آخر الأخبار
The news is by your side.

صحائف الغريب – ٢ – بقلم: أميمة عبدالله

 

قل لي يا ياسين ، كيف يمكنني أن اكون وفيةً لتلك الأيام ، و
هل يلتقي الحب في الحلم والواقع معاً ؟

و أنا أنظر الآن لتلك الأيام، لذلك الماضي البعيد ، – قبل أن تنقلب حياتي بعد إلتحاقي بذلك المكتب لأكون في خدمة مديره وضيوفه – ، وأنا أتذكرها أشعر بالحمى من فرط شوقي لها وبالسعادة العظيمة كلما تذكرت أمين وهو يسألني العمل عندهم ، وبالدوار كلما تذكرت لقاءاتي مع ياسين، الإسم الذي سأظل وفيةً له ما حييت ، الرجل الذي لن يعرفه أحد مثلما عرفته .
في هذه الحياة تحدث لنا اموراً كثيرة ما نلبث أن ننساها وأشخاصاً كُثر نلتقيهم فيعبروننا كظلال ، واسماءاً تتسرب منا كما الرمال من بين الأصابع، وأحداثاً تسقط ما أن ينتهي زمانها ، وأياماً عشناها في كأبة وملل فلا نتذكرها ولا نحكي عنها .

لكن ياسين كان نجم الهداية ودليل الطريق طيلة العشرين عاماً التي رافقنا فيها بعضنا ، لا أدري كيف كانت ستكون حياتي إن لم التقِ ياسين ، من كان سيعلمني الحياة ويحكي لي عن البلاد الكبيرة وعن الأمطار الغزيرة التى تهطل طوال العام في جنوب البلاد وعن الغابات وأشجار المانجو، وعن الطرقات التي تحفها الخضرة من الجانبين ، وعن اُناسٍ لا يعرفون الثياب والغطاء ، من كان سيخبرني عن الطائرات المحلقة التي يهبط من بطنها الشجعان بمظلاتهم ، ياسين كان أحدهم ، من أولئك الشجعان الذين خاضوا أسفاراً وأنقذوا نساءاً وأطفال.

من كان سيحكي ليّ عن ليالي الحرب الطويلة و دفن الاصدقاء في مقابرٍ صارت مجهولة لا زوار ولا جوار .
وحده ياسين كان يمتلك مقدرة الحكي والحنين .

وجوه كثيرة بل كثيرة جدا عرفت أصحابها، عرفتهم وعرفوني ، أقتربوا وكانوا قريبين بحكم عملي في مكتبٍ محدود المساحة وترددهم كل عدة أشهر لقضاء معاملات مؤجلة . ثرثروا معي وسمعتهم ، أضحكوني بنوادرهم قصوا عليّ حكاياتهم و قرأت لهم حظ خطوط أيديهم، كانوا يعرفون أنني اختلق لهم الحظوظ والبشريات ، أوقاتاً
كانت للمزاح والقهوة والكعك ، وكما أن الروائح ترتبط عندنا بذاكرة لصيقة كذلك الأطعمة، فنحن نتذكر مذاقها لأننا تناولناها مع اشخاصاً أحببناهم حد الوله.

كذلك مذاق القهوة عندي صار لها مع الرائحة أسمُ وذاكرة ،
وأنا أقلب حبات البن ببطء لتنضج فاتشرّب رائحتها وأتنفس دخانها المتصاعد بكل حواسي ، تدخل عيوني بلونها الذي يشبه لون بشرتنا ويصير لها صوت أسمعه – عند تحريكها بالملعقة الخشبية حتى لا تحترق – هو صوت ياسين ، وكأنما حبات البن لها وجه وشفتين ، وكأنما الملعقة الخشبية هي يده تمسكني وتُطوفني
في كل الأمكنة التي وقف عندها وعاش فيها زمناً ، يحكي عنها وكيف أنها مع مرور السنوات تتغير طباعها يقول أن المجتمعات كما الإنسان لابد وأن تعيش أوقاتاً يسود فيها الظلم الظلام والإنكفاء والجهل لكنها لا تلبث أن تتغير بقائدٍ ملهم و أُناساً صادقين
– سترين يا سمرا أن مجتمعك هذا كيف سيتغير بعد عشرين سنة من الآن ، هذه البيوت ستتغير ، وسيدخل مدينتك غرباء كُثر لأن الوصول إليكم حينها سيكون سهلا
– هل سيذهب هذا الحر
يضحك ياسين ، لا أظنه يذهب
ومرت السنون ودخل مدينتنا الغرباء ، عابرين مسافرين لكنها لم تتغير ظلت البيوت كما هي و ظلننا نحن كما نحن لا أطفال يذهبون للمدارس ولا شباب يجعلون الطرقات حية بسهراتهم وصخبهم وظل الحر كما هو وسوق المدينة الصغير ، وحدي تغيرت لكنني لم أغادر المدينة بل صرت انا الغريبة وسط أهلها .

