آخر الأخبار
The news is by your side.

قيم إسلامية : الإستغفار

قيم إسلامية : الإستغفار

بقلم: د. هاشم غرايبه

لغويا، المصدر الذي يبنى من الفعل الثلاثي مسبوقا بالأحرف (ا س ت)، يعني طلب الفعل لذاته، فالفعل سقى تعني تقديم السقاية أما استسقى فتعني طلبها من الغير لنفسه، وكذلك استطعم واستجار واستفهم واستعلم ..الخ.

لذا فالاستغفار يعني طلب المغفرة لذات المستغفر، لكنه مصطلح مخصوص بطلب المغفرة من الله، لذلك فهو مصطلح اسلامي بامتياز، فلا يقال استغفر المتهم القاضي، بل يقال (استرحم) أي طلب منه الرحمة والرأفة بإلغاء العقوبة أو تخفيفها.

لهذا فالمصطلح مرتبط بالذات الإلهية حصرا، لأن المغفرة أوسع من المسامحة والعفو والصفح، ولا يملكها إلا من كان يملك الأمر كله، من مبتدئه الى منتهاه: منشأ الفعل وكيفيته وموجباته والنتائج المترتبة عليه ومبطلاته، وهذا ما لا يملكه من أحد غير الله، وأكد ذلك تعالى: “وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّه” [آل عمران]، لذا فالاستغفار لا يكون الا له.

من هنا كانت قيمة الاستغفار عالية، بل جعلها الله تعالى معيارا للتقوى، ودلالة على تعمق الإيمان، ومهما عظمت الذنوب وغلبت معاصي المرء على أفعال طاعاته، فمغفرة الله أعظم وأوسع دائما.

إن النتيجة الحتمية لتحقق المغفرة هي نوال الرحمة والثواب، لأن المستغفر هو من ندم على معاصيه وتقصيره في جنب خالقه، وأراد أن يعود الى الصلاح والاستقامة، فتاب وكره أن يعود الى ما كان عليه، فآلى على نفسه أن يصلح نفسه من الآن وصاعدا، لكنه يخشى أن لا يقبل الله ذلك منه، أوان لا تتمكن أعماله الصالحة القادمة من معادلة سيئاته الكثيرة، فيحبط عمله ويكون من الخاسرين، لذلك يأتي الاستغفار بمثابة عهد أمام الله أن يصلح أعماله القادمة، ولا يعود الى ما سلف من معاصي.

وماذا يريد الله من عباده غير الاستقامة والصلاح؟: “مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا” [النساء:147].

لذا فهو يفرح بالتائب، وبعودته الى جادة الصواب، لأنه غني عن معاقبته، وكريم لا يرد سائله، فتكون المغفرة غسيلا للمرء من عار خطاياه، فيعود نقيا كما أوجده الله أصلا.

وقد كلف الله تعالى نبيه الكريم بأن يبشر أمته بذلك بقوله: “قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” [الزمر:53]، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له” [حديث حسن].

على أن كرم الله وحفاوته بالتائب المستغفر لا تتوقف عند ذلك، بل لكي ينيله ثوابه العظيم، فهو إن علم فيه صدق النية، يكفر عنه سيئاته السابقة أي يقلب السيئة حسنة، ويضاعف قيمة حسناته وفق أعلى قيمة: “لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ” [الزمر:35].

من رحمة الله بعباده أن جعل الطريق مفتوحا طوال الوقت أمام الاستغفار، بل قدم الحوافز المغرية لسلوك تلك الطريق، بأن جعل العمل الصالح مفتاحا له، فقال صلى الله عليه وسلم: “وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا”.

على أننا نفهم عظم قيمة الإستغفار من قوله تعالى في سورة النصر: “فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا”، فقد بين تعالى لرسوله الكريم، أن شكره لله على نعمة النصر وفتح مكة تكون بوسيلتين: التسبيح بحمد الله والأستغفار.

فأن كنا نعلم أن التسبيح والحمد لزوم الشكر، نستدل أيضا أنه تعالى يعتبر الاستغفار من أعمال الشكر، لأنه ليس طلب المغفرة لنفع ذات المستغفر فقط، بل هو اعتراف بفضل المنعم، والمداومة على الاستغفار بمثابة التسبيح وذكر أنعم الله، بدليل أنه تعالى، ومع أنه قد غفر لرسوله الكريم صلى الله عليه سلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي أنه لم يبق عليه ذنب يستغفر منه، ومع ذلك فقد قال له تعالى “وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ” [محمد:19].

نستنتج أن الاستغفار عبادة وذكر، بل هو أم العبادات، وهو ميزة انفرد بها منهج الله، وليس له مثيل ولا نظير في المناهج البشرية.

وربما أراد الله تعالى بذلك إثباتاً آخر على أن الرسالة الخاتمة هي من عنده، وأنها هي منهج الله حقا، وصراطه المستقيم..

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.