنهم ينظرون بشكل مختلف للأمور و إن كانوا لا يملكون القدرة التعبيرية كتابة و كلاما، وذلك ليس لانهم جاهلين ، فقد يكون الشخص متعلما و له قناعات لا يمكنه صياغتها و لا الدفاع عنها بشكل منطقي لأنها من الصنف الذي تكلمت عنه في الفقرة السابقة. و في النهاية من الذي يقول بأن القدرة على الكتابة أو البلاغة و الحجاج هي كل شيء !

أيها الناس، إن اللغة نفسها هي مجرد وجه واحد من أوجه الحياة ، و اللغة المتكوبة هي جزء صغير اللغة المستخدمة في الحياة، و اللغة المنطقية هي جزء صغير من اللغة المكتوبة. هناك عالم كامل خارج ليس فقط حدود الكتابة و المنطق و إنما خارج حدود اللغة نفسها.

الفكر الحديث و الذي يسعى الى تطوير المجتمع يمتلك تقريبا أداة واحدة و هي اللغة العالمة كما يسميها البعض، لغة الفكر و الفلسفة و السياسة القادمة من الغرب ، في مجتمع يتكون من أبنية مركبة فيها ما هو لغوي و ما هو غير لغوي.

التدافع سيتستمر بكل تأكيد هُناك عوامل متعددة تعمل على تغيير المجتمعات و لكن ليس كلها يقود الى نفس الاتجاه و لا تقف كلها في صف فكر معين أو في صف ثقافة معينة، على الأقل في حدود الحياة القصيرة التي نعيشها جميعنا الآن و التي تعنينا بشكل مباشر و جدي، و لا اتكلم هُنا عن مسيرة التاريخ كما يفكِّر فيه فيلسوف مثل هيجل أو ماركس، لأن المقياس الذي يفكرون به هو مقياس كبير يُعنى بفترات زمنية طويلة.

هذه أمور يجب اخذها بعين الاعتبار فيما يتعلق بالتغيير و الحوار في المجتمع.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.