آخر الأخبار
The news is by your side.

في معتقلاتنا رجال …. ولكن !… بقلم: أحمد بطران عبد القادر

في معتقلاتنا رجال …. ولكن !… بقلم: أحمد بطران عبد القادر

لم أكن مستبعداً أن تقوم السلطات الأمنية بإعتقالي في يوم ما ذلك لأنني لاحظت ضيق صدرهم ونفاد صبرهم تجاه حرية الصحافة والكتابة بصورة ملفتة للإنتباه وتفضيلهم أن تظل الحقائق محجوبة عن الجماهير التي فقدت السند والعضد من قبل أحزاب لاتجيد سوى الجلوس على طاولة الموائد لتقتات عرق وجهد المواطن الكادح الذي أنهكته الحياة في ظل نظام متقلب الأمزجة والسياسات التي تضر بالإستقرار النفسي والذهني والصحي والتعليمي والغذائي لشعبنا الكريم.

فتحول ولاؤها لإتجاهات جديدة تسعى للتغيير بصور جذرية جادة منها أحزاب وتحالفات تحمل رؤى وافكار ثاقبة للتغيير مثل حزبي الذي تحت التأسيس (السودان المتحد) الذي يدعو للدولة المدنية العلمانية الليبرالية الفدرالية في ظل نظام ديمقراطي تعددي ومرجعية دستورية .

ومثل أحزاب أخرى عريقة تعرضت كوادرها للإقصاء والتهميش والتغريب والتهجير القسري والإبعاد عن الوظائف العامة مهنية كانت أو سياسية وأصبح زمنها مستهلكا في البحث عن لقمة العيش إلا أنها ظلت تكابد وتكافح من أجل المواطن الكادح رغم ما أصاب مؤسساتها الحزبية من ضعف ووهن وإنشقاقات وإنقسامات فقد كيفت نفسها على العمل في هذا الواقع المزري وأبت إرادتها أن تغيب عن المشهد السياسي لانها تؤمن بضرورة وحتمية التغيير.

مثل الحزب العريق الشيوعي السوداني قائد حركة الإستنارة والوعي والمعرفة والصحوة في بلادي والذي صافحت زعيمه محمد الخطيب في المعتقل على عجالة كذلك مثل حزب المؤتمر السوداني الذي يؤمن بالديمقراطية ويمارسها داخل صفوفه ليقدم نموذجا تحتذي به أحزابنا السياسية القديمة ذات الرؤى التقليدية والجديدة منها ذات الرؤى الثورية العقلانية.

عندما إقتادوني الى المعتقل في منتصف ليلة 29/11/2017م كنت أشعر بالقهر والذل والعجز والمستقبل المجهول لكنني لم أكن خائفا ولا منكسرا لأنني على ثقة أني لم أرتكب جناية تخالف القانون إنما كان كل جهدي أن نستفيق من غفوتنا لندرك وطنا أحببناه أضحي يضيع من بين أيدينا وتفرقنا عنه شذر مذر, غير أني لم أكن أتوقع أن أمكث ما يقارب الأربعة أشهر في المعتقل بعيدا عن القضاء وسلطانه حيث القانون فوق الجميع لكنني لا أتعجب..! لأننا في زمن دولة المشروع الحضاري الإسلامي الذي ينشد العدل والخير لكافة الناس..!

 كان كل تفكيري وقلقي على والدتي العزيزة التي أجرت عملية جراحية لتوسعة الشرايين قبل أيام قلائل من إعتقالي ( يا رب كيف تكون صحتها ؟ وكيف تتحمل وقع المصيبة )؟ وهي إمراءة مسنة نالت من عافيتها الأيام ما نالت,كذلك كان يشغلني حال أبنائي وفلذة كبدي التلاميذ بالمدارس الأساسية ومذاكرتهم هل يعتنون بها؟ ومصاريفهم هل تكفيهم حتي عودتي؟ .

في أول مزار من الأسرة لي في المعتقل تبددت كل مخاوفي وزال القلق حيث علمت أن والدتي عادت إلى المستشفى وخرجت منها بصحة جيدة وأن إخوانا كراما ورفقاء نضال تواصلوا مع الأسرة وشدوا من أزرها وشاطروها أحزانها وأعانوها على نائبة الزمان بيد أن الأسرة الكبيرة كعادتها قامت بدورها تجاه أحفادها فلم يعوزهم شئ .

ومما خفف عني غربة المعتقل ووطأته أن كان بداخله رجال يحبون الوطن ربما أكثر مما أحب وقد قدموا زهرة شبابهم تضحية وفداء أن تقوم دولة العدل والحرية والمساواة في بلادهم ظلوا يترددون على المعتقلات دون كلل ولا ملل ينشدون الحرية لشعبهم والمستقبل الباهرا لبلادهم أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الزعيم /عمر المك عدلان ( الحزب الشيوعي السوداني) من أحفاد ملوك مملكة سنار صاحبة الرواق فقد كان ذو رؤية دقيقة متماسكة لا تهزها العواصف ولا تغيرها الضغوط تناول لنا مسيرة النضال لأجيال مضت لا تؤمن بدولة العسكر الشمولية والإستبداد كما قدم لنا محاضرات قيمة عن نشأة المملكة السنارية التي كانت تحالفا وطنيا خالصاً حفظ السودان موحدا لقرون  تحت إدارة فيدرالية وسلطات مؤسسية وقضاء مستقل .

