صور من الداخل الأمريكي (3) .. بقلم: التجاني عبد القادر حامد
قد لا أضيف جديدا إذا قلت لك إنه بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 قد ازداد اهتمام الجامعات بالإسلام كما ازدادت اعداد الطلاب الراغبين في الدراسات الإسلامية بأعداد غير معهودة. على أن غرضي هنا ليس اطلاعك على الاعداد وإنما قصدت الإشارة لنوعية الطالب الأمريكي، ولنوعية الأساتذة، وللطريقة التي تقدم بها المادة العلمية. ولا اعتمد في هذا الا على شيء من تجارب شخصية لمستها بنفسي من خلا تدريسي أو مخاطباتي العامة، أو من خلال استماعي لتجارب بعض الأساتذة والائمة الذين تكاثرت عليهم الدعوات للحديث عن الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر.
دعيت مرة من قبل البروفسور “أكبر أحمد” لتقديم محاضرة عن الإسلام لطلابه في الجامعة الأمريكية بواشنطن. كان ذلك بعد عام واحد أو عامين على حادثة سبتمبر. دخلت القاعة فاذا بها ما بين الثمانين الى المائة من الطلاب. قال لي البروفسور “أكبر” أن عدد الطلاب قديما لم يكن يتجاوز العشرين، أما الآن فقد تضاعفت الأعداد، وقد رأيت بالفعل الى جانبه اثنين من مساعدي التدريس يلازمانه في داخل الصف، يوزعان الأوراق، ويدونان الأسئلة، ويسجلان الحضور ونحو ذلك من الأمور الإدارية حتى يتفرغ الأستاذ تماما لعرض المادة العلمية. ألقى الأستاذ “أكبر” مقدمة جامعة قبل أن يقدمني للطلاب. فاتني أن أقول لك إن البرفسور “أكبر” أمريكي مسلم ينحدر من أصول باكستانية، وقد عمل سفيرا لبلاده ثم تفرغ للعمل الأكاديمي. شعرت وأنا أراقب أداءه بأن هناك فرقا بيني وبينه، ليس في العمر، فهو يكبرني ببضع سنوات لا غير، وليس في المعلومات، فما أعرفه من إسلاميات وسياسية لا يقل عن معارفه. الفرق بيننا يكمن في طريقة العرض والأداء. شعرت بأن له أسلوبا “مسرحيا” خاصا يشد الطلاب ويخلق جوا من الثقة والحميمية والمرح. (وقد أنتج الأستاذ أكبر فيما بعد عددا من الأفلام الوثائقية، وصار له جمهور عظيم حتى أنه أدرج في عام 2015 في قائمة الخمسمائة مسلم الأكثر تأثيرا في العالم). كنت في سابق مشاركاتي السياسية (إبان قيادتي لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم) أميل لهذا النمط من الخطاب الذي يجمع بين الجد والهزل، كأن اتوسل بنكتة أو حكاية محاولا أن أجعل المستمع يضحك مرة ويغضب مرة أخرى لأجد صلة شخصية بيني وبينه قبل أن أطلب منه أن يقدم تضحية جسيمة أو مواقف مكلفة. رأيت الأستاذ “أكبر” يفعل مثل هذا ولكن بطريقة مدروسة وبمهارة فائقة. ويعود ذلك، بتقديري، لمراعاته مزاج ونفسية الطلاب الأمريكيين، فهم يتوقعون من الأستاذ أن يقدم درسا “ممتعا” والا فلا شيء يجبرهم على اختيار مادته، خاصة وأنهم لا يدرسون “بالمجان” بل يدفعون من حر مالهم مقابل هذا المساقات، ويمكنهم أن يختاروا غيرها. على الأستاذ إذن أن يقدم “درسا ممتعا”، وأن يجمع بين المتعة والفائدة إن استطاع الى ذلك سبيلا. كلمة واحدة إذا قالها الطالب الأمريكي عنك فقد تودع منك، أنها كلمة boring أي أنك ممل وثقيل. أفسح لي الأستاذ أكبر المنصة فتحدثت من خلال نقاط أعددتها سابقا. كان حديثي هذه المرة أحسن مما قدمت في جامعة شاناندوة، ثم أُمطرت بعدئذ بعدد من الأسئلة أجبت على بعضها وأعرضت عن الآخر. الطلاب هنا لا يجلسون ويستمعون في هدوء، بل يتداخلون مع الأستاذ ويقاطعونه أحيانا ويتصرفون بنوع من الحرية والتلقائية التي عادة ما نصفها نحن في البلاد العربية “بقلة الأدب”. يقرأ أحدهم المادة قبل وقت المحاضرة، فاذا جاءها جاء للمناقشة والاستفهام وليس لمجرد الاستماع.
