آخر الأخبار
The news is by your side.

شهادة إبداعية… بقلم: د. طالب الرفاعي – الكويت

جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي

أعشق العربات الصغيرة. أشعر بها تلمّني والمكان في الداخل والخارج. لكن، كيف بك أن تضع حمولة قطار جرار في عربة صغيرة. والأمر ذاته؛ كيف بك أن تفرش أيام عمرك على بساط لحظات، أو تنثر صخب محطات حياتك بين جدران صالة تعج بحضور ينظر بحب واحترام إليك؟
القراءة كانت الطُعم، حدائق القراءات كانت بوابة بستان الكتابة.. تربيت في بيت صغير ليس للكتاب حضور كثير فيه سوى القرآن الكريم، الذي لا يفارق يد أبي، والكتاب المدرسي البسيط الذي يعلّم التلميذ رسم الحرف، وقراءة الكلمة. فمدارسُنا العربية تُعلم القراءة والكتابة ولا تعلم التفكير، ولا تأخذ بيد طلابها لتدلّهم على طريق المعرفة، إلا في الندر النادر.
بدأتُ حياتي مع القراءة في عمر الثانية عشرة، يوم قرأت أول رواية في حياتي وكانت رواية “الأم” للكاتب الروسي “مكسيم غوركي-Maxim Gorky” ترجمة سامي الدروبي، عن دار التقدم في موسكو. مع هذه الرواية اكتشفتُ أن هناك حياةً غير عيش أهلي وبيتي ولعبي مع أقراني وساحل البحر الذي أرى كل يوم في منطقة “شرق”. مع هذه الرواية عرفتُ أن للإنسان أن يحلم بطريقتين؛ يحلم مستسلماً أثناء نومه، ويحلم واعياً أثناء قراءاته. وهو إذ ينسى حلمه لحظة يقظته، أو يتذكره بشكل متقطع، وقد تتداخل أو تختلط الرؤى عليه فلا يجد معنى لحلمه. فإنه مع القراءة يستطيع أن يحلم واعياً، وأن يقف أمام مفردات حلمه، وأن يدوّن ما يشاء كي يرسم رحلته في درب حياته.
مع هذه الرواية تيقنت بوعي طفل يكتشف ببطء وطيبة وعفوية ما يحيط به من بشرٍ وحجر. اكتشفتُ فيما يشبه النظر إلى لوحة مرسومة بالأبيض والأسود، أن في الحياة دربين؛ الأول تمشيه راجلاً إلى جانب الآخر، والثاني تأخذك إبداعاته الملونة إلى متاهات روحك مختلطة بأرواح البشر.
أخذتني رحلة عشق القراءةِ وخلال مشوار قراءاتي كنت قريباً من مجموعة من الأصدقاء من بينهم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، والأديبة ليلى العثمان والقاص والناقد الدكتور سليمان الشطي، والكاتب وليد الرجيب، في ذاك الوقت كانت الصحافة الكويتية تحوي بين صفحاتها مقالات فكرية وزوايا رأي وملاحق ثقافية وفنية لمختلف أطياف الفكر العربي، ولأسماء مهمة لها وزنها المعروف على ساحة الفكر والإبداع. وكل ذلك جرى تحت سقف حرية عالٍ، ومؤكد أنه لم يكن يتوفر في دول عربية كثيرة. وقتها كنتُ كمن يراقب ساحل بحر. تدغدغه وتلعب به متعة السباحة الموعودة، ويردّه اتساع البحر بزرقته المتقلبة وأمواجه الصاخبة ومخلوقاته المختفية.. كنتُ ولم أزل أخاف الكتابة، وأكثر منها أخاف النشر. الكلمة ملك لك، وما أن تُنشر في أي مكان حتى تصبح حجة عليك، ويصبح عليك أن تدفع أثمان باهظة لتفاسير القراء لها.
ومع نشر أول قصة قصيرة لي، وضعت رجلي على درب وعر، خباياه أكثر من ظواهره، ينتظرني على جانبيه قراء محبين، ويتربص بي أعداء النجاح. وحينها لاح لي كم هو مهلك أن تكون كاتباً يريد محاكاة الحياة، في بساطتها المرهفة وتعقيدها الكبير، فأي كتابة ومهما عظمت تعجز عن مجاراة نضارة وضجيج وعوالم اللحظة الإنسانية العابرة. وكم هو صعبٌ أن ترغب وتحلم بكتابة قصة قصيرة أو رواية تشبه الحياة، لكنها أكثر شجاعة وأكثر بوحاً وأكثر قدرة على مصافحة البشر أينما كانوا، وأخيراً أكثر قدرة على العيش أطول من عمرك وزمنك!