كما أخبرنا أنهم كوراث للتاريخ المجيد للمملكة السنارية الفدرالية لا يهتمون كثيرا بمباحث أكاديمية ذهب مؤرخون فيها إلي أن أصل الفونج ( أموي أو نوبي أو زنجي) لكنهم يرون ان إنسانا سودانيا أقام دولة مدنية فيدرالية سابقة لحضارة الغرب متمثلة في فيدرالية الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن رجال في معتقلاتنا المهندس المهذب الخلوق الأنصاري يوسف عطا المنان الذي تحدث لنا عن برنامج الخلاص الوطني وضرورة وحدة العمل المعارض ورؤية حزب الأمة القومي للتغيير كما غاص بنا في سياحة تاريخية عن الثورة المهدية التي وحدت اهل السودان تحت راية العدل والحرية وأنها كانت ثورة تحررية في زمن كان عالمنا العربي والإسلامي يغط في نوم عميق تحت وطأة الإستعمار والتخلف والجمود الا أنه أطلق سراحه قبل أم يجيبنا عن هل أن المهدية نجحت كثورة وفشلت كدولة ؟ كما يذهب البعض لذلك غير أننا أستفدنا منه أدبا وعلما جما قبل ان يتذوق طعم الحرية هو وبعض من طلابنا كأول فوج يطلق سراحه من المعتقلين السياسيين بعد عودة الفريق (صلاح عبد الله) مديرا عاما لجهاز الأمن والمخابرات الوطني المشهور (بصلاح قوش) والذي تشاءم البعض من عودته بأنها لصالح القبضة الأمنية المشددة كما ذهب آخرون إلي أن عودته ستكون لصالح الإنفراج السياسي مستشهدين بتجربته في مستشارية الأمن القومي وتواصله مع قوى المعارضة برؤية تصالحية وفاقية نأمل أن يكون الأمر كذلك مع علمنا بأن عودته جزء من الصراع بين النخبة الحاكمة حول السلطة ومراكز صناعة القرار.

ومن رجال في معتقلاتنا الأستاذ (زروق محجوب بسيوني) من الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل وصاحب فكرة عدم المشاركة في السلطة مع حزب المؤتمر الوطن ( يشاطره في ذلك المصرفي محمد أبو الحسن فرح رائد الحراك الأتحادي الموحد) وقد حدثنا الأستاذ (بسيوني) عن العهد الثاني للحزب الإتحادي الديمقراطي وأن37 من أصل 40 قياديا صوتوا لعدم المشاركة إلا أن دستور الحزب يمنح مولانا (محمد عثمان الميرعني) الحق في أن يتخذ ما يراه مناسبا لمصالح الوطن العليا حتى وإن خالف ما ذهبت اليه قيادة الحزب.

ومن رجال في معتقلاتنا المبدع الإنسان الفنان عبد اللطيف عبد الغني (وردي الصغير) معلم الرياضة صاحب الموسيقي العذبة والألحان الجزلة والذي أثرى ليالينا بأغنياته الرائعة من كلمات فنان الشعب الراحل المقيم العملاق الأستاذ (محجوب شريف) ثم شدا لنا بصوت رخيم بأغنيات للفنان الموسيقار (محمد وردي) مثل أغنية (الحزن القديم) , (بناديها) و(بشوف في شخصك أحلامي) وكذلك مشاركاته في حوارات كثيرة وكثيفة أجريناها عن الوطن ومستقبله وعن قضايا أقليمية ومحلية شائكة كانت محل إهتمامنا وإهتمام جيلنا مثل قضايا الهوية ومكافحة العنصرية وتفشيها وكيف نعيش في وطننا حياة حضارية مدنية آمنة مستقرة يحس فيها كل منا بتمام الرضا.

في معتقلاتنا رجال .. لكن كانوا أسودا ضواري صبروا على رهق العيش ورداءة الخدمة داخل المعتقل حيث الزحام في العنابر وطوابير الصفوف للحمام وقضاء الحاجة وتغير فرش الغرفة بين الحين والاخر لتصلح لإستخداماتنا المختلفة المتنوعة بين الرياضة والأكل والصلاة فنحن كنا أكثر من بضع وعشرون شخصا في مكان لا يصلح لإقامة أكثر من عشرة أشخاص بأي حال من الأحوال ولا تستطيع الحركة فيه دون أن تأذي الأخرين رغم عن ذلك صبرنا لأننا نعلم أن الحرية مهرها غال دماء ودموع وعنت ومشقة الي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا فالأيام دول ومن سره زمن ساءته أزمان.

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.