حرصت فيما بعد أن أتفادى التعرض لكلمة boring فأخذت أفكر طويلا في “الطريقة” التي كنت أسير عليها في التدريس وفى المخاطبة العامة. توصلت الى أن الاستغراق الكامل في “المادة العلمية” ليس بنافع، ليس لأن المعلومات غير مهمة ولكن لأنها قد صارت بفعل التقانة الحديثة متاحة للطلاب، يستطيع أحدهم أن ينقر بأصبعه على “غوغل” فيحصل على أضعاف ما تقدمه أنت. أدركت أن اهتمامي يجب أن يتجه الى “الطريقة” التي تقدم بها المادة، والى “الشخص” الذي تقدم له (student-oriented approach) والى “أدوات التفكير”. ثم خطر لي أن أراقب عن كثب خطوات بعض الأساتذة الكبار الذين سبقوني في هذا المجال وأصابوا نجاحا، كالأستاذ أكبر أحمد الذي أشرت اليه آنفا، والأستاذ على المزروعي والأستاذ سيد حسين نصر الذين ظلا يمدان “الجسور” بين الطلاب الأمريكيين والإسلام. وجدت لأي من هذين الأخيرين طريقته الخاصة في الالقاء والتأثير. بروفسور المزروعي (كيني الأصل) يذكرني بالبروفسور عبد الله الطيب رحمه الله؛ بساطة في المظهر وعمق في الفكر، وقدرة عجيبة في اقتناص الروابط connections بين الأفكار والأحداث والأشخاص. يبدأ محاضرته بفكرة بسيطة ثم يسوق الحديث بهدوء وثقة، وقلما يحرك يديه أو يهز رأسه، يتدرج في الحديث ويدب دبيبا كما يفعل الصياد، ثم يفاجئك بنتائج لم تكن متوقعة، وخلاصات لا عهد لك بها، ومقارنات تثير لديك الدهشة. إنه عالم بمذاهب السياسة والعلاقات الدولية وتاريخ أفريقيا وأوروبا، عالم معلم لا يشق له غبار ولا يمل له حديث. أما سيد حسين نصر (ايراني الأصل) فله نمط آخر في التواصل؛ فخامة في المظهر، وجزالة في اللغة، واعتداد كبير بالنفس، وإلمام شديد بأسماء الكتب التراثية والمؤلفين. يبدأ بالحديث عن المفكرين الأعلام، الفارابي وابن سينا وقطب الدين الشيرازي وابن مسكويه، فهو مولع بتاريخ العلوم عند المسلمين، يتحدث عن انجازاتهم في الرياضيات والطب والفلسفة والتصوف، ويذكر أسماء كتبهم الكبرىmagnum opus)، وقيمتها العلمية، ومخطوطاتها وترجماتها بطريقة تجعل المستمع يحس بضآلة معارفه وعظمة التراث العلمي عند المسلمين. على أنني أعتقد أن تأثير مثل هؤلاء الأساتذة لم يتعاظم بين طلاب الاسلاميات بسبب المحاضرات وحسب وإنما بسبب المادة العلمية المنشورة التي يوصون بها، سواء كانت من تأليفهم أو من مختاراتهم، إذ إن الطالب الأمريكي يقرأ كثيرا، ويقرأ سريعا. (وضعت ذات مرة في قائمة قراءاتي المطلوبة required readings أربعة عشر كتابا تقريبا. ولكنى رأيت، عند نهاية الفصل الدراسي، أن “أخفف” على طلابي، فأعلنت لهم أن أسئلة الامتحان ستكون في عدد قليل من تلك القراءات، وكنت أظن أن ذلك سينال قبولا لديهم (كما يحدث عندنا في العالم الاسلامي)، ولكنى فوجئت حينما اطلعت على استمارة “التقييم” عند نهاية الفصل الدراسي، أنى قد حصلت على تقدير سالب عند بعضهم بسبب ذلك!). (نواصل)