بدأتُ مشوار كتاباتي الإبداعية بفن القصة القصيرة، وكنتُ ولم أزل عاشقاً متيماً بفن القصة القصيرة، ومؤمناً بأن كتابة القصة القصيرة واحدة من أصعب كتابات الأجناس الأدبية إن لم تكن الأصعب على الإطلاق. كتبتُ وأكتب القصة القصيرة مأخوذاً باصطياد لحظة عابرة وتسميرها على مشجب الوقت لتبقى طازجة، وتبقى قادرة على إيصال رسالتها. فلقد درستُ ووعيت “ضرورة الفن الاجتماعية”، وحين أكتب أحاول جاهداً أن يكون لكل كلمة ضرورة دسها في الجملة والسطر، ولكل علامة ترقيم معناها، وأن للكتابة هدفاً سامياً ورسالةً كبرى، وأن كل نصٍ خلا من محاكاة القارئ برسالة بات لنفسِ كاتبه وليس للقارئ. فالقارئ شريك حاضر في كل نص، وبالنسبة لي لا يكتمل أي نصٍ إلا بالقراءة. ولقد كتبت ما كتبت لأكون صوتاً لمن لا صوت لهم. صوت يزيح اللثام عن الأذى والظلم الذي ينال الإنسان، أي إنسان. ولقد ركّزت على القضايا الاجتماعية المتفاعلة في وطني، وكذلك أوجاع وانكسارات وآلام المرأة. ربما لتعلقي بأمي ومن ثم زوجتي وابنتيّ، وربما لأنني عايشت وأعايش الظلم والقهر الذي تعانيه المرأة في جميع مراحل حياتها، وأينما كانت، شرق أو غرب. وربما لأني عاشق للمرأة، وأرى فيها الوجه الأجمل من الحياة، بوصفها مانحة الحياة، وشجرة خضراء دائمة الظلال. كما أنني كتبت وأكتب عن العمالة الوافدة في بلدي، العربية والأجنبية بوصفهم يشكّلون نصف المجتمع، وبحكم تأثيرهم في كل أسرة ومؤسسة حكومية أو أهلية. وأخيراً لي سبع مجاميع قصصية ومئات القصص هنا وهناك، وأكثر منها في رأسي وقلبي.
في العام 1995م انتقلتُ لكتابة الرواية، ولم يكن ذلك لشيء إلا لأني كتبت عملاً أدبياً ضاق به ثوب جنس القصة القصيرة بأصولها الفنية، وكان لزاماً عليَّ أن انتقل لفن الرواية. لهذا السبب ولدت روايتي الأولى “ظل الشمس” التي نُشِرت طبعتها الأولى عام 1998.. مع الرواية استشعرتُ عشرة مختلفة عن لقاء القصة القصيرة. كتابة القصة لقاء عابر يترك عطراً في قلبك، وكتابة الرواية سفرٌ مع أصدقاء لغابة معرّشة. كتابة الرواية تُجبر صاحبها على القراءة في دفتر الحياة. لذا فحين أكتب أي رواية، أكتبها بحضوري الشخصي الصريح بها، وهذا يعني فيما يعني أنني أكتب بعضها ويكتبني بعضها الآخر. وتصبح الكتابة مغامرة غير مأمونة حين يتصدى كاتب عربي لكتابة رواية وفق مدرسة “التخييل الذاتي-Autofiction” حين يتصدى كاتب لكتابة جزء من سيرته الذاتية الحقيقية وما يحيط به فإنه إنما يسير في حقل ألغام. لكل منا الحق في أن يكتب عن ذاته، ولكن منْ ذاك الذي يمنح الكاتب الحق بالكتابة عن الآخر، وفضح الآخر الذي شاركه فعل الحياة والعيش. فلو أني كتبت صراحة اسم فتاة أحببتها والتقيت بها، فإن ذلك قد يجرُّ الأذى والويل عليها، فما بالك حين تكتب عن مؤسسة يمكنها أن تسحقك! صحيحٌ إن هذا أخافني، لكنه أبداً ما منعني من خوض المغامرة وتحمّل المخاطرة التي ترتبت عليها. وواضح هذا في رواياتي
صعبٌ أن تقصَّ حكايات درب عمرك في لحظات، وأصعب منه أن تقول كل شيء. لكن اللحظة لا تحتمل إلا ما يقوله الراوي فيها. وأنا ضحّيت بالكثير الكثير، وتركت الكثير الكثير، وتعذبت الكثير الكثير، وتألمت الكثير الكثير، كل هذا كي أعمل راوياً فأشعر بوجودي في لحظتي الحاضرة، وعيشي بعد مماتي!

Loading

شارك على
أكتب تعليقك هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.