 

خرجت قبل الشروق مع أول خيط ضوء ، بالشارع حركة السماكة العائدين من البحر ، لم ألتفت ناحية أحدهم، كنت أسير بخطواتٍ واسعة ، أحاول الوصول في الوقت المناسب، تجاوزت السوق مع الشروق وبدأت اسأل عن المكان، من على البعد رأيته، عتيقا ككل المباني لكنه جميل بباحته الواسعة النظيفة، لا خضرة ولا زينة، سألت رجلا وجدته عند باب المدخل
– أين أمين
أشار إلى أحد الأبواب وقال
– ادخلي من هنا
ودخلت كانت صالة بها كراسي ومكتب صغير عليه شاب يشبه مدينتي، وهنالك عدة أبواب، خرج من أحدها عندما سمع صوتي اسأل عنه
– أهلا سمرا ، سمعت صوتك الجميل
مد لي يده مبتسما إبتسامة واسعة ، تعالي أدخلي من هنا
ودخلت معه ، كان الهواء بارداً والمكان مختلفاً ، أمين لا يشبهنا بهذا الإشراق الطال من عينيه .
قلت في نفسي ، اظن أن الأمر ليس سهلاً كما تخيلته ، وترددت وكدت أرجع عن قبولي وأترك المكان ، كان قلبي يتسارع من الخوف ، مما؟ ، لا أدري
وبحثت عن صوتي لأقول مع السلامة
لكن أمين قطع هذه الخواطر بحديثه ، كان ودوداً ، طمأنني
– لا زوار هنا يا سمرا يترددون ، فقط عملاء يأتون كل ستة أشهر، حتى أنا سارجع إلى الخرطوم
بعد ثلاثة ايامٍ فقط سافر أمين
وهكذا بدأت العمل في مكتب نظيف هؤاهه بارداً بفعل التكيف ، يمثل فرعاً من شركة كبيرة في الخرطوم
هل قلت أنني كنت لطيفة معهم؟
لقد كنت كذلك فعلاً على الرغم من أن الريس – وهو المسؤول الأول عن المكان – رجلاً متجهما على الدوام ، لا يتحدث كثيراً ، ربما لأن ليس له أولاد فقد كان عقيما و فوق ذلك كان بخده الأيسر تشوه صغير كأنما بقايا حريق .
وكنت كلما إبتسمت له ردّ عليّ إبتسامتي ، لكنني بأي حال كنت اصنع له القهوة بمحبة ، فأنا لا استطيع أن أكره الناس .
الرجل الآخر الذي كان يعمل معي في المكتب كان على النقيض تماماً ، رجل بسيط، ملابسه دائما قديمة باهتة ، له وجه طفل لكنه يتمتع بهيئة تبعث فيك الإطمئنان فوراً ، إسمه يباد ، في حدود الثلاثين من عمره ، عموما أنا لا أحسن تقدير الأعمار، يباد هذا قدم ليّ الكثير من الخدمات فقد كان المطبخ مكتظا بالأشياء التي لم أكن أعرف كيف أستخدمها ، لأنني لم أرها من قبل لا في بيتنا ولا في أي مكانٍ آخر، فأنا غير القهوة و صناعة الكعك لم أكن أعرف شيئا

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.