آخر الأخبار
The news is by your side.

كسلا تحتضر”: الحمى تفتك بسكان المدينة ..بقلم: محمد مصطفى جامع

محمد مصطفى جامع
كاتب سوداني مهتم بالشؤون الأفريقية

لطالما كانت مدينة كسلا “شرقي السودان” ملهمة الشعراء والمبدعين لطبيعتها الخلابة ومناخها المعتدل خاصة في شهور الصيف هذه التي تشهد فيها ولاية كسلا أمطارًا، كما يمنحها موقعها الجغرافي على ضفاف نهر القاش الموسمي وتحت جبل كسلا الذي اشتقت منه اسمها ميزات تفضيلية جعلتها إحدى الوجهات السياحية المفضلة لدى أهل السودان جميعًا.

ولكن خلافًا لكل الأعوام السابقة كان موسم الأمطار كارثيًا هذه السنة، ففي أواخر يوليو/تموز الماضي ضربت المدينة الشرقية أمطار غزيرة أدت إلى انهيار مئات المنازل في الأحياء الشرقية “مكرام وحلة موسى وامتداد شمال الحلنقة وامتداد الختمية الجديدة والشعبية”، كما تضررت بصورة جزئية نحو 10 آلاف منزل حسب بيان رسمي حكومي، ذلك بسبب مياه الأمطار والسيول التي تجمعت من المرتفعات المحيطة بالمدينة.

وما حدث في كسلا حينها كان نتيجة طبيعية لأمطار استمرت منذ الثالثة بعد الظهر إلى ما بعد منتصف الليل، لكن الحكومة الإقليمية تتحمل الوزر بحسب سكان محليين لأنها أنشأت طريقًا مسفلتًا جديدًا دون أن تجري الدراسات اللازمة وتقوم بتوسعة المجرى الرئيس لتصريف مياه السيول والأمطار، خاصة أن الفاجعة تزامنت مع اقتراب نهر القاش الموسمي من تسجيل مناسيب قياسية أعادت إلى الأذهان ذكرى اجتياح النهر الشاب المتمرد مدينة كسلا قبل 15 عامًا.

اعتراف حكومي.. إصابة 10935 شخصًا بالشيكونغونيا

قبل أن يستفيق أهالي ولاية كسلا من أزمة الأمطار والسيول وتجاهل الحكومة وأجهزتها الرسمية لفاجعة السيول وتدمير المنازل، وجدوا أنفسهم أمام كارثة أشد وأنكى بدأت منذ الشهر الماضي عندما استقبلت مستشفيات المدينة مرضى يشتكون من حمى مجهولة أخذت تفتك بأجسادهم.

وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الشيكونغونيا مرض فيروسي ينتقل إلى البشر عن طريق حشرات البعوض الحاملة لعدوى المرض ويسبب حمى وآلامًا مبرحة في المفاصل، ومن أعراضه الأخرى الآلام العضلية والصداع والتقيؤ والتعب والطفح الجلدي، وغالبًا ما يؤدي ألم المفاصل الناجم عن المرض إلى عجز كبير، غير أنه يستمر عادة لبضعة أيام أو قد يمتد إلى عدة أسابيع، وبالتالي يمكن للفيروس أن يسبب أمراضًا حادة أو تحت الحادة أو مزمنة.

وتؤكد الصحة العالمية أن وجود مواقع تكاثر حشرات البعوض الناقلة للعدوى على مقربة من مساكن الناس يشير إلى عوامل الخطر الكبرى المؤدية إلى الإصابة بالشيكونغونيا وغيرها من الأمراض التي ينقلها هذا الجنس من البعوض، وهو ما انطبق بالضبط على كسلا إذ خلفت السيول والأمطار بركًا كبيرة توالد فيها البعوض الناقل للمرض.

فحكومة الولاية قصرت في واجبها مرتين؛ أولًا عندما لم تتخذ تدابير عاجلة بتصريف مياه السيول وردم البرك والمستنقعات، كما لم تقم بالحد الأدنى وهو رش مياه الأمطار بمبيدات الحشرات للتخلص من البعوض الطائر، رغم وجود وزارة كاملة للصحة في الولاية لا ندري ما دورها بالضبط إذا لم تقم بالخطوات الوقائية البسيطة التي كانت كافية لتجنيب الأهالي كارثة المرض وتوفير الأموال التي تم إنفاقها فيما بعد لعلاج المصابين.

والي كسلا آدم جماع بدلًا من الاعتراف بوجود المعضلة الصحية منذ بدايتها والسعي لمحاصرتها أخذ ينكر ويحاول ضرب سياج من السرية حول المرض، وحتى بعد أن نجح الإعلام البديل في كشف الواقع الأليم بمدينة كسلا وما حولها اعترف الوالي بإصابة 10935 مواطنًا بالشيكونغونيا زاعمًا أن البعض سعى إلى تضخيم وتهويل الأمر لتصفية حسابات شخصية معه ومع حكومته، وكأن إصابة 11 ألفًا من مواطنيه أمر لا يستدعي القلق على الإطلاق!

