آخر الأخبار
The news is by your side.

صحائف الغريب (١) بقلم: أميمة عبدالله

البداية

الآن اتهيأ للكتابة بكل نزقٍ ونبض
مستعينةً بالله 
وفي قلبي حبك العظيم
سمرا

إنها منارة وإنه البحر ، هنا كانت حياتي ومازالت ، أشعر ببعض التعب ، لكن لا بأس ، فأنا كثيراً ما أشعر به ليس لتقدمٍ في العمر – لتوي اكملت الأربعين – بل لوجعٍ في القلب عميق ، أحس وكأني أحمل قلب امرأة في السبعين من عمرها عاشت سنين استعمار بلادها و شهدت استقلاله أو ربما امرأة آتت في غير أوانها، على أي حال بعض القلوب خُلقت لتكون هكذا على حزنٍ مستتر ، تعيش بلادها قبل حياتها ، وتؤاسي الجميع قبل ذاتها ، قلوب عليها عبء الزمان ، لا تحاول إدعاء النبل بل تحاول أن تعيش الحياة ، لا تعمل على انتزاع الحب من الآخرين بل تخطو نحوهم بكل صدق ، قلوبُ لا تخون الحب ولا تكتفي بالإنصات لصوت الريح 
هذه المدينة الصغيرة القديمة 
الهادئة حد الملل
– لولاك أنت يا بحر لما احتملتها ، أنفاسها تراب موحش ، ليس فيها ما يبهج ، مدينة الحر والفقر والعبوس ، لا أطفال يمرحون في طرقاتها الضيقة ولا شباب يمنحون المكان الحياة ولا وجوه نضرة ، كل من وجد منهم سبيلاً لهجرتها تركها ، فصارت مكانا مثالياً للعجائز من الرجال والنساء الساخطون على الدوام ،
بكل ذلك الروتين والملل والكآبة تمضي حياتنا ، لا نعرف اليوم ولا التاريخ وكأن الأمر لا يعنينا ، الأيام تتشابه والناس والأكل والبيوت ، كل شئ يشبه القِدم وكل شئ بطئ. 
أراقب شروق شمسها من بين قمم الجبال البعيدة كل صباح ، كأن هذا الشروق والإشراق ليّ أنا من دون العالمين، يجددني ويمسح عني تراب الكآبة التي يخلفها بؤس المدينة ، تملاء أشعتها قلبي ، تفيض حرارتها بعد حين فتغرق المدينة والبحر معها ويتذمر الناس لأنها تحيل شوارعهم إلى مرجلٍ يغلي ، وعندما تكون المدينة محاصرة بالحر والبحر المالح و الوجوه الشاحبة يهرب منها الناس ما استطاعوا ، فلا الهواء رطب ولا الماء عذب ولا الحياة رخية ، القليل منهم يبقى ، يضطرهم ضيق الحال والأفق ويجبرهم قلة المال وضعف الحيلة ، مثل أبي تماما ، فهو يشبه المدينة كما الكثير من الرجال في الكآبة والبؤس والفقر والقِدم والجلد المصبوغ بالتراب لذلك النسل هنا شحيح فلا رغبة إمتاع ولا إشتهاء أُنس ولا قلوب تخفق بالحب 
تكاد الشوارع تكون خالية حتى أنك تسأل نفسك أين الناس ؟
في شهور الحر تصعب الأوقات وتمضي بطيئة حتى تظن أن النهار ثابت والشمس لا تدور والمغيب لن يأتي وسطح البحر سيظل مرآةً صافيةً للسماء ، تحتمي القطط بظل الحائط وتسكن العنزات .
أسكنها ولا أسكنها ، أعيش فيها ولا أحيا، تحلق بي أحلامي إلى أمكنة بعيدة ودنيا أخرى وأرض مختلفة ، يتحول فيها عذاب فراغ حياتي إلى أحداث وهذا الصمت المطبق إلى ضجيج وأبواق سيارات وصراخ أطفال ونداءات باعة وأسواق صاخبة وبيوت حية ، الأفراح و المآتم هي التي تجعل البيوت حية والنساء الجميلات يجعلن الحياة أجمل ، أتطلع إلى مصافحة نساء جميلات كتلك المرأة التي علمتني صناعة الكعك المحلى بالسكر .
أحلام فتاة في التاسعة عشر من عمرها ، لها عينان واسعتان وفم رقيق وأنف حاد وخيال محلق 
وصوت جميل لكنها لا تُحسن الغناء ولا تعرف القرآن ولا تقرأه لذلك روحها كئيبة وحركتها قلقة ، فالنفس تسعد بالله والروح تسكن بالقرآن
وكأن حرارة المدينة لا تكفيها فتزيد عليها روحها باليأس 
– لا أفعل كما تفعل البنات ، لا أجتمع معهن ولا أذهب إلى سوق المدينة الصغير ولا اطلب شيئاً مما تجلبه الدلاليات في البيوت ولا صديقات ليّ وفوق ذلك تركت المدرسة باكراً 
