نهاية مأساوية لمثقف عام…!!
نهاية مأساوية لمثقف عام…!!
بقلم: حسن خضر
قدّم جورج طرابيشي خدمة هائلة للثقافة العربية في مشروع بعنوان “نقد نقد العقل العربي”. وقد أراد لمشروعه هذا أن يكون قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري “نقد العقل العربي”. وفي معرض تسويغ الدافع، قال إن الكثير مما يرد لدى الجابري من مقتطفات، وأفكار، تُستخدم لبلورة فرضية بعينها، أو تعزيزها بمرافعات قوية، ليست سوى مقتطفات مُنتزعة بطريقة تعسفية من سياقها الأصلي، ومُستخدمة بما يُخالف المقاصد الأصلية لأصحابها. وبناء عليه، أعاد طرابيشي النظر في كل مراجع الجابري، وبرهن على ما أصابها من اختزال وتلفيق وتشويه.
هذا عمل مُدهش، بالتأكيد، ولكن إنجازه يستدعي إرادة لا تلين، وتفرّغاً على مدار سنوات طويلة. والواقع أن هذا ما يرد إلى الذهن، الآن، في معرض التعليق على “الغرام” المتبادل بين أدونيس والإبراهيميين. فقد سبق لكاظم جهاد، الذي لا يشكو ندرة المؤهلات والمعرفة العميقة، أن سلّط الضوء على مرجعيات أدونيس الشعرية في كتاب ذائع الصيت بعنوان “أدونيس منتحلاً” للتدليل على أن ما يبدو، للوهلة الأولى، نوعاً من التناص، ليس سوى إعادة إنتاج وتدوير لنصوص كلاسيكية أصلية تعرّضت للسطو.
يمكن تأويل أريحية أدونيس في التعامل مع النصوص الكلاسيكية بخفّة اليد، ولكن فيها ما يدل على معرفة واسعة بميراث العربية وآدابها، أيضاً، إضافة إلى هموم فكرية ونظرية أفردت له مكانة خاصة بين الشعراء، والمثقفين، منذ ستينيات القرن الماضي. وقد مارس، بهذه الصفة، إضافة إلى كتابة الشعر، والاعتراف به كشاعر كبير، دور المثقف العام، بالمعنى الحديث، الأوروبي للكلمة public intellectual، من حيث علاقته بالشأن العام، بوصفة داعية للتنوير، والقطيعة المعرفية، ومُجدداً لمشروع النهضة.
وبناء عليه، نشر مع خالدة سعيد، قبل عقود، سلسلة بعنوان “ديوان النهضة” قدّم فيها لعدد من “النهضويين” كمحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا، وحشر بينهم محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية. وفي مشروع يدل على طموح أكبر نشر قراءة نقدية للثقافة العربية بعنوان “الثابت والمتحوّل” (صارت أربعة أجزاء، وكانت في الأصل أطروحة جامعية) أراد لها أن تكون نظرية خاصة، وأداة فكرية، في تحليل النسق العربي ـ الإسلامي، ودينامياته الثقافية، علاوة على انخراطه الفاعل والعاجل في الشأن العام من خلال تعليقات وتأملات واظب على كتابتها في “الحياة” اللندنية على مدار سنوات طويلة.
وقد كان من الطبيعي، في حالته (وهي نادرة من حيث تضافر الهم الثقافي والنظري مع كتابة الشعر) أن يختلف عليه الناس. ومع ذلك، من سوء الحظ، بقدر ما يتعلّق الأمر بالثقافة العربية، ومن حسن حظ أدونيس، بالتأكيد، أن أحداً (في حدود علمي) لم يُعمل مبضع النقد في كتاباته النظرية، ومرافعاته الفكرية، على طريقة جورج طرابيشي في نقد ونقض مرجعيات الجابري، وكما فعل كاظم جهاد في محاولة للتميز بين التناص من ناحية، وإعادة إنتاج وتدوير نصوص كلاسيكية من ناحية ثانية.
وبقدر ما يمكنني الاسهام في كل سجال محتمل في هذا الشأن، فقد سبق قبل سنوات قليلة، وكنوع من حب الاستطلاع أن قارنت بين تقديمه، ومختاراته، لبن عبد الوهاب ضمن سلسلة ديوان النهضة، وكتاب “الوهابية” لحامد الجار أستاذ الدراسات الفارسية في جامعة كاليفورنيا، وحينها اكتشفت الفرق بين المُلفّق، والأستاذ العالِم، بين الباحث في الكلام الغامض والفاضي عمّا يحجب جهلاً بالموضوع، وبين صاحب المنطق، الذي لا يشكو الغموض، ولا خفّة اليد.
أطلق الناقد السعودي، الغذامي، في وقت مضى، صفات قاسية على أدونيس من نوع أنه “لا يفكر”، وأن “كلامه هراء”. ربما نجمت هذه الصفات عن ردة فعل غاضبة إزاء العلماني المُعادي لبلاده. ومع ذلك، تصلح الأوصاف نفسها في معرض المقارنة بينه وبين حامد الجار، في موضوع بن عبد الوهاب، في “ديوان النهضة” بالذات. لم يفعل أدونيس في مشروعه أكثر من إعادة إنتاج سوء فهم فظيع، وقع فيه مستشرقون وجواسيس ورحّالة غربيون، رأوا في “السلفية” ما يشبه عودة البروتستانتية إلى المسيحية الأولى. وبما أن الثانية هي التي افتتحت عصر الإصلاح الديني، ووضعت أقدام الأوروبيين على طريق الأزمنة الحديثة، فقد استنتجوا أن هذا مآل الأولى.
واللافت، في هذا الشأن، لا ينحصر في حقيقة أن الداعشية قد أطاحت بالمرافعة المذكورة وحسب، بل وفي حقيقة أن أدونيس نفسه قد انقلب عليها، أيضاً.
ففي محاضرة له في الرياض قال قبل أيام قليلة: إن ما “سُمي بعصر النهضة” وهذه عبارته، لم يكن “في المحصلة إلا استعادة من جهة، واستعارة من جهة ثانية”. لذا، وما زلنا في المحاضرة، دعا:
“إلى الخروج من الاستعادة والتكرار، والاستعارة التقنية، التي حوّلت العرب إلى أسواق ومستهلكين” وأكد: “أن الابداع.. لن يتحقق شعرياً وفكرياً إلا بقطيعة كاملة مع الاستعادة والاستعارة”
. ولم تغب عنه، أيضاً، ضرورة مديح لحظته الاستثنائية ومضيفيه بالعبارة التالية: ” أنتم الذين تنظرون إلى بلدكم كأنه عمل فني، وتحولونه إلى قصائد وتماثيل وموسيقى وعمران، وكل ما يزيد الحياة جمالاً”. لا أعتقد أن ثمة ما يستدعي التعليق، ولا أريد الكلام عن موقف أدونيس من الثورة السورية، فهذا ما استفاض آخرون في الكلام عنه.
المهم أن اللحظة الاستثنائية (في سياق إعادة التموضع السياسية والأيديولوجية، تحت ستار كثيف من التضليل، وبعد عقد من حروب الثورة المضادة، التي خرّبت بلاداً كانت عامرة بما فيها سوريا) تُحرّض على تأمل نهاية مأساوية لمثقف عام في مشهد يغار منه حتى أفضل كتّاب الكوميديا السوداء في العالم.