شباب مواقع التواصل يجبرون رئيس الوزراء على زيارة كسلا

كعادة الحكومة السودانية لم تحرك ساكنًا منذ ظهور حمى الشيكونغونيا بكسلا، في مشهد أعاد للأذهان كارثة غرق 23 طالبًا في منطقة المناصير بالشمال كانوا يستلقون مركبًا متهالكًا لعبور الضفة الأخرى من نهر النيل تقع بها مدرستهم، بسرعة البرق تناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي الخبر الفاجعة والتقطته الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، فقد كان مشهدًا تراجيديًا ألّمَ كل من سمع به خاصة أن من بين ضحايا المركب 5 بنات لأسرة واحدة رحلن في اللحظة نفسها.

فاجعة أطفال المناصير دفعت زعماء دول شقيقة كالكويت وقطر ومصر إلى إرسال برقيات تعازي إلى الرئيس السوداني عمر البشير الذي لم يكن قد حرك ساكنًا عندما وصلته برقيات التعازي وكأنه لم يسمع بالكارثة، لكن البرقيات إلى جانب الغضب الشعبي الكبير أحرجا البشير ودفعاه إلى التوجه لمنطقة الكُنيس لأداء واجب العزاء بعد 3 أيام من وقوع الحادثة.

غرب السودان شهد فاجعة أخرى في سبتمبر/أيلول الحاليّ عندما لقي 21 شخصًا مصرعهم وأصيب 29 بجراح متفاوتة جراء انهيار جزئي لجبل في منطقة سمبلي غرب مدينة دربات برئاسة محلية شرق جبل مرة التابعة لولاية جنوب دارفور، وكالعادة لم تتحرك الحكومة السودانية للتدخل وإنقاذ المتضررين حيث وجدت حجة جاهزة هذه المرة وهي أن المنطقة تقع تحت سيطرة الحركات المسلحة، فلم تكلف نفسها حتى بالتواصل مع الحركات لضمان وصول منظمات إنسانية على الأقل من أجل نجدة المتضررين.

وعلى هذه الأساس يأتي التجاوب المتأخر للحكومة الاتحادية مع فاجعة كسلا، ولعل زيارة رئيس الوزراء معتز موسى للمدينة لم تكن لتتم لولا الضغوط التي مارسها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاشتاغ #كسلا_تحتضر.

والهاشتاغ المذكور التقطته القنوات التليفزيونية العالمية وخصصت له مساحات داخل نشرات الأخبار وفي برامجها المختلفة، على عكس وسائل الإعلام الرسمية في السودان التي شكلت غيابًا تعود عليه المواطنون في القضايا التي تهم الرأي العام، فقد أصبحوا يلجأون إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن قضاياهم.

غياب أدب الاستقالة عند المسؤولين السودانيين

إصابة 100 أو 200 من مدينة واحدة بوباء سبب كاف لأن يقدم الحاكم استقالته عن منصبه ويعلن جاهزيته للمحاكمة للمسؤولية عن التقصير، أما في الحالة السودانية فإن آدم جماع والي كسلا يرى أن إصابة قرابة 11 ألفًا من أبناء ولايته بحمى الشيكونغونيا أمر طبيعي لا يستدعي كل هذا القلق والتهويل.

يبدي الوالي تبرمه من نشر الشائعات والمعلومات التي يصفها بالمغلوطة، في الوقت الذي رفض فيه وزير الصحة محمد أبوزيد الإدلاء بأي إفادة لقناة “بي بي سي” العربية التي خصصت يوم أمس الأربعاء برنامج “نقطة حوار” لمناقشة القضية فقد أوضحت القناة أن المسؤولين السودانيين استعصموا عن الظهور وإيضاح وجهة نظر الحكومة بشأن ما تشهده ولاية كسلا من كارثة.

بل إن أحد نواب برلمان كسلا اتهم مخابرات دولة جارة بأنها تقف وراء انتشار الحمى التي تعرف محليًا بـ”الكنكشة”، والغريب في الأمر أن السلطات لم تحقق مع النائب في اتهام خطير كهذا، إذا صح فإنه يضع جهاز الأمن والمخابرات السوداني في موضع المساءلة والتقصير بأنه سمح لمخابرات دولة جارة بالتورط في تهديد الأمن القومي للبلاد، ولكن من الواضح أن تصريح النائب وجدته الحكومة شماعة ومتنفسًا عن الغضب الشعبي ناسية أن نظرية المؤامرة لم تعد تنطلي على أحد في هذا الزمن.

إصرار السلطات السودانية على إنكار الحجم الحقيقي للكارثة وعدم إعلان كسلا منطقة كوارث يشير – بحسب المعايير العالمية – إلى أن الحكومة قادرة على معالجة الوضع لوحدها وأن المنظمات العالمية لن تتدخل بإمكانياتها القوية لمواجهة الكارثة، رغم توارد أنباء عن انتقال المرض إلى الولايات المجاورة مثل القضارف والبحر الأحمر والعاصمة الخرطوم، وإذا استمر الحال كما هو عليه ربما يمتد المرض ويخرج عن نطاق السيطرة وقد تحذر دول المنطقة والعالم رعاياها من السفر إلى السودان، الأمر الذي سيكلف الحكومة كثيرًا وستجد نفسها أمام إصدار بيانات نفي لن يصدقها أحد.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.