تحتار أمي ما تفعل مع وحيدتها، قالت كل الكلام الذي تعرف وأخيراً سكتت ولم تعد تسألني
، لكن قلبها كان حزيناً فلا خاطب جاءني ولا عجوز ارادني لأخدمه ولا جرى إسمي على لسان الخاطبات، لكن الأمور قطعا تسير ما شاءالله لها ذلك إلى أن يأتي المنعطف ،حينها تتبدل الأشياء ، فالحياة تسير وفق ما نريد أحيانا 
لأننا نسعى وتلك كانت ثقتي ، والأقدار تأتينا عندما نجتهد متوكلين 
لم تكن أوقاتي كلها تذهب في الأحلام والتذمر من الحر ، أحيانا كنت أبيع القهوة للصيادين
– فأنا ماهرة جدا في صناعتها- 
كنت مع القهوة أبيع الكعك المحلى بالعسل ، علمتني صناعته امرأة عابرة مسافرة زارت مدينتنا من أجل السياحة في التاريخ ، نسيت أن أقول أن مدينتي وجهة ممتازة لمن أراد تصفح التاريخ البعيد، زيارتها كانت قبل عدة أعوام، أعجبها طول شعري وسواده ، كانت تلمسه بمحبة ولطف لم أرى مثلهما إلا عند ياسين ، كما أنها أحبت القهوة التي أبتاعتها مني ، صادفتها عدة مرات ، وكانت في كل مرة تشتري مني ، في أحد المرات طلبت أن أجلس معها قليلاً ، وضعت صينية القهوة وجلست أرضاً في مواجهتها ، في تلك الجلسة علمتني صناعة الكعك المحلى
– حتى تميزي قهوتك عن البقية بيعي معها كعكا 
– وكيف أصنعه يا عمتي
– بالدقيق و الخميرة والقليل من السكر والسمسم
– لا يوجد عندنا سمسم 
– ضعي بدلاً عنه الكمون 
علمتني أيضا كيف امشط شعري في ضفائر لأبدو أجمل 
-لو تعلم أنني لا ابحث عن ذلك مطلقا –
– لكنكِ نحيفة يا بنتي كُلي اكثر 
كنت أبيع الكعك المحلى لعمال المراكب و زوار المطاعم بسعر زهيد ، أصبح الجميع يعرفونني ويتبادلون معي التحايا وصاروا ينادونني
سمرا بت الكعك وكنت ابتسم لهم – فأنا أحب الإبتسام – رغم كثافة العرق ورائحته النفاذة 
كنت كلما ابتسمت لأحدهم أشعر أن هنالك حظاً ما أو شيئاً ما جميلاً ينتظرني فيملأني التفاؤل فوراً وبذلك كنت أكافح الكآبة 
مع الأيام صار الجميع يحبون الكعك بل وأكثر من ذلك صار متعة العمال و حديث عجائز السوق الصغير و صارت أمي سعيدة بالكعك ، كانت تلك المرأة أول خطواتي نحو الحياة وبقية الخطوات أكملها ياسين
بدأ ذلك في أحد النهارات التي تشوي حرارتها سمك البحر ، كأنت الوجوه عابسة فلم يشتري مني احد ، جمعت ما عندي واودعته الكشك الوحيد المطلّ على بيوتنا ، سمعت أحدهم يحييني بلكنة غريبة ، سألني قبل أن ارد له سلامه
– هل تعملين في هذا الكشك
هززت رأسي علامة النفي
– قالوا أنكِ تصنعين قهوة جميلة 
مد لي يده مصافحاً
– أنا آمين، شركتنا افتتحت فرعا هنا عندكم ، هل يمكن أن تعملي عندنا
– وماذا أعمل 
– تخدمين المدير وتصنعين القهوة والشاي للضيوف 
سألني اين أسكن 
قلت هنا بيتنا خلف الكشك
– للأسف المكان في الطرف الآخر من المدينة 
– ليس بعيداً يمكنني أن أمشي 
س امنحكِ خمسمائة جنيه نهاية كل شهر
سألته 
– هل هذا المبلغ كبير؟
ضحك 
– بل هو كبير جداً
لم أكن أعرف تقدير المال خبرتي لا تتعدى العشرة جنيهات ، لست وحدي كل من أعرفهم لا يعرفون المال ولا يحبونه 
– ما اسمك؟
– سمرا
– أسم رائع ، حسنا غدا تزوريننا يا سمرا
ودعني ومضى في طريقة ، كان حذاءه نظيفا ويحمل في يدة منديل أبيض ووجهه مشرقا بلا ذقن
هكذا تتغير الحيوات ، وهكذا ترفعك الأقدار عالياً حد السماء، تمنح قلبك كمالا لم يكن يشعره من قبل، يتغير مسار الدفة و يصير الشغف سلاما
تلك كانت صدفة أمين

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.